مؤسسات المجتمع المدني أفضل الحلول لمجتمع عراقي خال من العنف
بقلم : صلاح حسن *
العودة الى صفحة المقالات

تتعرض الحياة الثقافية العراقية بين فترة وفترة إلى الخنق والتفتيت بفعل عوامل كثيرة ، منها ما هو داخلي وما هو خارجي . لكن العوامل الداخلية هي الأكثر تأثيراً لظروف عديدة أصبحت بمرور الوقت جزءا من هذه الثقافة ، برغم إن هذه المؤثرات ليست كلها من طبيعة المجتمع العراقي . ولو أتيح للحياة الثقافية العراقية إن تتطور بعد رحيل المستعمر البريطاني  من دون هذه الظروف والمؤثرات لكان العراق والمجتمع العراقي برمته شيئا مختلفا تماما عما هو عليه ألان ولما حصل كل الذي حصل .
في المجتمعات التقليدية مثل مجتمعاتنا العربية تتوزع السلطة بين ثلاثة قادة هم الجنرالات ورجال الدين والمثقفون . إذا استولى رجل الدين على السلطة فأنه سيجعل من « المقدس والغيبي « الدستور الذي يسير على هديه المجتمع بغض النظر عن الأهداف والطموحات التي يسعى إلى تحقيقها ، وكل من يعترض على ذلك يستبعد من هذا المجتمع عن طريق تكفيره وبالتالي معاقبته وطرده لأنه لا يؤمن بالحقيقة المطلقة . الجنرال يفعل ذلك أيضا حينما ينفرد بالسلطة ويعسكر المجتمع ثم يخوض حروباً عبثية ويتحول في النهاية إلى ديكتاتور يتساوى الجميع تحت حذائه.
أما المثقف العربي فلم تتح له ولو فرصة ضئيلة ليمارس نشاطه كقائد ( لا استطيع إن أتذكر أي مثال في هذا المجال مهما كان صغيرا ) وبالتالي لا يمكن الحكم عن دوره في صياغة المجتمع المفترض برغم الحقيقة التي يعرفها الجميع عن دور المثقف في صنع المجتمع الواعي والمسالم والتجربة الغربية خير مثال على ذلك  . حدث هذا كله في العراق ، فقد استولى الجنرالات على السلطة بعد الاستقلال عن طريق الانقلابات العسكرية الدموية ولم يتخلوا عنها كما رأينا إلا بفعل عنيف مثل الحرب والاحتلال الذي  اشعل الحرب الأهلية . الثقافة العراقية تخنق الان من جديد ويصار إلى تفتيتها بعد استيلاء رجال الدين على الشارع العراقي بالفعل أم بالقوة أو عن طريق الاحتلال كمؤثر خارجي .
من دون مجتمع مدني ودستور دائم وطبقة وسطى ترعى الحلم الثقافي والاجتماعي لا يمكن لأي مجتمع إن يجتاز عتبة التخلف ، وفي حالة العراق الذي تحول إلى حقل اختبار لمدة طويلة من قبل الجنرالات ورجال الدين والمحتلين تبدو المسألة مختلفة وملتبسة بعض الشيء . فبرغم كل هذه الظروف مازالت الثقافة العراقية حية لكنها مخنوقة ومفتتة ومتشظية لأنها  صنيعة أفراد وليست صنيعة مؤسسات ، صنيعة مجموعات صغيرة وليست نتاجاً جماعياً يتراكم بفعل الإضافات والتجديد الناجم عن حركة المجتمع وتفاعله وتطوره . فالمؤسسات الثقافية والاجتماعية العراقية إن وجدت فهي مملوكة للدولة والعاملون في هذه المؤسسات هم موظفون لا أكثر يقومون بما تطلبه الدولة منهم من أعمال إلى درجة تهميشهم وإلغاء دورهم بالكامل . بالمقابل لم تسمح السلطة بالموافقة على إقامة جمعيات أهلية ثقافية أو اجتماعية أو حتى رياضية مهما كانت صغيرة بحيث احتكرت كل الأنشطة إلى درجة تعطلت فيها الحياة بكل جوانبها .
لم ينشأ لدينا مجتمع مدني في العراق لان العراق بلا دستور دائم ولان الطبقة الوسطى التي بدأت تنمو في منتصف الأربعينات تم القضاء عليها وسحقها هي والأحزاب السياسية التي كانت قائمة آنذاك في بداية الستينات ، وبالتحديد بعد صعود حزب البعث الفاشي القومي إلى سدة الحكم بقادته الجنرالات القادمين من القرى والمناطق الصحراوية . فقد قام صدام حسين البدوي السايكوباثي بنقل التقاليد والعادات والقيم البدوية إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها ، وبفعل ذلك تحولت هذه المؤسسات من منظومات مجتمعية قائمة على التبادل والمشاركة والإضافات النوعية إلى تجمعات عشائرية ومناطقية تحكمها روح القبيلة . وبمرور الوقت تحولت الدولة على يد الدكتاتور إلى إقطاعية يعبث بها أتباعه القادمون من الثقافة الصحراوية ذاتها ، حيث أقصيت القوى الثقافية والاجتماعية الأخرى من هذه المؤسسات التي تحولت بشكل كامل إلى معسكرات ومنظمات حزبية .
وبعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية انتهت فعليا كل مظاهر المجتمع المدني العراقي الناشئ ، حيث زج صدام حسين الجميع في المحرقة ورفع شعار « كل شيء من اجل المعركة « . ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف الحرب حتى الان ، إلا أنها اتخذت بعداً وشكلا آخر البعض يسميها حرب التحرير والبعض الآخر يسميها حرب الاحتلال . لكن الشيء الوحيد المؤكد من كل ذلك أنها قضت على كل فرصة للتغيير الديمقراطي في العراق . فقد أطيح بالدكتاتور الذي كان يمسك بكل شيء في البلد ولكن جيء بآخر أسوأ كثيراً يمسك بيده الآن الدين والدنيا والحقيقة المطلقة .
لقد انتقل العراق ألان من ثقافة العسكرتاريا والحزب الواحد  التي مسخت شخصية المواطن العراقي وزيفت المدن الكبرى وهجرت ملايين الناس إلى ثقافة الغيب وحزب الله التي أشاعت ثقافة العنف وتمزق الهوية والحرب الأهلية . وهكذا لن يتاح للقوى الاجتماعية والثقافية أية فرصة للمشاركة من اجل إعادة العراق إلى الحاضنة الحضارية . لن تكون هناك اية فرصة للقوى العلمانية والليبرالية بل إن المحزن أكثر هو إن سلطة العشيرة بدأ نفوذها بالتعاظم وباتت تؤثر في السياسة والانتخابات وقد تقوم بلعب دور كبير في حالة إقرار قانون الأقاليم قد يكون من شأنه تقسيم العراق إلى دويلات تابعة لدول الجوار .
نسمع اليوم إن الكثير من الناس في العراق يترحمون على أيام الديكتاتور لأنه في الأقل كما يقولون كان يوفر لهم الأمن المفقود هذه الأيام . لكن هؤلاء الناس المساكين مخطئون كثيرا لان ما كان يقوم به الديكتاتور هو العكس تماما فكلنا يتذكر ظاهرة « أبو طبر « التي ظهرت في سبعينات القرن المنصرم وأشاعت الرعب بين الناس لسنوات طويلة حيث تبين فيما بعد أنها من أفكار الديكتاتور الساقط عندما كان نائباً للرئيس . هذا أولا ، أما ثانيا فأن الديكتاتوريات برغم أنها تخلق مجتمعات مشوهة إلا إنها ومن دون إرادة منها تخلق أيضا مجتمعات مسالمة لان هذه المجتمعات تخضع للقسوة والتهميش بشكل متساو من قبل هذه الديكتاتوريات . لذلك يسود بين الناس تضامن سلمي غير معلن .
أولا - لابد من إعادة الثقة إلى المواطن العراقي وتعويضه عن سنوات النار والقهر والحرمان والتهميش التي مورست ضده . إن إعادة الاعتبار لهؤلاء الناس تشعرهم إنهم مازالوا مواطنين صالحين وان المجتمع يحتاج إلى مشاركتهم وعطائهم .
ثانيا - هناك أجيال ولدت تحت سيف الديكتاتور وتشبعت بأفكاره المريضة تتراوح أعمارها بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين تحتاج إلى إعادة تأهيلها بصورة مركزة ودمجها بالمجتمع من جديد لأنها تمثل القوة الحقيقية في العراق الان وهي مستهدفة من قبل قوى كثيرة لا تريد الاستقرار للعراق . إن توفير فرص العمل لهذه الشريحة من المجتمع يحقق أكثر من هدف اجتماعي وتربوي لان ذلك يقلل من العنف بينهم ويقدم لهم مستقبلا اقتصاديا كبيراً يدفعهم لحب الحياة والعمل المشترك.
ثالثا - تسهيل عودة العقول المهاجرة والمثقفين الذين فروا بسبب الحروب والعنف الطائفي وتوفير كل مستلزمات العيش الكريم لهم فهؤلاء يقع عليهم العبء الأكبر في إعادة البنية التحتية للبلد المحطم .
رابعا – إرسال بعثات طلابية مكثفة إلى الجامعات الأوروبية من اجل تخريج دفعات جديدة من الأساتذة الشباب لاستيعاب التطور العلمي الهائل الذي يحصل في العالم المتقدم .
رابعا - الضغط على الحكومات المقبلة والبرلمان من اجل سن دستور حضاري يؤمن بالديمقراطية والتعددية والحرية وحرية المرأة وحقوق الطفل بشكل أساسي ويجعل القضاء مستقلا والصحافة حرة . حين تتوفر هذه المبادئ يمكننا إن نشرع ببناء مؤسسات المجتمع المدني على وفق أسس وضوابط إنسانية حضارية تستجيب لشروط الحداثة ومقتضياتها .

* شاعر عراقي مقيم في هولندا

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 14-05-2013     عدد القراء :  1420       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced