كنتُ وكلما عدتُ من عملي أراها في مكانها المعتاد ، هناك ، عند مدخل أحد الأسواق التي تفوح منه الروائح الكريـــهة . أراها ممدة على قطعة كارتـــون قذرة تغط في نوم عميق ، نوم هو إلى الموت أقرب . لا يوقظها هديــر مولدات الكهرباء ، ولا صخب الباعة ، ولا وقع أقدام الناس حين يمرون من أمامها . وبالقرب منها تجلس دائما إمرأة متلفعة بالسواد تظل تمد يدها للناس وهي ترمقهم بنظرات متوسلة ، مشفوعة بالدعاء إلى الله أن يرحمهم ويرزقهم ويحفظهم من السوء .في الواقع أنا لا أعرف إن كانت هذه المرأة هي أمها أم لا .
وكل من يعيش في العراق قد رآها مثلي ، في الأسواق ، وأمام دور العبادة ، وعلى أبواب المستشفيات ، أو محمولة على كتفيً امرأة تطوف بها في الشوارع المزدحمة بالسيارات وتحت أشعة الشمس اللاهبــة ، وفي كل مكان تكثر فيه السابلــــة . وأينما كانت فهي تظل مغمضة العينين ، فاقدة للوعي ، لا تشعر بشيء مما حولها . حتى في العيد ، العيد الذي يعشقه الأطفال تكون طفلتنا نائمة ، لم يحاول أحد ان يوقظها من سباتها الطويل ، ويلبسها ثوبا جديدا ، ويمنحها لعبــة جميلة ، لعبة زهيدة الثمن ، لا يساوي سعرها سعر نصف صفيحة صغيرة من النفط العراقي المنهوب ! .
ماذا لو قُدر لطفلتنا أن تستفيق ، وتحضى بيوم خال من الحبوب المخدرة ، وتجاهد لتفتح عينيها لتتصفحنــا ونحن نمر بقربها ، نحمل كيسا من الفاكهة ، أو لعبة صغيرة لطفلنا ، فأي بؤس وشقاء سنرى في ذلك الوجه الشاحب ، وأي ذل وانكسار سنلمح في تلك العينين الذابلتين وهي تلاحقنا بنظرات حائـــرة متسائلة ، تستنجد بنا ، تستغيث ، ولا أحد منـا يغيثها .
لطالما سمعت وأسمع بالمبالغ المهولة التي يجنيها العراق من تصديره للنفط شهريا ، وبالزيادات الكبيرة لسعر البرميل الواحد ، وأسمع عن لجنة للمرأة والطفولة في البرلمان ، وعن خطط واستراتيجيات للقضاء على الفقر ، وعن رواتب المسؤولين وأعضاء البرلمان الخياليــة وتقاعدهم الذي يستنزف خزينة العراق . وأشاهدهم دائما من على شاشات الفضائيات وهم يتصارخون وينادون بحقوق الإنسان العراقي ، وبالعدالة الاجتماعيـــة ، وبالاهتمام بالطفل باعتباره ثروة المستقبل . أشاهدهم وهم ممتلؤن حيوية ، بوجوههم الناعمة الموردة ، ورقابهم الغليظة المنتفخة ، وكروشهم التي تتدلى أمامهم ، وهم يشيرون بأصابعهم المثقلــة بالخواتم الكبيــرة وألمح البقعة السوداء على جباههم من أثر الصلاة ، تلك البقعة التي أصبحت علامة مميزة لهذا الزمن المسخ .
مع كل ذلك فلا تزال طفلتنا العراقيــة نائمة هناك ، وكأنها جثة مسجاة على قارعــة الطريــــــــــــــــــق ، ينهش الذباب بفمها الصغيــر ، ويحوم فوقها كما يحوم على كومة من القمامـــة ، وتحرق أشعة الشمس خصلات شعرها الأسود المشبع بالغبــار . ما زالت هناك يسري المخدر في دمها وينهك قواها ، ويفتك بخلايا جسمها حتى أصبحت طفلتنا مدمنــة . فيا للعار .
عندما تمرون بالقرب منها ذات يوم تمهلوا وخففوا من وقع أقدامكم على الأرض ، فربما كانت طفلتـنا النائمة تحلم بفستان ذو ألوان زاهيــة ، وبإخوة يتضاحكون حولها ويمرحون معها ، وبحديقة خضراء تطير العصافير بين أشجارها ، وقد انتشرت فيها كل الألعاب التي يحبها الصغار ، بينما راحت طفلتــنا تلاحق الفراشات الملونــة بوجه طافح بالفرح والسعادة ، ربما تحلم بعروسة تحتضنها عندما تنام على سريرها وتحكي لها قصصا كثيرة . تمهلوا وخففوا من وقع أقدامكم على الأرض ، كي لا توقضوها من أحلامها الجميلة ، دعوها نائمة كما نامت ضمائركـــم ! .