مقاهي بغداد صروح ثقافية وتراث يصدح بالماضي الجميل
بقلم :
العودة الى صفحة المقالات

لا أغالي اذا ما قلت ان المقهى لسان حال البيوت في المحلات السكنية فهي تنقل ما هو سار وما هو ضار عند عوائل رواد المقهى فيتشاركون في السراء والضراء، وهناك مقاه لا تخص هذه المحلة او تلك وانما هي مقاه عامة لجميع العراقيين من غير استثناء وتجدها منتشرة في مراكز بغداد الثقافية والفكرية والجميع لا يمكنه ان يتجاهل مقاهي بغداد في شارعي السعدون وأبو نؤاس التي كانت عبارة عن منتديات أدبية وفكرية وفنية وحتى سياسية ،لكنها ويا حسرتناه انقرضت واصبحت من محتويات ارشيف الذاكرة، ولم يتبق سوى قريناتها في شارعي الرشيد والمتنبي ويعد ما تبقى منها من أكثر المقاهي شهرة وعراقة .
صبر الخشالي وتحديه
المدى زارت شارع الرشيد لتتعرف عن قرب على ما تبقى من ذكريات، اربعة مقاه قديمة ومهمة، ومنها انطلقت اجيال من الشعراء والفنانين الكبار، وفيها تتلمذ العديد من الاجيال اللاحقة على يد السابقة ليبرهن المقهى بأنه زقاورة تنويرية لايمكن تعويضها ،بالرغم من محاربتها ومحاولة تهميشها على يد السلطات الاستبدادية والديكتاتورية سابقا ولاحقا على يد الارهاب الاعمى الذي اصبحت تلك المقاهي احد اهدافه ،لأن القبح بطبيعته يكره الجمال ويحاول دائما وابدا ان يشيع صور الظلام والجهل على حساب النور والمعرفة، ولكن عبثا يحاولون امام ارادة العراقي الحقيقي الماسور بسلوكيته وتقاليده وطبيعة عمله والدليل على ذلك هو تشبث الحاج محمد الخشالي بمقهاه وتحديه لليأس ،بالرغم من فجيعته الكبرى باستشهاد أربعة من اولاده اضافة الى حفيده في الحادث الاجرامي الذي طال المقهى وشارع المتنبي.
الشابندر ومعاهدة بورتسموث
دخولك مقهى الشابندر او مقهى الشهداء كما هو مكتوب في اللوحة التي خطت أعلى الباب يحيلك الى بيت تراثي، يجر الذاكرة عنوة الى الماضي بالرغم من تنفسه بأوكسجين الحاضر وكل ما هو جديد في عالم المعرفة والفن ،اغاني المقام العراقي تصدح في ارجاء المقهى ليحيلك للغناء العراقي الاصيل ولا عجب فهذا المكان كانت تقام فيه حفلات المقام حيث يطرب الزبائن صوت مطرب المقام رشيد القندرجي ،وتجد صور بغداد القديمة تملأ جدران المكان وجميعها تعود الى تواريخ قديمة، صور تأريخية لسياسيين عراقيين وعرب واجانب وهذا ما يؤكد ان المقهى كان منطلقا لأكبر تظاهرة وطنية ضد معاهدة بورتسموث عام 1948،صور لفنانين، معرض للصور الفوتوغرافية للمصور العراقي عادل قاسم تسيد احد جدران المقهى  وجميعها معروضة للبيع المباشر كما يشار في لافتة علقت بجانب المعرض.
نصب تذكاري لتخليد الشهداء
لوحة حزينة وضعت في الجانب الايسر من مدخل المقهى وضعت في داخلها صور الشهداء الاربعة من ابناء صاحب المقهى محمد كاظم الخشالي وكذلك صورة حفيده ،وكتبت اسماءهم وأعمارهم وتحصيلهم الدراسي والشهداء حسب التسلسل العمري هم كل من غانم محمد كاظم الخشالي (55)عاما، كاظم محمد كاظم(42)عاما، محمد محمد كاظم(40 )عاما، بلال محمد كاظم (35)عاما ،قتيبة غانم محمد كاظم(25)عاما، لوحة تثير الشجن وفي نفس الوقت تبين للجميع مآثر البطولة والتحدي للظلاميين التي تجسدت بصورة الحاج محمد الخشالي وعائلته، أي قلب يتحمل تلك الفجيعة وأي وحش فعل ذلك الحادث الارهابي الشنيع وذلك بتفجير سيارة مفخخة صباح يوم الاثنين الموافق الخامس من آذار عام 2007،وذهب جراء الحادث عشرات الشهداء والجرحى وبعض الشهداء لم يعثر على جثثهم الى يومنا هذا، واحترقت العديد من المكتبات والمطابع ودمرت مقهى الشابندر بالكامل، ومع جسامة الحدث الذي اصابه تحدى الخشالي كل شيء واعاد بناء مقهاه، وكنا نتمنى من وزارة الثقافة أن تكون السباقة في تخليد شهداء المتنبي بنصب تذكاري يوضع في بداية او نهاية الشارع ويكتب عليه اسماء الشهداء ليؤرخ  ويذكر الاجيال بما فعله الارهاب بشارعنا الثقافي ومقهاه الاثير، ولكن وزارة الثقافة بواد والثقافة بواد آخر.
عراقية المكان
يقول فاهم  بن الحاج محمد الخشالي الذي كان يجلس في ادارة المقهى بدلا من والده ان المكان تأسس عام 1917 ويعد من اقدم المقاهي في العراق وكان المكان يدار بين شريكين هما الحاج محمد الخشالي والمرحوم امين جدوع وقام الحاج محمد بشراء حصة امين بعد وفاته ويضيف الخشالي أن الحاج محمد حرص ومنذ البداية ان يكون المقهى قدوة في كل شيء ومنع فيه أي لعبة مثل الدومينو والنرد والورق كما هو متداول في المقاهي الاخرى، وهناك رادع لكل من يحاول ان يثير الضوضاء ويعكر صفو الجالسين داخل المقهى، موضحا ان هناك ندوات فكرية وثقافية تحدث داخل المكان لمناقشة اصدار كتاب او البحث في قضايا الساعة كما يقول الخشالي ،مبينا ان يومي الجمعة والسبت هما الاكثر زخما من توافد الزبائن على المقهى لكونهما وكما يقول الخشالي عطلة رسمية فضلا عن توافد المثقفين من المحافظات الى المقهى للقاء الاصدقاء، بحيث ان المقهى اصبح نقطة دلالة لاغلب المفكرين والمثقفين والفنانين  والإعلاميين ومن تأثر بهم من الشباب الذي يواكب تلك الروافد الابداعية، مؤكدا ان المقهى مقر لجميع المكونات العراقية بعيدا عن طوائفهم وانتماءاتهم الحزبية او المذهبية والدينية والقومية، وهذا ما حرص الوالد على تفعيله وإدامته ليكون المكان عراقيا خالصا بحسب قول الخشالي.
متحف صوري وتراثي
عن تأريخ المقهى يبين الباحث رفعة عبد الرزاق للمدى أن البناية شيدت عام 1906على يد محمد سعيد جلبي الشابندر لتكون مطبعة باسم الشابندر وهي من اولى المطابع الحديثة في العراق، ثم تولى ادارة المطبعة نجله محمود الشابندر الذي اعتقلته القوات البريطانية عند احتلال بغداد عام 1917،وصادرت مطبعته، وفي خريف تلك العام كما يقول عبد الرزاق تحولت بناية المطبعة الى مقهى ترتاده طبقات مختلفة من الموظفين والمثقفين ورجال القانون والصحفيين لقرب موقعه من دوائر الدولة المدنية ،المقهى كما يوضح عبد الرزاق تحولت ملكيته وادارته الى الحاج محمد الخشالي والى يومنا هذا، ويضيف عبد الرزاق انه يعرف الخشالي منذ ستينات القرن الماضي من  خلال والده الذي كان صديقا للخشالي ويصفه بالبقية الباقية من البغداديين المعروف بالورع وابتعاده عن العاب اللهو وغيرها، والمقهى كما يقول عبد الرزاق متحف صوري وتراثي والشابندر هي كلمة تركية تعني كبير التجار.
عزوف الزبائن بسبب الطريق
خرجنا من ذلك المكان الرائع الذي يفوح بعطور الابداع والجمال وتوجهنا باتجاه مقهى الزهاوي الذي لايقل قدما عن مقهى الشابندر ،والزهاوي يقع في بداية شارع لمخازن ومطابع وله واجهة على شارع الرشيد ايضا ،فيما الشابندر يقع في نهاية شارع المتنبي، دخلنا المقهى الذي اصبحت واجهته على شارع الرشيد مطعما للاكلات الشعبية ولم نعثر بداخله سوى ثلاثة زبائن يلعبون الدومينو، سألنا عامل المقهى  حسين كاظم وهو مالكه مع شريك آخر يدعى حيدر خريبط عن سبب عزوف الزبائن عن المقهى يقول كاظم ان السبب في ذلك هو غياب وسائل النقل المؤدية للمقهى  بعد غلق الطريق المؤدي لها، موضحا انه في السابق كانت هناك مصلحة نقل الركاب التي تقف امام المقهى وتوصل الزبائن الى مبتغاهم اما اليوم فانعدمت تلك الخدمة خاصة وان جميع رواد المقهى هم من مناطق بعيدة سواء في الرصافة او الكرخ وحتى من المحافظات، والزبون الذي يأتي بسبب السيطرات سيقضي وقته في الطريق وبالتالي لافائدة من مجيئه كما يقول كاظم.
الزهاوي وحسين مردان
صورة الشاعر الزهاوي تزين المقهى المسمى باسمه مع تاريخ ولادته ووفاته يذكر ان مقهى الزهاوي تأسس في عشرينات القرن الماضي وكان يعرف بمقهى أمين وكان من مرتاديه الشاعر جميل صدقي الزهاوي ،وبعد وفاته عام 1936ارتأت امانة بغداد تخليد ذكراه فسمت الشارع الذي يسكنه باسمه وكذلك المقهى الذي يرتاده، وكان في ستينينات وسبعينات القرن الماضي يعج بالكثير من الادباء والكتاب والصحفيين والفنانين الا ان نجمه أفل في الثمانينات وكاد ان يهد لولا تصدي العديد من الادباء والشعراء والفنانين لمحاولة بيعه حتى اصدرت وزارة الثقافة يومئذ قرارا بجعله مرفقا تراثيا وقامت بتجديده، لكنه الآن اصبح خاويا من الادب ورجاله، وهو الذي يقول عنه حسين مردان في مذكراته "حينما جئت الى بغداد قادما من مدينة بعقوبة عام 1947وكان عمري حينها عشرين عاما، الدهشة تشدني من كل جانب حتى وصلت إلى مقهى الزهاوي حيث يجلس محمد هادي الدفتري وخضر الطائي وعبد الرحمن البناء، وكانت الزيارات بين أدباء وشعراء المقاهي عادة طريفة تشكل نواة متفجرة للحوار والمصادمات الأدبية".
مقهى حسن عجمي
الحسرة تصيبك والالم مع الاحباط حين تدخل مقهى حسن عجمي الواقع مقابل جامع الحيدرخانه في شارع الرشيد وذلك بسبب الاهمال الذي يعيشه المقهى مراياه التي تملأ جدرانه تعكس حالة البؤس الذي يعيشه المقهى ولا ادري ماذا سيقول الجواهري لو يجلس الآن اذا ما رأى مقهاه الاثير بهذه الحال ،المذياع الخشبي القديم يجلس على رفه ويغطيه التراب حتى الصور اصبحت عبارة عن اشباح صور، ارائكه الحبية مالت الى الخلف او الى الامام بسبب تقادم السنين عليها ،كل شيء فيه يحيلك للاهمال الذي يعيشه، وحسن عجمي هو شخصية بغدادية معروفة من عشرينات القرن الماضي ،واسس مقهاه في بناية كانت من املاك اسرة حكمة سليمان، وفي ثلاثينات القرن الماضي اصبح من مقاهي الادب وقد ذكره الجواهري في مذكراته ،ويقول عنه حسين مردان في مذكراته ان جماعة مقهى حسن عجمي كانت تضم الصحفي المشهور عبد القادر البراك والجواهري وجلال الحنفي وكمال الجبوري وغيرهم ويصف مردان العلاقة الحميمية بين الادباء الكبار والشباب في مذكراته قائلا :كنا نحن الأدباء الشباب نعامل كل هؤلاء بتقدير فائق، وكانوا بدورهم يشيدون بنتاجاتنا فيساهمون بدفعنا للتجديد والابتكار ومن رواده ايضا كمال الجبوري والسياب والبياتي وعبد الأمير الحصيري وغيرهم من وجوه الادب والفن والابداع  قبل ان يذوي ويتجه زبائنه الى مقهى الشابندر.
أم كلثوم واللاعب (جوقي)
خرجنا من هموم حسن عجمي وتأوهاته على ماضيه الجميل وتوجهنا صوب حاضن صوت السيدة مقهى ام كلثوم توسطنا الجلوس بين شاعر يدعى سعيد العبيدي ولاعب المنتخب العراقي السابق رزاق حاتم الملقب (جوقي) وهما من رواده ليبينا للمدى ان المقهى تأسس عام 1969 من قبل الحاج عبد المعين الموصلي وتحول بعده لعدة مالكين منهم فاضل النعيمي مع عامله عباس وبعد وفاتهما استلم المقهى تحسين المياحي (ابو مروان)،ثم حميد السامرائي (ابو ماجدة) وهو من قضى اكثر فترة كما يقول محدثاي وبعده زيد عبد السادة (ابو حمزة)واخيرا سيد سلام (ابو وسام)،المقهى له باب خلفي على قيصيرية الحاج مهدي تؤدي الى محال بيع السبح، صور ام كلثوم النادرة تملأ جدران المقهى، وكان الموصلي المؤسس من عشاق السيدة فجعل مقهاه مجلسا لمحبيها من خلال تقديم تسجيلاتها النادرة،فكان المقهى ورشة عمل للادباء  والمثقفين والاعلاميين والرياضيين والفنانين والاساتذة والاطباء وموظفي الاذاعة والتلفزيون،والمقهى التي تبلغ مساحتها (300)م2هي مكان شائع للكثير من الفضائيات المحلية والعربية والاجنبية، وكما يبين العبيدي وحاتم ان في المقهى  سابقا زاوية خاصة للاعبي الشطرنج المعروفين لكنها تحولت الى مقهى الرواد ،ودعنا المقهى ونحن نردد مع الشاعر سعيد قوله "بغداد قد كثرت فيها مآسيها...ماتت شوارعها ماتت مقاهيها".

المدى

  كتب بتأريخ :  الإثنين 30-09-2013     عدد القراء :  1645       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced