العلاقة بين الحكم الرشيد والمواطنة الفاعلة وتحقيق التنمية المستدامة
بقلم : د. كاوة محمود
العودة الى صفحة المقالات

في البداية علينا ان ننطلق من قناعة مفادها بان بناء الحكم الرشيد والمواطنة الفاعلة لها علاقة مباشرة بالعمل من أجل التنمية المستدامة. وهذه المسألة قضية مجتمعة، وهي ليست مهمة وزارة او مؤسسة واحدة، فهي تتعلق بعمل جملة من وزارات حكومة الاقليم، اضافة الى عمل مؤسسات المجتمع المدني من خلال وجهة سياسية واضحة وفهم عميق لمفهوم الحكم الرشيد ولمفهومي المواطنة والتربية أو التنشئة السياسية والتعليم المدني، وارتباط الموضوع بمفهوم التنمية المستدامة ووضع خطط واستراتيجيات قطاعية، اضافة الى خطة التنمية، وبلورة الامور ضمن آليات مرنة تتوفر فيها مجالات المتابعة والتدقيق والتقييم، لتشخيص العراقيل والثغرات من اجل تجاوزها وتصحيح مساراتها.
كما ينبغي القول بأن العمل في هذا المجال يتطلب التحلي بالنفس الطويل، واشراك الجهة المستهدفة في وضع الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها ومتابعتها، من خلال الشراكة الحقيقة، والايمان بأن العمل ضمن هذه الوجهة يتطلب تحقيق تراكمات كمية وخطوات تلو الخطوات وان كانت في بعض الحسابات متواضعة، لكي تتحول تلك التراكمات الكمية الى حالة نوعية جديدة تستجيب لسنن التطور والتقدم الاجتماعي.
اننا نواجه مسالة سوسيولوجية حساسة تأتي ضمن نظريات التغيير الاجتماعي، والتي تعتبر مادة اساسية في السوسيولوجيا. فالعلاقات التقليدية التي ظهرت ما قبل الحداثة الرأسمالية لا تتحول من خلال الرغبة او الارادوية الى علاقات مدنية، الا ضمن سياق التطور التأريخي وتوفير مستلزماته، لبلورة فكرة المواطنة في بلدنا، والتي هي لحد الآن فكرة تحمل معها التباساتها او اشكالياتها بسبب طبيعة الدولة والانظمة الحاكمة السابقة، وحالة عدم التوازن في التعامل بين الهويات الثقافية المحلية والهوية الوطنية في الوقت الحاضر.
وانطلاقا من هذه النقطة علينا مراعاة مسألة الحقوق الفردية كأساس للمواطنة ضمن منطلقات الفكر الليبرالي، اضافة الى كون الفرد جزءاَ من مجموعة تمتلك مكوناتها الثقافية، اضافة الى الجانب السياسي والولاءات الايديولوجية.
وعموما يجب ان نقر بأن عملية التربية المدنية وترسيخ قيم المواطنة في بلدنا تتم ضمن اطار التناقضات المجتمعية والصراعات الدائرة، وقدرة قوى التغيير الاجتماعي من خلال توسيع تحالفاتها وتحييد خصومها، وواقعية برامجها والتركيز على الحامل الاجتماعي لمشروع التمدن، لتتحول من سياسات فوقية الى اجراءات عملية، لا تكون محصورة في مجال تفكير النخب السياسية فقط. فالعمل في هذا المجال يتعلق بالصراع حول طبيعة هوية المجتمع ورسم تجلياتها، ويجب التعامل مع هذه الهوية وفق منطق الحركة لا السكون، وضمن هذا التوجه اود ان اشير الى اشكاليات هذه القضية في اقليم كوردستان، آخذا بنظر الاعتبار التناقضات المجتمعة، وحماية التجربة الكوردستانية التي انبثقت بعد انتفاضة آذار/1991، ومراعاة طابع المرحلة الانتقالية في عموم العراق، تلك المرحلة التي تعتبر حساسة في مسيرة الشعوب، وعلى حد قول المفكر الايطالي كرامشي: فان المرحلة الانتقالية تكون صعبة دائماً لان القديم يموت، والجديد لم يولد بعد.

انجازات تشريعية
أنجز برلمان أقليم كوردستان جملة من التشريعات التي تعتبر اساسية في مجال التربية المدنية وترسيخ قيم المواطنة، وفق وجهة سياسية أساسية بهدف بناء نظام حكم ديمقراطي مدني في الاقليم، على اساس مفهوم دولة القانون والمؤسسات الدستورية وحقوق المواطنة، والتساوي بين ابناء كوردستان بغض النظر عن الانتماءات القومية والدينية والمذهبية، وصيانة حقوق الانسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية. كما عدل البرلمان جملة من القوانين العراقية باتجاه المزيد من التمدن وتجاوز اثار سياسات الديكتاتورية. غير ان العمل في هذا المجال لا يستكمل بمجرد وجود تشريعات. فالمطلوب استكمال التشريعات وايجاد آايات مناسبة ومرنة بالاستفادة من خبرات الدول والمجتمعات المتطورة التي أنجزت نجاحات ملموسة في هذا المضمار.

الدولة... المواطن... التباسات في العلاقة
أتت هذه التشريعات ضمن مستلزمات استكمال المرحلة الانتقالية من الديكتاتورية الى بناء الديمقراطية في الاقليم. وانطلاقاً من التعقيدات الموجودة في الوضع الكوردستاني وما تتميز به أغلب مجتمعات المنطقة من اشكاليات حول العلاقة بين الدولة والمواطن، وبسبب الخلفية التاريخية لتلك العلاقة كون الدولة متمثلة بالانظمة الحاكمة من خلال ممارساتها أفرزت نوذجاً قمعياً وكرّست القمع وانتهاك الحريات، وفي النتيجة النهائية لم تحقق الديمقراطية وفشلت في التنمية، طرحت من جديد في الاجندة السياسية على صعيد المنطقة عموما، محاور أساسية تتعلق بالعلاقة بين الدولة والمجتمع من حيث أبعادها وحدودها، ومن خلالها علاقة المواطنين بالأقاليم الذين يقطنون فيها.
وقد ساعدت عوامل وتطورات على الصعيد الدولي للحديث عن اعادة صياغة هذه العلاقة، منها: الاستقلالية النسبية لوظفية الدولة، وتطور مفهوم الدولة من خلال اعادة النظر في وظائفها، بغض النظر عن طبيعة الحكومة التي تأتي وتذهب عن طريق الانتخابات. وساهمت شيوع مفهوم الدولة اللبيرالية الجديدة التي تدعو الى الحد من تدخل الدولة في التنمية، وفرض برامج التكييف الهيكلي، ومن ثم انتقاد تلك البرامج بسبب نتائجها، في انتاج استراتيجيات جديدة للتنمية بالاعتماد على فاعلين اساسين في المؤسسات الحكومية وفي القطاع الخاص، اضافة الى ضرورة وجدود مجتمع مدني فاعل لتنفيذ تلك الاستراتيجيات. وبالتزامن مع هذه التطورات أضافت العولمة حالة جديدة وهي كسر احتكار الدولة للمعلومة.
التنمية البشرية المستدامة بديلاً عن النمو الاقتصادي
أنتجت كل هذه التطورات مفهوم التنمية البشرية المستدامة والتي تعني حسب برنامج الامم المتحدة الانمائي "توسيع الخيارات المتاحة لجميع الناس في المجتمع.. وأن تتركز عملية التنمية على النساء والرجال.. والفقراء والفئات الضعيفة.. وحماية فرص الحياة للاجيال المقبلة والنظم الطبيعية التي تعتمد عليها الحياة" .
وضمن هذة الوجهة جرى التأكيد بأن هدف التنمية: "خلق بيئة تمكينية يمكن ان يتمتع الجميع بحياة طويلة وصحية ومبدعة.. وان النمو الاقتصادي ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة لتحقيق التنمية البشرية المستدامة" .
ركزت جوانب التنمية المستدامة على التمكين، التعاون، الانصاف، الاستدامة والامن. أما العناصر الاساسية فتتجسد بالقضاء على الفقر، خلق الوظائف واستدامة الرزق وحماية التنمية، النهوض بالمرأة.
وفي ظل المتغيرات الراهنة فان حكومة أقليم كوردستان مطالبة بالتركيزعلى وجهة التنمية المستدامة، والتي تستند في تحقيق أهدافها على تنمية القدرة على الحكم الرشيد، وتتطلب هذه الوجهة اعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، من الدولة الراعية الى الدولة الشريكة في التنمية. وهذه العلاقة بمثابة عقد اجتماعي جديد، ولكن يجب أن نقر بأن هذا العقد غير منجز في مجتمعنا، لكننا بدأنا بها ولسنا في نقطة الصفر، ويتطلب هذا العقد مفهوما جديدا للحكم.
الحكم الرشيد أساساً للتنمية المستدامة
أشار البنك الدولي في تعريفه للحكم الرشيد ارتباطا بمفهوم الحكم الذي يعني ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والادارية في تصريف شؤون البلد على جميع المستويات، من خلال مجموعة آليات وعمليات وعلاقات، اضافة الى المؤسسات المركبة التي يعبر من خلالها المواطنون عن مصالحهم. أما الحكم الرشيد فيعني "توزيع الموارد وادارتها من زواية الاستجابة للمشكلات الجماعية ويتميز بالمشاركة، سيادة القانون، الشفافية، الاستجابة، التوجيه نحو البناء، توافق الاراء، الانصاف، الفاعلية والكفاءة، المساءلة أمام الجمهور، الرؤية الاستراتيجية" . وبالتالي نحن أمام صياغة مفهوم جديد للحكم او للدولة من خلال وظيفتها.
أن المجتمع القائم على حكم رشيد شرط مسبق لتحقيق التنمية العادلة الكفوءة والفعالة، وبالتالي ياتي مفهوم الحكم الرشيد ضمن اسس التنمية المستدامة.
ومن البديهي بأن العلاقة الجديدة بين المواطن والدولة تتطلب توفير الثقة. فالمواطنة تعني تمتع الشخص بحقوق وواجبات وممارستها في بقعة جغرافية معنية لها حدود معينة تعرف بالدولة او الكيان السياسي التي تستند الى حكم القانون.
وتتطلب المواطنة المشاركة في الحياة العامة، المشاركة في الانتخابات وفي المجتمع المدني وصفوف الاحزاب. وتأتي مسألة الثقة التي تعني مدى القبول الشعبي لشرعية المسؤولين الحكوميين، أساساً للتواعد التي تنظم النظام السياسي، والقناعة بأن المسؤولين يعملون من اجل تحقيق المصلحة العامة.
ان ما نحتاجه في كوردستان تجاوز مفهوم الثقة العمياء الى الثقة الذكية التي تخلق قدر من الشك المسؤول وتساهم في خلق الرقابة وتفعل آليات المساءلة. وأرى ضرورة التميز بين الثقة السياسية في الحكومة والاحزاب وبين الثقة بالعمل المؤسساتي للسلطات والأجهزة الرسمية، فالأخيرة بحاجة الى نوع من الديمومة، وتساهم في خلق الأمن المجتمعي ويكون بديله الفوضى وتقويض ما أنجز من خطوات في المشروع الديمقراطي المدني، أما الثقة السياسية التي تكون أكثر عرضة للتغيير والتبدل، فتعتمد على مخرجات الحكومة من قرارات وسياسات تتفق مع رغبات الناس في الامن والرفاهية.
تتوفر الثقة السياسية بالحكومة من خلال وفاء الحكومة بالبرنامج المعلن، وتمثيل المجتمع بكل مكوناته دون تمييز، وتوفير ظروف معيشية كريمة، اضافة الى تحسين القدرات وتنمية المهارات البشرية. المواطنون يريدون من الحكم الفعل لا القول والحديث عن قرارات لا تتحول الى واقع ملموس.
وأعتقد بأن تعزيز الثقة بالعمل البرلماني في كوردستان يتطلب توفير حرية أوسع لعضو البرلمان في التعبير عن رأيه الشخصي كونه ممثلاً للشعب، وعدم موافقة الكتلة البرلمانية الأكبر على مشاريع قوانين الحكومية بالاجماع او ما يشبه الاجماع، دوماً.
ترسيخ القيم والمسؤولية المدنية أساساً للمواطنة الفاعلة
تعتمد استراتيجية الحكم الرشيد والمواطنة الفاعلة في خطوطها الأساسية على الترويج للقيم المدنية والمسؤولية المدنية، وعقد شراكات مدنية بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية العامة والقطاع الخاص، وتمكين الارتباط المدني المسؤول. أما استراتيجية المواطنة الفاعلة فهي دعوة للعمل ودعوة الى أدوار وفرص ومبادرات جديدة في العمل المدني والمسؤولية المدنية.. وتعني مسؤولية اجتماعية اكبر.. وقدر اكبر من الشفافية والقابلية للمحاسبة واحترام حقوق المواطنين ومشاركتهم.
ان المواطنة الفاعلة "تعني الانخراط النشط في عملية التغيير الاجتماعي، في التعليم المدني والفعل المدني والممارسات المدنية، وقدر اكبر من مشاركة المواطنين وتأثيرهم في الحكم، وتعزيز القدرات على التعبير وتمكين المواطنين ولا سيما النساء والشباب والفقراء" .
ومن الناحية العملية فان لدينا في كوردستان نقصا واضحا في تجربتنا في مجال توفير الشراكات المدنية التي هي عملية عامة لصنع القرار وتنفيذه ومن خلالها يجري اعلام المواطنين والاتصال بهم والاستجابة لهم ومشاركتهم في ادارة ومراقبة الموارد العامة. وحسب مبادئ الحكم الرشيد وحسب المواطنة الفاعلة فان الحكم الرشيد ليس متندى لتنافس الافكار المتعارضة او مجلسا لتقلي الشكاوي.
اننا بحاجة الى أن تنطلق سياسة الحكم الرشيد في أقليم كوردستان على أساس ان دور المؤسسات العامة في عملية صنع القرار مبنية على اساس اتصالها بالمواطنين ومن خلال الاستجابة لهم، وتوفر الموارد العامة والالتزام بحقوق الانسان، ومشاركة المجتمع المدني واحترام حكم القانون والشفافية في تخصيص الموارد، ومراعاة مبدأ اللامركزية في الادارة ومراعاة الخصوصيات المحلية. وعلى هذا الأساس تاسست مؤسسة الحكم الرشيد (الحوكمة) في كوردستان.
لقد جرى تأسيس مكتب الحكومة والنزاهة شباط/2010، كهيئة مسؤولة عن الاستراتيجية والعمل مع الوزارات والادارات نحو حكومة اكثر شفافية ولتحسين حقوق الخدمات الحقوق المواطنين. وركزت استراتيجية الحوكمة في الاقليم على اربعة مبادئ أساسية وهي:
"مبدأ سيادة القانون.. الخدمة العامة امانة عامة... يجب ان تكون الوظائف الحكومية منفتحة وشفافة.. استخدام الاموال العامة للاغراض التي رصدت من اجلها".

ورغم الانجازات فان المكتب ركز فقط على أربع مبادئ اساسية للحكم الرشيد، في حين ان مفهوم الحكم الرشيد ومبادئه أشمل من النقاط الاربع التي تمت الاشارة اليها. كما لم تربط تلك المؤسسة في عملها بين مفهوم الحكم الرشيد ومفهوم التنمية المستدامة. كما يمكن تلمس ضعف الشراكة في عمل المؤسسة مع منظمات الجتمع المدني، وعدم وجود العلاقة بين هذه المؤسسة والمؤسسات التي تعمل من أجل المواطنة الفاعلة أو التربية المدنية.
وعلى الرغم من الانجازات المتحققة في مجال التشريعات وفي مجال السياسيات ورسم استراتيجيات قطاعية واستراتيجية التنمية 2012 ـــــ 2016، فان لدينا نقصاً في مجال رسم استراتيجية المواطنة الكوردستانية الفاعلة التي توفر اساساً وحاملاً اجتماعياً لمشروع التغيير الاجتماعي ولتحقيق التنمية والحكم الرشيد. وبخلاف ذلك فان ظاهرة التهميش الاجتماعي سواء على صعيد الأفراد أو المكونات أو المناطق، من شأنها نسف كافة الانجازات في مجالات التنمية والحكم الرشيد والتي بذلت لها جهودا كبيرة خلال الأعوام الماضية.
ولأجل متابعة ما جرى تحقيقه والاستمرار في المضي لا بد من تفعيل دور المواطن من خلال وضع منظمات المجتمع المدني أمام مسؤوليتها، عبر اشراكها للتأكيد على القيم المدنية في العلاقات الشخصية، والترويج لتجديد الاهتمام بالمسؤولية المدنية وشرعيتها. والترويج لقيمة المبادرة الفردية، والنماذج الايجابية، وتربية مواطني المستقبل على القيم المدنية واخلاق المواطنة.
كما ينبغي التركيز على اعطاء الفرصة للمواطنين المهمشين وذوي الاحتياجات الخاصة عند رسم السياسات، والتعبير الواضح عن مصالح المواطن، وطرح الحلول البديلة للاشكاليات، وتوفير اعلام افضل للمواطنين بخطط المؤسسات العامة و اولويتها، وحث منظمات المجتمع المدني على تعزيز الشراكة مع الحكومة، والاستمرار في تحسين اداء المؤسسات الحكومية.
ان استراتيجية ناجحة لاقليم كوردستان في مجال المواطنة الفاعلة يجب أن تركز المساواة الجندرية، ورسم السياسات الكفيلة بالحد من الفقر، والترويج والتثقيف والالتزام بالمبادئ الاساسية لحقوق الانسان.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 06-12-2013     عدد القراء :  8503       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced