مجتمع حضاري بقلم : محمد عبد الجبار الشبوط العودة الى صفحة المقالات ثمة مفهوم اوسع من مفهومي الدولة والمجتمع اللذين تحدثنا عن موقعهما في الرؤية القرآنية حتى الان، ذلك هو مفهوم الحضارة، الذي يشمل الدولة والمجتمع والانسان وكل شيء ذي علاقة. الحضارة هي نتاج تفاعل الانسان مع الانسان، والانسان مع الطبيعة. حركة الانسان في الزمان، في مستوى علاقته باخيه الانسان وفي مستوى علاقته بالطبيعة، هي التي تنتج الحضارة. وحين نتعمق في الآيات القرآنية عامة نجد انها معنية بشكل اساسي بعلاقة الانسان باخيه الانسان، من جهة، وعلاقة الانسان بالطبيعة من جهة ثانية. وهذا يعني ان القرآن معني بشكل اساسي بضبط سلوك الانسان المنتج للحضارة. وليست اية حضارة، انما هي الحضارة التي تحقق الغاية من الوجود، من جهة، وتجسد دور الانسان في هذا الوجود من جهة ثانية. يمكننا ان نقرأ هذه الفكرة بوضوح في قوله تعالى:"واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة." لم اجد اروع من كلام الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر في فهم هذه الآية وتفكيك عناصرها الاولية بمنظور حضاري شامل. فقد لاحظ الصدر ان هذه الآية هي اساس بناء المجتمع القراني وبناء الحضارة القرآنية. بناء على هذا الفهم قال الصدر ان عناصر المجتمع ثلاثة هي: الانسان والطبيعة والعلاقة المعنوية التي تجمع بين الانسان واخيه الانسان والطبيعة، في ثلاثي ارضي، هو الخلافة التي تمثل بدورها عنصرا رابعا في هذه العلاقة المعنوية هو الله سبحانه وتعالى. ويمكن ان نضيف هنا ان هذه العلاقة تلعب دورها الحضاري، اي دورها في بناء الحضارة، حين يتم تفعيلها بواسطة عنصرين اخرين هما: العلم والعمل. وبذا تتكامل لدينا مفاعيل او ركائز الحضارة الخمس وهي: الانسان، والطبيعة والخلافة والعلم والعمل. ثمة اختلاف بسيط بين هذه الرؤية وبين رؤية مالك بن نبي الذي يقول ان عناصر الحضارة ثلاثة هي: الانسان والطبيعة والزمن. لكن الزمن تحصيل حاصل، سواء ذكرناه ام لم نذكره، لأننا لا نتصور نشاط الانسان الحضاري الدنيوي خارج اطار الزمن. ولا بأس بإضافته هنا، لانه موجود ضمنا، حتى لو لم يذكر شكلا. لنتصفح المعالجة القرآنية لعناصر صنع الحضارة بصورة سريعة: اولا، الانسان هو الفاعل الاساسي في العملية الحضارية. لهذا شدد القرآن على مخاطبة الانسان، بالمفرد والجمع، وشدد على دوره الفاعل في الاصلاح والفساد، وشدد على بيان موقعه ومركزه في الكون والتاريخ، من خلال مفهوم الخلافة، كما شدد على تكريمه وحريته وعلى المساواة بين افراده. ثانيا، الطبيعة التي تشكل الاطار المادي لحركة الانسان الحضارية. والقرآن يشدد على عدم الوقوع بمطب عبادة الطبيعة وظواهرها كالقمر والشمس انطلاقا من الجهل او الانبهار بها. بل يدعو الى الحفاظ عليها، وعدم هدر ما تكتنزه من ثروات، ويدعو الى استثمار هذه الثروات من اجل حياة افضل للانسان، خاصة وان هذه الثروات مسخرة للانسان. ثالثا، الخلافة الربانية التي تعطي للانسان دور القيادة في الكون، وتمنحه حق قيادة نفسه بنفسه، الامر الذي يؤسس للحياة الديمقراطية في المجتمع القرآني والانساني، وترسخ في نفس الانسان الروح الايجابية والفعالة وتطرد عنها الخمول والكسل والسلبية والاتكالية. والخلافة تعني بالمنظور القرآني ان يجسد الانسان في نفسه ومجتمعه تلك الصفات التي يؤمن بتوحيدها بالله سبحانه وتعالى، كما يقول الصدر. رابعا، العلم. يؤكد القرآن على اهمية العلم في حياة الانسان، وعلى عدم تساوي العالم والجاهل، وعلى اختلاف درجتيهما، بل يؤكد على عدم الاكتفاء بما يصل اليه العالم في مرحلة ما من العلم، وينبه الانسان الى انه فوق كل ذي علم عليم، ما يعني ان المسيرة العلمية للانسان لا يمكن ان تتوقف، ولا يمكن ان تصل الى نهاية ما. خامسا، العمل، وهو المغزى الحقيقي للعلم. فلا معنى ولا قيمة للعلم ما لم يقترن بالعمل، بل لا قيمة للايمان ما لم يتحقق هذا الاقتران بينه وبين العمل. وتشكل معادلة "الذين امنوا وعملوا الصالحات" ظاهرة في الاسلوب القرآني. سادسا، الزمن، وهو الاطار الذي يستوعب النشاط الانساني، والقرآن يركز على ضرورة استثمار الزمن وعدم تضييعه في التوافه من الامور. وعلى هذا المنوال سارت الوصايا النبوية الشريفة. القرآن يقدم للانسان مركبا حضاريا من هذه العناصر الستة. وحين ينجح الانسان في توظيف هذه العناصر بصورة صحيحة يتحقق التقدم الحضاري والعكس بالعكس. تكمن الفائدة من قراءة القرآن الكريم، وبالذات في شهر رمضان، من بين امور كثيرة طبعا، بادراك واستيعاب وتجسيد هذا المركب الحضاري، على مستوى المفاهيم والافكار وعلى مستوى الافعال والتصرفات.   كتب بتأريخ :  الأربعاء 24-07-2013     عدد القراء :  1620       عدد التعليقات : 0