الألم الإنساني والجسد..الألم الإنساني والصوت
بقلم : جاسم المطير
العودة الى صفحة المقالات

كان يوم 8 / 9 / 2013 في مدينة لاهاي مخضبة ساعاته بكثير من الشمس، بعد ليلة ممطرة. انداحت شوارعها، مبللةً، عاريةً، نابضة ً بحركة الناس في الساحات والمطاعم وعلى ضفاف بحر الشمال والأسواق، الصغيرة والكبيرة، حيث يحسون بعافيةٍ دفينةٍ، كعادتهم، كلما أشرقت الشمس بعد موجة أمطار هطالة بغزارة.
كنا أربعة أشخاص نجوبُ بسيارةٍ حمراءَ، رحاب أطراف لاهاي الجنوبية، متجهين نحو وسطها حيث بناية مسرح (لاك ثييتر) التي من المقرر أن تـُقدم في الساعة السادسة فعاليات فنية موسيقية غنائية عراقية متنوعة يعقبها عرض مسرحي احتوى إخراجه وتمثيله الفنان كمال البياتي، المحب للتجوال في المدن العالمية بشعورٍ من الحب لتقديم الفن المسرحي العراقي أمام متفرجين من جنسيات العالم، كان آخرها عرض نفس المسرحية في برلين قبل أسبوع واحد من تاريخ اليوم.
توحّد القرار الجماعي لدينا نحن الأربعة ( الدكتور سعدي الحديثي، والسيدة نوال بربوتي، والشاب عمار عبد الكريم، وجاسم المطير ) في تناول وجبة كباب عراقي في مطعم عراقي قريب جداً من المسرح، لكي يكون يومنا كله توهجاً عراقياً بتذوق نوع من خبز التنور العراقي والاستمتاع، بعد ذلك، برسالة الفنان العراقي. أتممنا إبحارنا، بعد الوجبة الغذائية اللذيذة، نحو المسرح، حيث كان قد سبقنا إليه طالب غالي (ملحن) وحميد البصري (موسيقار) وبلقيس حميد حسن (شاعرة) والدكتور كاظم حبيب (باحث اقتصادي) وشوقية العطار (مغنية) وسعد عزيز ( شاعر شعبي) ومحمود عثمان (ناقد فني) وأور البصري (مصمم) وضياء الشكرجي (مفكر إسلامي) ومحمد الجزائري (ناقد أدبي) وباسمة بغدادي (ناشطة في حقوق المرأة) وفاطمة العتابي ( ناشطة في رابطة المرأة) وفادية نفاوة (مهندسة) الصكر ( رسام) والدكتور تيسير الآلوسي ( أكاديمي) وهادي وفارس الماشطة ( فنان مسرحي) وعباس الدليمي ( متابع ثقافي) وغيرهم من الأصدقاء العراقيين، من محبي اجتماع أبناء وطنهم ومن المولعين بثقافة العراقيين وفنونهم من أبناء هولندا.
منذ 3 سنوات لم يتسنَ لي مشاهدة أية مسرحية، لا عراقية ولا هولندية. بمعنىً ما كنتُ منقطعا عن تطور العمل المسرحي الحديث، ثم توفرت لي في هذا الأسبوع يوم 8/9/ 2013 فرصة مناسبة لمشاهدة عمل مسرحي على مسرح ( لاك ) بوسط مدينة لاهاي. كان الإعلان الأولي قد أشار إلى أن هذا العمل من إخراج وتمثيل الفنان العراقي كمال البياتي المقيم في هولندا.
كان العمل قد جمع بين (البانتوميم) الذي قدمه الفنان المسرحي كمال البياتي وبين (الصوت المضطرم) قدمته الفنانة الموسيقية المغنية التركية (ازلم كافلر) التي لا يندرج صوتها تحت أي وصف غناء تقليدي فقد كان مثيرا للانبهار بقدرة من اللعب التدريجي المبدع المتميز بالروعة والكمال بين العصف والهدوء. وقد كان تقديم الدكتور سلام الأعرجي للفنان كمال البياتي، الذي وصفه بأنه مبدع يجيد فن تحريك الجسد الإنساني، تأثيرا كبيرا على استنتاجات المتفرجين على المسرحية وعلى مهنة التمثيل الإبداعي الفردي.
كانت المسرحية قد جمعتْ فصولها وحركاتها على أعلى قمم الروعة والتألق بأسلوب بدا لي أنه أسلوب (ما بعد الحداثة ) فقد كان قد جمع أداء الحركة على خشبة المسرح بين (البانتوميم) و(الغناء) اللذين حققا حالةً من الوحدة، والجمال، والمعنى، والانسجام، من خلال تسلسل مبدع بين (صوت) المغنية التركية و(جسد) الممثل كمال البياتي. كان يتداخل بينهما صوت الشاعرة العراقية المقيمة في ألمانيا (وفاء الربيعي) مسجلاً على (سي. دي ) وهي تشدو بعض مقاطع من قصائدها المتشحة بضياء المحبة والسلام.
قدمتْ المسرحية عرضا متعاقبا بين (الصوت) و(السكون) بين (قوة الموجة الصاخبة) في عالمنا المعاصر وبين (رحاب الحرية) عن الصراع الوجودي بين الإنسان ومعاناته وتوتره (الداخلي) الكبير الناتج عن الكثير من الألم. كما قدمت الفنانة (ازلم) شكلا من أشكال (الألم الخارجي) الناتج من أزمنة الصراع والقتال وقد أبدعت بتنويع مويجات الغناء، وصناعته، وحياكته من خلال حركة تقاطيع الصوت في أغانيها وفي قوة العزف على (البيانو) مرة ونقرات (الدف) الكبير الحجم تارة أخرى.
كان ذلك من أبدع ما شاهدته وسمعته منها. رائعة حقاً قدرتها على محاكاة البكاء بصوت أغنيتها وموسيقاها كأنك تشاهد امرأة حقيقية تبكي أمامك من شدة آلامها.
كان عالم المسرحية يقدم فكرة عميقة من فوق سطح المسرح، كما كان يقدم دلالة َ قدرةٍ وموهبةٍ متميزتين، حتى أن المتفرج شاهد بكاءها ليس في عينيها بل في صفاء صوتها القريب من النشيج وقد تسرب هذا الصفاء إلى قلوب المستمعين كلهم وهم يصغون لصوتها الناثر ذاته ومعاناته على وجهها وعلى صوتها وعلى حركة (الدف) بين يديها.
من الدلالات الإنسانية بــ (أسلوب ما بعد الحداثة) كان الممثل كمال البياتي يرسل للمتفرجين رسالة يقدم فيها (الألم الداخلي) للإنسان بعد أن أوغل المخرج في تحريك جسد الممثل بخفة تحريك الزهور، خاصة أنه استعار آلامه ليس بسبب (تفاحة ادم)، بل أنه أظهر ثقل حياته من خلال حمل (بطيخة) يلهو بها لاعباً، عابثاً، بإبداع حاسم من أجل تجاوز صعاب الخروج من الجنة في السماء وتذليل تلك الصعاب للعيش على الأرض، وقد نجح بانتوميم كمال البياتي وصوت المغنية (اوزلم) بالاندماج التام واقناع المتفرجين بـ(الوحدة والانسجام) بين الأنثى والذكر في هذه الدنيا المتضمنة أنماطاً من حركة ثمرة من ثمرات إنتاج الإنسان المرموز إليها بـ(البطيخة). وقد كان تقطيع هذه الحركة أصيلا استطاع به الممثل كسر أبعاد الزمنية في هذا العمل المسرحي رغم ضعف إخراج وتضمين دور القصيدة الشعرية.
لقد كان وجود الشعر في (السرد - البانتوميم) أو ضمن (حركة الجسد) ليس بمستوى مؤثر مما لم يسمح للمتفرجين أن يستخلصوا عقدة المسرحية التي وصفتــُها بأسلوب ما بعد الحداثة. كان بالإمكان إخراج وظيفة الشعر بصورة فنية أفضل، أي بنوع من الإلقاء المنسجم مع صوت المغنية التركية كي تتعزز المسرحية بتطبيق ٍ وجودي ٍ أفضل، شكلا ومضمونا .
كان الموقف الأساسي للمسرحية يهدف إلى دعم واستمرارية النظام القائم على علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وتعزي العلاقة الإنسانية بين الذكر والأنثى ليس من منطلق مسارح الإنتاج الاستهلاكي، بل من منطلق العمل الثقافي لإشاعة قضايا تحقيق خلاص الإنسان من الام الحياة وإشكالية علاقاتها بالواقع.
كانت المسرحية، بجوهرها، تعبيرًا عن مشاركة الرجل مع المرأة ( مشاركة كمال البياتي مع اوزلم كافلر) في الشدائد والضراء الفارزين للألم البشري حيث البكاء لا يشفي جراح الإنسانية ولا يلغي معاناتها. بالغناء والفرح والعمل والحرة والإنتاج فقط يمكن أن يبرأ الإنسان، رجلا كان أو امرأة، من أمراضه. بإنتاج الإنسانية لمستقبل أفضل يمكن أن تخلو حياة الناس كلهم من غلالة الآلام والعذاب. صحيح أن تنهيدة (المغنية) يمكن أن تتحول إلى (صرخة) لكن الفرج الحقيقي لكل الناس هو العمل في سبيل قطع ثمار السعادة الإنسانية في المستقبل بعد اجتثاث كل جذور وبذور الشر والأشرار حين يغدو الإنسان جديدا في عزمه وفي تبديل مساره وتطهير الزمان من كل رمال الحقد والكراهية ومن جنون الاستغلال.
المسرحية "أفعمتني" سرورا وبهجة، بفرحة بهاء العزف والغناء والتمثيل والإخراج. حال انتهاء المسرحية وخروجنا من قاعتها وجدنا أنفسنا نستحم بمطر غزير لكنه يموج بالنور فقد كان أسلوب (ما بعد الحداثة) قادرا على أن يفرض التراجع على حراك المطر الهولندي الغزير بعد أن سجـّل المخرج العراقي كمال البياتي اخضرارا في أزهار الفن العراقي بمدينة لاهاي . لا بد أن ينقل هذا الاخضرار، ذات يوم، إلى بلدنا الأول، العراق

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 01-10-2013     عدد القراء :  1695       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced