ديمومة التجديد تتطلب فهما واقعيا للتناقضات المجتمعية
بقلم : د. كاوه محمود
العودة الى صفحة المقالات

يعتبر التجديد سمةً ملازمةً لطبيعة القوى التي تسترشد في منهجها الفكري بالماركسية والمنهج المادي الجدلي الذي ينظر الى المفاهيم والمقولات الفكرية على اساس كونها انعكاس للواقع، والذي يتطلب بل ويفرض الاحتكام الى نبض الحياة بكل تعقيداتها وتناقضاتها ومستجداتها، ومعرفة القوى الحيوية المؤثرة فيها والفرز الاجتماعي الطبقي المستمر، والذي يعني أيضاً تجاوز الشعبوية السياسية والشعاراتية، والابتعاد أيضا عن الأحكام الجاهزة والمسبقة والتحليل السطحي والاحادي للظواهر الاجتماعية الجديدة، وتجنب الأجوبة الجاهزة للأسئلة المعقدة التي تطرحها الحياة باستمرار. واذا كان هذا الكلام يمتلك قدراً كبيراً من الصحة، من الناحية النظرية والمنطقية ، فإننا لو عدنا الى التاريخ الفعلي للقضية داخل عدد كبير من الاحزاب الماركسية، نجد ثمة افتراق بين المنطقي والتاريخي. فالتجديد ظل ولغاية نهاية الثمانينات بمثابة " هرطقة " عند الكثيرين. ولهذا السبب كانت هناك حاجة ملحة من أجل افتكاك التناقض بين المنطقي والتاريخ، استناداً الى الماركسية التي تتناقض مع الجمود ومع فكرة الوصفة الجاهزة الصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. والمنهج الماركسي يعني قرآءة الواقع وتحليله كما هو، والابتعاد عن الرغبة الذاتية والإرادوية في دراسة الواقع. وبخلافه يتحول هذا المنهج الى أداة لتبرير الواقع، عوضاً أن يكون منهجاً للتغير الثوري.
كثيرة هي المقولات الواردة في أعمال المفكرين الماركسيين، والتي تؤكد على الاحتكام لسيرورة الحياة. فعلى سبيل المثال يشير انجلز بوضوح في مقدمة الطبعة السادسة للبيان الشيوعي، بعد 23 عاماً من اعلان البيان الشيوعي وعلى أثر تجربة كومونة باريس، الى "أن جزءاً من هذا البيان فد شاخ "، وينوه لينين بمقولة لاسال "الحياة خضراء والنظرية رمادية".
الدعوة الى التجديد في سياسات الحزب الشيوعي وفي برنامجه وفي حياته الداخلية ليس بدعة جديدة في الماركسية، أو مجرد شكل من أشكال التكييف مع ما جرى في العالم بعد انهيار تجرية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية، مع الأخذ بنظر الإعتبار إن الإنهيار أثار الكثير من التساؤلات، وتزامن الحديث عن التجديد مع فترة البيروسترويكا في الإتحاد السوفيتي، كما ان هذه الدعوة ليست انعكاسا او رد فعل في منعطف من المنعطفات.
لقد واكبت سياسات الحزب الشيوعي وبرامجه منذ تأسيسه بشكل أو آخر متغيرات الوضع الداخلي والاقليمي والعالمي. وصاغ الحزب شعاراته وبرامجه ونظامه الداخلي وآليات عمله في أكثر الأحيان وفق هذا الواقع المتغير دون أن يطلق على هذه العملية والممارسة الحزبية سابقاً اسم التجديد، لأنها لم تجر ضمن عملية تناسق منظم مستمر بشكل شامل ودائم.
وجرت في فترات تاريخية عديدة محاولات تجديدية في الطروحات السياسية وفي تقييم سياسات الحزب السابقة، أو في مجال تجديد الهيئات القيادية، حققت نجاحاً محدوداً لأنها افتقرت الى الاستمرارية والتواصل والشمولية، ولكونها جرت وفق آليات عمل بالية لم تستوعب توسيع وتعميق الديمقراطية الحزبية الداخلية وتفعيل دور العضو الحزبي في كل شأن يتعلق بمشاركته في صياغة سياسات الحزب ونهجه.
والحديث عن التجديد بهذا المعنى لا يعني الرضا عن النفس وعدم وجود قراءات خاطئة للحزب ككيان سياسي في المجتمع في هذا المرفق أو ذاك على مدى تاريخه النضالي الطويل، وكان الحزب سباقا في تقييم سياسته والإشارة الى اخطاءه. وأشار في أكثر من مناسبة بأن ليس لديه ما يخفيه عن الشعب، والأكثر ن ذلك فان مصطلح النقد الذاتي تبلور ودخل القاموس السياسي في مجتمعنا من خلال الشيوعيين.
غير ان ديمومة التجديد يتطلب عدم ابقاءه في الإطار السابق الذي أشرنا إليه، ولابد ان تقترن هذه العملية كضرورة وحاجة موضوعية أصيلة، بالديمقراطية، ومن هذا المنطلق يجري التأكيد دوما على مساهمة منظمات الحزب والرفاق المعنيين مع قيادة الحزب في سعيها لإعادة صياغة الوثائق البرنامجية للحزب وتدقيق المفاهيم وتطوير استنتاجاتنا وحصيلة تجربتنا النضالية.
ان الضرورة الموضوعية التاريخية لعملية التجديد وطابعا الشمولي الخلاق، ينطوي على وعي بالمخاطر التي تحيط بها وتلازمها، وتناقضاتها، والعوامل التي تتحكم بمحراها، وتكبحها أو تغير وجهة جريانها. مما يستلزم التاكيد على قيم الديمقراطية والتمدن، والاسترشاد بالروح المبدعة والاسلوب الجدلي للماركسية. ويتطلب الأمر التعامل بالروح الحزبية الخلاقة والابتعاد عن الممارسات التي تنطوي على العفوية والتعامل بشكل اعتباطي أو وفق منهج انتقائي. واذا اردنا أن نعتبر انفسنا حزباً للتغير الإجتماعي فلا بد أن نعتمد في هذه العملية على المنهج المادي الجدلي، وتجنب العشوائية وكل ما يشيع الإرباك والجدل العقيم الذي لايستند إلى الواقع الموضوعي وملموسياته وحاجاته الفعلية. ان عملية تجديد الحزب ليست تهويماتً وقفزاً في المجهول، أو تجارب على مصائر الناس، أو لهاثاً وراء صراعات لاتساندها وقائع. وإن أحد شروط نجاح العملية وضمان تواصلها هو التخلي عن تغليب الأنانية الذاتية والمزاجية وضيق الصدر والعمل من أجل تطابق الأقوال مع الأفعال، واحترام حقوق الآخرين واعتباراتهم، وعدم التجاوز عليهم.
وبهذا المعنى علينا أن نجعل من هذا النهج خياراً منظماً وموجهاً من قبل الحزب، استناداً الى الماركسية، لا باعتبارها فكراً منجزاً ومعرفةً نهائيةً تحيط بالواقع من كل جوانبه، ولكن كمبادئ عامة اغتنت بالممارسة الثورية، دون أن يعني هذا القول عدم خضوع مسارات هذه العملية داخل للحزب لمفردات الصراع الحزبي الداخلي على مستوى قيادة الحزب وفي إطار منظماته، ولتأثيرات القوى السياسية المختلفة، ومنها قوى لا تروق لها نجاح الشيوعيين وبرنامجهم الوطني الديمقراطي.
ان الحوار المستند على وجهة معرفية واضحة داخل الهيئات الحزبية وبمشاركة الديمقراطيين واليساريين والقوى المدنية بعيدا عن شخصنة الأمور يجعل من خطابنا السياسي وبرنامجنا وتحالفاتنا اكثر دقة في التعبير عن حركة الواقع، وأكثرعمقاً في التعرف على خصائصه الملموسة، وأوسع فهماً لتاريخ وتراث شعبنا، واستعاباً لفعل قوانين التطور الاجتماعي بعيداً عن الارادوية والنظرة الميكانيكية والجمود العقائدي، عبر التفاعل مع مزاج الجماهير ومطالبها واستعدادها النضالي، مع أخذ موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية بنظر الاعتبار.
وتبقى بوصلتنا تحقيق المصالح الجذرية لشعبنا عمالاً وفلاحين وكسبة ومثقفين، وكل شغيلة اليد والفكر، والجمع بين الخصائص الوطنية لشعبنا، والمسؤولية التاريخية ازاءه وبين الاتزام ازاء الحركة التحررية الوطنية لشعبنا، والتمسك بالخيار الاشتراكي عبر التأكيد على قيم العدالة الاجتماعية والمساواتية.
ان الاندماج في فهم التناقضات المجتمعية يعني فهم طبيعة التناقض في المرحلة الإنتقالية الحالية بين القيم المدنية الجديدة من جهة والقيم التقليدية من جهة أخرى، وتتواجد هذه القيم المتناقضة في وعاء واحد هو المجتمع وفي داخل الحكومة الواحدة والحزب الواحد. أن مهمة اليساريين والديمقراطيين المدنيين توجيه هذا الصراع لتحل القيم المدنية محل القيم المجتمعية التقليدية. لذا يتطلب الأمر التعامل مع فكرة التغيير الاجتماعي من منطلق المتحرك وليس الساكن في العلاقات الإجتماعية والقيم الأخلاقية، والتفكير والعمل دوما من أجل بلورة الحامل الإجتماعي للتغيير، عبر مشاريع مجدية ومؤثره غير مؤطرة في نطاق النخبة والمشاريع الفوقية،
ان الحامل الاجتماعي لمشروع التغيير الاجتماعي المؤثر يجب أن يتجاوز من الناحية العملية قوام الحزب وأعضاءه ومؤازريه لكي يتحول إلى واقع ملموس، ويكون الحامل الإجتماعي بمثابة السياج الحامي والداعم لعملية التغيير الاجتماعي. وفي هذه النقطة تكمن تجاوز النخبوية والانعزال عن الجماهير بعيدا عن الشعارات الشعبوية والمهاترات السياسية.
ان الحزب الشيوعي يعتبر أبوابه مفتوحة بشكل دائم أمام كل مناقشة جادة علمية تستند على لغة الحوار والمنطق والفكر. مناقشة الهدف منها اجتياز مرحلة طويلة من البناء الديمقراطي في المناحي السياسية والإجتماعية واستمرارها في عملية ارتقاء دائم من خلال النضال ضد اللامساواة السياسية والإجتماعية وضد مظاهر اللاديمقراطية والتوزيع غير العادل للثروات وغيرها من عيوب الأنظمة المبنية على الجشع والإستغلال.
ومن منطلق الحرص على أهمية الحوار الحزبي وجدواه والوصول الى استنتاجات عملية وموضوعية مفيدة لتجديد وتطوير سياسة الحزب، لا بد من احترام الاصول الحزبية الداخلية والعمل ضمن الآليات التي ضمنها النظام الداخلي واصول الحياة الحزبية المبنية على الديمقراطية الحزبية الداخلية وتأمين حقوق أعضاء الحزب وهيئاته وتفعيل مساهمتهم في رسم وتنفيذ سياسته وصياغة توجهاته، مع التأكيد على القيادة الجماعية، والتخلي عن الفردية والاوامرية والاساليب البيروقراطية، مع ضمان حق الأقلية في مناقشة سياسة الحزب وشؤونه الداخلية، وابداء اعتراضاتها عليها أمام المراجع الحزبية المسؤولة، بما فيها المؤتمر، والتعبير عن رأيها في الصحافة الحزبية. ان الحزب الشيوعي يشجع بشكل عملي الحوارات والنقاشات الفكرية داخل صفوفه وفي صحافته دون تحفظ وفق مبدأ علنية الفكر والسياسة، والالتزام بالخصوصيات والمراجع التنظيمية وبالنظام الداخلي للحزب، دون أن يعني ذلك اشتراط كون تلك الطروحات منسجمةً مع السياسات الرسمية للحزب. وقد توسع فعلياً دائرة المساهمين الفعليين في رسم وصياغة سياسة الحزب لتشمل جمهرة الحزبيين واصدقاء الحزب والكفاءات الفكرية الوطنية المختصة والمهتمة بمصير شعبنا وتقدمه وسعادته. كما تتم ممارسة أسلوب الاجتماعات الموسعة واستشارة الكادر الحزبي، أضافة الى الاستفتاءات الحزبية في القضايا الحيوية والمصيرية. أن هذه الآليات تهيأ الأرضية المناسبة لإدارة سليمة للصراع الفكري الداخلي بعيدا عن الشعبوية الحزبية والشللية وروح التكتلات وخلق البطانات، والتي ستكون مصير كل هذه التصرفات من خلال فهمنا لتاريخ الحزب عرقلة عمل الحزب، وهدر الوقت وتبذير الطاقات.
ان ديمومة الحزب وتطويره وتجديد هيئاته واغناء فكره، تتطلب الاستمرار فيما بدأناه في مجال ترسيخ تقاليد سليمة وديمقراطية في جوانب حياتنا الحزبية، كانتظام عقد الكونفرنسات والاجتماعات الموسعة في عموم هيئات الحزب، إجراء الانتخابات الدورية على أساس الترشيحات الفردية، وتشخيص الكوادر الفاعلة في مجالات العمل ورفد المنظمات الحزبية بهم من أجل تفعيل العمل، وممارسة النقد والنقد الذاتي الموضوعي والبناء، والانتظام في عملية تزويد منظمات الحزب بالمعلومات والتقاريرعن نشاط الهيئات القيادية وتيسير مهمة مراقبة أدائها، بما يعزز المصارحة والعلنية، ونشر مشاريع الوثائق، وعقد المؤتمرات والكونفرنسات المركزية المنتظمة، وفقا للشرعية الحزبية وأحكام النظام الداخلي.
إن مسيرة تجديد الحزب لم تنته بعد. ومتى ما وصلنا الى القناعة باننا وصلنا الى التجديد، نكون قد توقفنا عن التجديد الذي يعتبر عملية حياتية غير منجزة بمعناها الديالكتيكي.
ان تحقيق المهام السياسية الآنية الملحة، يستوجب وجود حزب شيوعي متراص الصفوف داخليا متجدد في طروحاته، مستلهم لكل ما هو نير وتقدمي في تاريخ وتراث شعبه. حزب مرن في سياساته، واضح في برنامجه، ديمقراطي في العلاقة بين اعضائه وفي العلاقة مع الغير، منفتح على القوى الديمقراطية واليسارية والمدنية الأخرى.

  كتب بتأريخ :  السبت 23-11-2013     عدد القراء :  1548       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced