أربعاء الرماد .. أربعاء الأمل !
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

تحت نصب الحرية انطلقت بالونات المحتجين، محلقة في لوحة للسلم والحرية، وأنشد الأطفال للوطن، وتحدث أهل الشهداء عن أحبائهم، وروى الممثلون صامتين، وغنى الشباب للرافدين، وتلت مناضلة بيان التجمع، وكانت أصوات صفارات الانذار تجسد الاحساس بالخطر المحدق، والحمامات تنطلق في سماء بغداد، التي شهد قلبها هذا الاعتصام الاحتجاجي يوم السبت الماضي في أربعينية أربعاء الدم، وقد نظمه تجمع أربعاء الرماد.
و"أربعاء الرماد" هي قصيدة توماس ستيرنز إليوت، التي كتبت أواخر عشرينات القرن الماضي لتجسد تطلع الانسان الى التحول من الخواء الروحي صوب معانقة الأمل في الوصول الى خلاص البشر. نسمع الشاعر ينادي: "لأنني لا آمل أن أعود ثانية. لأنني لا آمل. لأنني لا آمل أن أعود ...". غير أننا لسنا هنا بصدد تحليل نقدي للقصيدة التي أثارت الكثير من السجال، على أن إشارتنا اليها تأتي في سياق إضاءة أربعاء الرماد العراقي.
وأيّاً كان تباين التطلع الى الأمل لدى إليوت (حيث المحتوى الروحي الديني)، ولدى المنشدين تحت نصب الحرية (حيث المحتوى الروحي الاجتماعي)، يبقى أربعاء الرماد رمزاً للخلاص من المعاناة .. وفي محتواه الأول يتضرع طلاب مغفرة: "يا أبانا الذي في السماوات، إن نور حقك يضيء ظلمة العيون الخاطئة. فليستمطر علينا هذا الزمن المقدس نعمة الغفران وهبة النور الالهي ..."
وأربعاء الرماد، الذي تطورت دلالاته من دينية الى سياسية، هو أول أيام الصوم المسيحي طلباً للغفران، الذي ربما كانت رمزه الأعمق إيحاء مريم المجدلية التي غسلت قدمي يسوع بدموعها.
أما أربعاء الدم ففاجعة من تلك التي عُرِفت بها بلاد ما بين النهرين منذ أن ظلت عشتار تبكي أبداً حبيبها تموز. ولعل من بين ما كشفت عنه هذه المأساة المروعة الاختراقات الفاضحة في منظومة الأمن، والخلل الخطير في الأجهزة المسؤولة عنه، وهي أجهزة بعيدة في بنائها عن أسس المواطنة والكفاءة، وغياب الاجراءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي بدونها لا يمكن أن يستتب أمن حقيقي، وتتوفر حماية لحياة الناس وضمان لحقوقهم.
ومما يثير الأسى أن النخب المتنفذة مارست، مرة أخرى، استهانتها بالمخاطر والتضحيات، ووضعت حسابات مكاسبها الضيقة فوق حياة البشر، لأن تلك الحسابات، لا الانسان، هي "أثمن رأسمال".
وكيف يكون الانسان أثمن رأسمال إذا كان "المقررون" منشغلين بالصراع من أجل  الامتيازات، والانحدار في  "التسييس"، والتستر على أسباب المآسي ومسببيها ؟
وكيف لا يغيِّب المتنعمون إرادة ملايين المحرومين، وهذا التغييب في جوهر منهجية المحاصصات التي تفاقم الآلام، ونحن نقترب، في مخاض فترة انتقالية، من موعد انتخابات تبدو التباساتها أكثر من قواعدها المألوفة، ومن كلام "المصرّحين" ؟
أيمكن لنخب بينها محمية بـ "المحررين" والقصور والمصفحات والحمايات والامتيازات والعزلة عن معاناة الناس أن تحمي حياة الناس ؟
غير أن هذه الصفوة من بنات وأبناء الرافدين ممن أطلقوا، يوم السبت، صفارات الانذار لوقف نزيف الدم العراقي، إنما يقرعون بذلك أجراس الخطر الذي يهدد الرأي الحر والحلم العادل .. ويرفعون أصوات الاحتجاج على تأبيد ثقافة الظلام وإقصاء المختلف وفرض أحادية فكر الاستبداد وإلغاء النقد والاجتهاد، ومسعى إخضاع الناس الى ثقافة الكرنفال الاستعراضية وسلطة "السياسيين" الغاشمة، وهم يغسلون الأدمغة كما الأموال، ويسوقون البشر كما القطيع، ويحاصرون الشموع والزهور والصبوات كما الأفكار "الهدامة".
هؤلاء الصفوة من "الحالمين"، المقاومين الحصار، والمتحدّين الفواجع، والملحقين الهزيمة بقتلة النور، يرسون، في اعتصامهم تحت نصب الحرية، وفيه من الدلالات الكثير، أسس ثقافة جديدة لابد أن تُسقى حتى تمد جذورها وتطلع ثمارها، فتتحول الى حركة شعبية حقيقية يحسب لها "الحكام" الحساب، وهي تستثمر السخط المتعاظم لتحيله لبنة في معمار ثقافة جديدة، ديمقراطية المحتوى، تنويرية التوجه.
هؤلاء الصفوة من المكافحات والمكافحين يعلنون من تحت نصب الحرية عن بدايات تحول في ما يمكن تسميته منهجية الاحتجاج. فلم يعد هذا مقتصراً على إطلاق صرخة في وادٍ تتردد أصداؤها وتتلاشى دون أن يسمعها أحد، ويتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث يمكن أن يبقى القتلة، المنفذون والمخططون، ينامون، بعيداً عن الأغلال، رغداً، ثم ينسى المحتجون الغاية والأمل، وجوهر التوجه الى مقاومة ثقافة الخنوع وتأبيد الراهن، والتطلع الى دولة المدنية التي تحمي حياة الانسان وتحترم حقوقه وأشواقه.
*    *    *
إذن فقد تجمعوا سائرين في موكب من خيرة بنات وأبناء العراق .. جوقة تعزف لحن الاحتجاج في البلاد التي أضاعت منشديها، فنهضوا فيها يغنون للحرية أعذب أغانيها، ويثيرون السخط على سدنة ظلامها وملوّثي تاريخها ..
تحت جدارية جواد سليم كانت أصوات المنشدين تقتحم السماء:
خلّي الدمَ الغالي يسيلُ
إن المسيلَ هو القتيلُ
من هذا الاحتجاج سينبثق تاريخ جديد، ومن أربعاء الرماد سينهض أربعاء الأمل ..
يا لتلك "الأشباح" التي تجول، منطلقة من معاناة الملايين من ضحايا الاضطهاد ..
يا لصبابة المشتاقين الى أشرعة سلم وحرية ..
فيكم الحياة تأتلف حتى عندما تختلفون على النور ..

  كتب بتأريخ :  الإثنين 05-10-2009     عدد القراء :  2203       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced