يوكيــكو رضي الله عنها
بقلم : طارق الربيـــــعي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة لحقوقه ، فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤديــا إلى القيام بحقوق الله

الإمام علي بن أبي طالب .

بينما كان الصحفي والمراسل الحربي اليابانــي شينسوكي هاشيدا يقوم بنقل أخبار المواجهات المسلحة الدائرة بين تنظيم القاعدة الإرهابي من جهة والجيش الأميركي من جهة أخرى في مدينة الفلوجـــة سنة 2004 ، التقى بأحد أطفال المدينة واسمه (محمد هيثم صالح ) والبالغ من العمر 10 سنوات ، والذي تعرض بسبب المعارك لإصابة خطيرة في إحدى عينيه أفقدته الرؤيا بها ، وشوهت ملامح وجهه . فوعده المراسل الحربي أن يصطحبه معه إلى اليابان لإجراء عملية جراحيــة تعيد له بصره المفقود ، وتزيل آثار التشوه .

لكن تشاء الصدف التعيسة أن يتعرض الصحفي الياباني إلى إطلاق نار من قبل عناصر إرهابيــة كانت متربصة بالسيارة التي تقله مع إبن أخته كوتارو أوغاوا (33سنة) وهو صحفي أيضا والمترجم العراقي والسائق ، ما أدى إلى مقتل الثلاثة وجرح السائق . وبذلك دب اليأس في قلب الطفل محمد وعائلتــه وفقدوا الأمل في علاج ابنهم ، لاسيما بعدما عجز الأطباء العراقيين في الرمادي وبغداد من علاجـــه . لكن ما حدث لم يكن في حسبان أحد ، بل قد لا يتصوره العقل الجمعي العربي الإسلامي المشبع بموروثات الثأر والقصاص والانتقام والحقد الأعمى . إذ أن أرملة الصحفي المقتول يوكيكو هاشيدا بادرت إلى تنفيذ الوعد الذي قطعه زوجها للطفل العراقي . فبعد مايقرب من أسبوعين على حادثة القتل تم تسفير الطفل إلى مدينة نومازو اليابانية ، وإجراء العملية الجراحية التي تكللت بالنجاح ، واستعاد محمد بصره ، ثم عاد إلى أهله والبسمة تشرق على محيـــاه .

لكن الأمر لم ينتهي عند ذلك ، بل عمدت أرملة الصحفي المغدور وفي عام 2004 إلى إنشاء صندوق للتبرعات يحمل اسم زوجها ، الغاية منه إنشاء مستشفى الفلوجة لرعاية الأمهات والأطفال ، وفقا للتصاميم العالمية الحديثة في بناء المستشفيــات . وقد تعاطف معها اليابانيــون كثيرا ، وساهموا في التبرعات ، كذلك فعلت الحكومة اليابانية من خلال وزارة الصحة ، ورفدت الصندوق بالمال وخصصت له الأجهزة الطبية اللازمة . وتحرك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبالتعاون مع وزارة الصحة العراقية في إنجاز هذا المشروع الإنساني الكبيـــر .

وفي يوم 19 آب من السنة 2013 تم افتتاح المستشفى في مدينة الفلوجة ، وأتيحت الفرصة ل 29 طبيبا و 358 موظفا تقنيا للعمل فيـــه ، وكانت نسبة الإناث قياسا إلى مجموع العاملين تبلغ 40 في المئة . وبدأ المستشفى يقدم خدماته العلاجية لمئات المرضى يوميـــا . عند ذلك دبت السعادة في نفس الأرملة يوكيكو هاشيدا ، ورددت بخشوع تخاطب روح زوجها ، والدمع يترقرق في عينيها قائلة : اليوم وفيت بأكثر مما وعدت ، فنم قرير العيـــن ، مطمئن النفس .

إن ما قامت به الأرملة يوكيكو عمل عظيم بكل المقاييس ، بما يحمله من دلالات ومضامين إنسانية رائـعة ، تجلت في روح هذه المرأة اليابانية ، وفي درسها الكبير الذي قدمته لنا نحن العراقيون وللعالم أجمع في التسامح الذي يسمو على الأحقاد والضغائن . لقد كانت شديدة الإيمان بأن الحب يجب أن ينتصر على الكراهية ، وان مبدأ العين بالعين والسن بالسن لا يؤدي إلى السلام ، أو يبعث على الإخاء والألفة بين الناس . لم تكن الأرملة يوكيكو تطمح إلى الشهرة ، أو تريد أن تزهو برؤية صورها على أغلفة المجلات ، وتتباهى بإنجاز ما تم إنجازه أمام وسائل الإعلام وفي الفضائيــات . بل عملت بصمت ، وحققت ما أرادت أن تحققه بجد ومثابرة وتصميم ، ثم واصلت حياتها بكل هدوء ، مع إحساس عال براحة الضميــر . هذه صورة مشرقة من مئات الصور التي تتجلى فيها سمات شخصية الفرد الياباني وما تتحلى به من طيبة وتفان ونكران للذات وخدمة للناس وتواضع وتقديس للعمل ، والنظر للإنسان كقيمة عليا بغض النظر عن انتماءاته العرقية والدينية . ولا بد أن نشير هنا إلى أن العقائد الدينية في اليابان والمتمثلة بالبوذية والكونفوشسية وعقيدة الشنتو التي تعبتر عقيدة اليابان الأولى ، كان لها تأثير كبير في بلورة هذه الروح المتسامية على الأحقاد والضغائن . فالشنتو عقيدة متفائلة ترتكز على مبدأ أساسي هو إن الإنسان مخلوق طيب في أصله ، وان الشر لا يأتي منه ، بل من الأرواح الشريرة التي يجب طردها وتطهير النفس منها من خلال الصلوات . فضلا عن ذلك فإن الأسس الفكرية والقيم الإنسانية السائدة هناك كلها تنصهر في بودقة الروح اليابانيــة لتجعلها بالصورة الرائعة التي تبدو عليها الآن . ربما اليوم لا تعرف الأرملة يوكيكو بأن مستشفاها الذي ناضلت لأجل انجازه لكي يخفف من آلام العراقيات وأطفالهن ، قد اغتصبه أوغاد الدواعش ، وجعلوا منه وكرا لتنفيذ عملياتهم القذرة في قتل العراقيين ، وإنهم هَجًروا النساء والأطفال من مدينتهم ، وقتلوا من لا ينصاع لأوامرهم . وكل ذلك وهم يهتفون بإسم الله ، وبإسم الديـــن وبتطبيق الشريعة . فطريقهم إلى الله لا يرونه إلا معبدا بدم الأبرياء ورمي رؤوسهم المقطوعة على جانبيه ، وحرق الأسرى وسبي النساء واغتصابهن وتقديسهم لوثن يسمونه خليفة المسلمين . أكيد إن يوكيكو هاشيدا ستتألم بحرقة بالغة إذا علمت بذلك ، وإنها ستتوجه إلى الله بصلاتها لكي يعم الأمن والسلام في ربوع العراق ، رغم أن قتلة زوجها من العراقيين أنفسهم .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 22-05-2015     عدد القراء :  1947       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced