- أنا مدمن كـلام..لذلك لا تستغربي مني إذا ما تحدثت كثيراً وفي مواضيع مختلفة خلال دقائق..لكني في الحقيقية أتحدث كثيرا لأني أصمت كثيراً..أو لأقل أنني أهرب من نفسي..فلا تحكمي على شخصيتي من خلال ثرثرتي..
لم يكن من السهل على حواء ذوالنورين أن تتماسك، إذ كان غضبها الداخلي واشمئزازها قد وصل مرحلة الغليان..لذا وجدت نفسها تقول له بلؤم واضح وبنبرة سعت جاهدة أن تكون محايدة:
- نحن نراقب أقنعة الآخرين..لا نرى وجوههم لأنهم يضعون الأقنعة عليها..نراقب أقنعة الآخرين التي يظهرونها لنا..حتى الكلام هو قناع قد يخفي الإنسان وراءه عكس ما يبوح به..لكن الناس تحب الحديث والثرثرة..حديث يومي عادي وتافه ودائم عن مشاكل العمل..والأولاد والمدارس..وأين سيقضون أو قضوا الإجازة الصيفية أو الشتوية..عن مشاكل الجيران..والزحام والطابور..والملابس..والموضة..والطبخ..لكننا جميعا نقوم بمثل هذه الأحاديث..ونستمع إليها من الآخرين أيضاً..أي نحن نتبادل التفاهات..
حين بدأت حواء ذوالنورين بالكلام شعر آدم سميث بأنها تعنيه في ما وراء الحديث..لكن هذا الإحساس زال قبل أن تنتهي هي ببعض الجمل التي كانت بضمير الجمع..أحس أنه أمام امرأة ليست سهلة..فقال بنبرة غامضة:
- إنك امرأة حكيمة...رغم قناعتي بأن الحكمة تأتينا دائما متأخرة..وفي الوقت الضائع..وأحيانا ليس الإيمان بالحكمة سوى حماقة..لكن المشكلة لو أن الإنسان يعرف ما ينتهي إليه لما بدأ أي شيء في حياته..
انتبه إلى أنها تنظر إليه. أدرك أنها تفكر في ما قاله، انتبه لأمواج الشك والريبة في أعماقها..لم يستسلم..أحس برغبة في الكشف عن نفسه أكثر فواصل:
- لا تنظري إلي كمدير لشركة .. أنا ذاكرة مثقوبة..أنا من هؤلاء السذج الذين يؤمنون بالخير..ويعيشون في الوهم..يبغضون العنف والكراهية..مؤمن بالحياة..لكن مشكلتي تكمن في أني لست راضياً عن حياتي..ولا أعتقد أن هناك من هو راضٍ عن حياته..فحين أرى الشر في كل مكان..حين أرى دناءة الموظفين حولي..حين أرى الأكاذيب في الكلام المعسول..في التحية المبالغة فيها..في المدائح المجانية..في النهب والسلب والخداع المقنن بنصوص مصاغة بطريقة لا يفهما حتى الذين كتبوها..حين أرى الكل يستغلك..الكل يريد منك..ولا يفكر أحد ما في أن يعطيك شيئاً..عند ذاك أحتقر نفسي وأحتقر الأشياء..أحاول جاهدا تجاهل البشاعة والدناءة..لكني لا أستطيع..كمن معدته مليئة بالحموضة وتصل إلى حلقه لكنه لا يستطيع التقيؤ..أنا إنسان حزين ومعطوب من الداخل..أنا روح منسية..لا تنظري لكل هذا الهيلمان الذي أنا فيه..أتعرفين..الشر هو القاعدة الثابتة.. هكذا كان في جميع الأزمنة..الشر المغلف بالنوايا الطيبة..والخير هو استثناء..حتى صار العمل الطيب والخير والخالي من أية نية أو مصلحة يثير الشكوك.. !!
من حوارات روايتي الجديدة " متاهة الأرواح المنسية"
التي ستصدر قريبا