عشرة ايام .......في ضواحي روما
بقلم : ياسين الناشئ
العودة الى صفحة المقالات

نبهني صوت ربان الطائرة وهو يطلب من الركاب "شدوا احزمتكم، سنهبط بعد قليل في مطار روما" ثلاث ساعات ونصف الساعة، كنت اطفوا فوق الغيوم واسرح بفكري إلى كل اتجاهات الزمن.. بعد الإجراءات اقلنا باص إلى (فيلترى) منتجع يقع على بعد أربعين كيلو متراً من العاصمة روما. الطريق كانت تحطيه من الجانبين اشجار ضخمة وخضرة متصلة.. ومع انحدار الأرض إلى الأسفل تتراءى بحيرة تشدك إلى جمالها.. وعلى ضفتيها عشرات المساكن تغفوا بين روابيها الخضر وقف الباص في المكان المخصص لنا والذي سنبقى فيه طوال عشرة أيام. وقفت احمل حقيبتي مبهوراً من جمال المكان كيف أستطيع أن اكتب عنه حتى أوفيه حقه؟ انه محيط السحر، وفتنة الناظر.. وأغاني الرعاة وهو كما صوره الموسيقار الإيطالي (فيغالدي) في كونشرتو الفصول الأربعة... الغيلات بسقوفها القرميدية تنتشر على أرجاء الحدائق المشعة بالاخضرار.. وتتسامق أشجار الصنوبر والدلب العملاقة وهي تضم في اتساعها تأريخ السنين منذ غرسها الأول.. وأمام عريها وهول حجمها تقف مندهشاً.. إنها بداية الربيع فالأشجار لا تزال براعمها الوليدة.. كل شيء كان مهيئاً لنا نحن المشاركون في مؤتمر التضامن لمنظمات المجتمع المدني العراقي.. العدد كان يربوا على الأربعين من جنسيات مختلفة. النسبة كبيرة من المشاركين كانت للوفد العراقي. في  قاعة الطعام كنا نتحلق حول الموائد أشخاصاً من بلدان مختلفة.. وعلى هامش المؤتمر كانت هناك لقاءات عديدة مع وفود الدول الأخرى.. الحديث في معظمه كان يدور حول حاضر ومستقبل العراق. استولت الطبيعة هنا على مشاعري وروحي. كنت أتحين الفرص لأتجول وحيداً متحداً مع مفاتن مناظرها وتحت رذاذ مطر خفيف، كنت مرة اجلس على مصطبة وسط بهاء الاخضرار.. عبر حافة الغيوم المحتشدة رأيت قرص الشمس يبزغ متوهجاً ثم ينخفض ابتسمت وأنا انفث دخان سيكارتي.. تسلق نظري امتداد الأشجار إلى الأعلى.. هل تتذكر هذه الأشجار مأساة الشعب الإيطالي؟ إبان ايام الجحيم الفاشي وديكتاتورية (الدوتشي) التي هرست الشعب الإيطالي أيام الحرب العالمية الثانية لقد عاش شعبنا العراقي أيضاً المحنة زمن نازية وفاشية النظام السابق.. رأيت (ريتا) القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية يرافقها الأستاذ عصام من فلسطين واحد المحاضرين في المؤتمر.. جلسا بجانبي.. بعد حديث قصير سألتني (ريتا) فجأة!! من أين أنت يا أستاذ؟!! استفزني سؤالها.. اخرجت ورقة، وتحت نشوة الكون الحالم رحت اكتب.. ولما انتهيت قلت للأستاذ عصام أن يترجم لها ما كتبت... أنا من كل مكان في العراق من خفقات سعف في الجنوب من احتدام صوت النوارس والهبوب أنا من صخرة نبتت على أرجائها زهو الطيوب أنا من شرق تخضب بالدماء وبالدموع ومن ومضات حب قد سرت وقت الغروب فتحت عينيها دهشة وقالت. انت شاعر؟ قلت كلا، لكنني اكتب الشعر كلما: تساكب غيث او هماً، او نما عشب.. أو أيقظني همس البراعم في الأعالي. وقطعت حديثنا زخة مطر أجبرتنا على الافتراق مساء ليلة الحادية والثلاثين من آذار.. دعينا للمشاركة في حفلة بعد العشاء في قاعة المحاضرات.. وقد أحيت الحفلة فرقة عربية استدعيت من روما.. وكانت اللحظات مناسبة لنا نحن الشيوعيون المشاركون في المؤتمر. ومع نشوة الفرح والنبيذ المعتق.. انطلقت ألاغاني العراقية وأناشيد الحزب.. كي تعلن احتفالنا بالعيد الماسي لحزبنا الشيوعي.. وبودلت  التهاني والقبل الرفاقية ونحن نرقص وسط الصالة يشاركنا الجميع هازجين لحزبنا وشعبنا وعراقنا الحبيب. في الجولة الحرة، نقلنا الباص إلى مركز العاصمة روما والى الفاتيكان.. في حضرة الكولزيوم وبهاء هيكله.. شممت روائح دماء المقاتلين والعبيد في ساحته.. كان القيصر يلتذ بمرأى الدماء المتفجرة والأشلاء المتناثرة. لم يكن الكولزيوم من المناظر الجميلة فضخامته تنم عما في الطبيعة الرومانية من خشونة. ستبقى الخطايا محفورة على الجدران، البنايات الحديثة ترتفع في كل الأنحاء.. لكن الدهشة تأخذك وأنت ترى الحيطان المتآكلة القديمة تأخذ مكانها شامخة بماضيها إلى جنب الحضارة الجديدة، كل جدار أو حجر من الماضي قد وضع حوله دعامات لحمايته، وتضاء بأنوار ليلية فتشكل دهشة للزائر.. مظاهر تعلن تقديس الإيطاليين كل ما هو قديم، تحدث عنها في زمن غابر (يلني) الأكبر (ليس على ظهر الأرض، وتحت قبة السماء بلاد تماثلها في جمالها وروعة مناظرها) وانشد لها (فرجيل) الشاعر: (هنا الربيع الدائم، والصيف حتى في غير اشهره.. هنا تلد الأنعام مرتين في العام، وتثمر الأشجار مرتين) وفي الفاتيكان رأينا ما أبدعه فنانو عصر النهضة من رسوم وتماثيل ستبقى خالدة مدى ألازمان. وتبقى روما، رائحة حلم الحاضرة القديمة حلم يمتد إلى أكثر من عشرين قرناً. في اليوم الأخير.. نقلنا قطار الضواحي إلى المطار.. سنعود يا بغداد.. أقلعت الطائرة انخفضت عيني.. تراءة لي الحضارة القديمة تصورت الإنسان في ماضيه وحاضره الحضارة بكل بهائها تشمخ وهي تتحدى المسافات للسفر رومانسية ستدوم مع ألازمان.. إن الذي يبقى هو انسفنا.. علينا أن نظل معها مسافرين بلا نهاية.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 23-06-2009     عدد القراء :  2693       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced