اصول ودوافع سيكولوجية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

أبصارنا، نحن العراقيين، وأبصار العالم العربي ،والعالم اجمع ، تشْخصُ ، في هذه الأيام، إلى مساحة واسعة في الأرض العراقية ،خاصة في محافظتي نينوى والانبار، التي تغص بآلاف العناصر الوحشية من عصابات الجريمة ، يمثلون جنسيات مختلفة، واعمار مختلفة، يحملون بأيديهم ارقى الاسلحة الفتاكة. يمارسون سلوكا لا يعبر مطلقا عن اي سلوك انساني، لكنهم يمتلكون مهارة تدريبية ، واسعة وحقيقية، من التشنج والعسف والهدم والتخريب وارتكاب اعمال فظيعة بحق ضحاياهم بصورة لم تشهدها جرائم (الإبادة الجماعية) لا في اثناء الحروب الكلاسيكية ،ولا في الحروب الجاهلية او عصور الظلام الوسطى. صار الانسان المعاصر يعقد الامل على العراقيين وجيشهم في انقاذ بلادهم من هذا الداء الهمجي المتسم بالبشاعة الحيوانية .

لا اتطرق إلى موضوعة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) من الزاوية العسكرية أو السياسية وما يتصل بهما من تفرعات المشاركة الوطنية والدولية في حرب كبرى للقضاء عليها،  لكنني اود اثارة انتباه علم الاجتماع العراقي الحديث إلى ضرورة تنفيذ وظيفة راديكالية معمقة في الكشف عن اصول ودوافع التنظيمات الداعشية واخواتها من التنظيم الأم (القاعدة) أو التنظيمات المتفرعة،  لمعرفة حقيقة الدراما الانسانية الكبرى في العراق وسوريا وفي بلدان اخرى قد يتوفر فيها ظرف مناسب بالمستقبل لنشوء دراما مماثلة. لا اشك ان علم الاجتماع هو وحده القادر على فحص وتشخيص التصنيف الاجتماعي لهذا التنظيم وتفكيك مقاييسه للبحث عن علاقاتهم الداخلية والخارجية.

فجأة  انجذب العراقيون والناس اجمعين في العالم كله في 10 حزيران عام 2014 نحو مدينة الموصل العراقية، التي احتلتها خلال ساعات قليلة ، مجموعات مسلحة من تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) بقيادة الارهابي العراقي ( ابو بكر البغدادي) حيث تتالت ،منذ ذلك اليوم وحتى الآن، شتى انواع المجازر البشرية الجماعية (سبايكر /نموذجاً) في القتل والتعذيب والتدمير بحق العراقيين، على اختلاف انتماءاتهم القومية والاثنية والدينية والعقائدية.  صار المواطن العراقي، في كل مكان من بلاد الرافدين، هدفاً من أهداف جرائم عصابات الدولة الاسلامية (داعش) مهما كانت مصادر تفكيره ومهما كانت مكوناته الفكرية إذا لم يعلن الطاعة والولاء للدولة الداعشية.   عاش العراقيون منذ عام تقريباً، خاصة في محيط محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى والانبار مشاهد من العنف والجرائم يندى لها جبين الانسانية. العالم ،كله، رأى مشاهد من التعصب لا يمكن الإحساس بها أو تصور تأثيرها ، تقوم بها عصابات مسلحة مسيطرة ،لا تمانع من الجهر بكرهها الشديد لكل القيم الانسانية. من دون مهمة علم النفس الاجتماعي يصعب على اي باحث افتراض اي تحليل اجتماعي لجماعة ارهابية مثل (داعش)  مظهرها السلوكي الاول هو العدوان ليس فقط على البشر انما على الحجر، ايضا،  إذ مارست عصابات (داعش) تدمير مقتنيات متحف الموصل، تدمير مساجدها وآثارها ، تدمير آثار حضارات آشورية في مدينتي الموصل والحضر ،تماما مثلما يتهدد ،الآن، خطر قيام داعش بتدمير آثار مدينة تدمر في سوريا.

لا شك ان الكثير من الافراد وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، في بلادنا وبلدانٍ أخرى،  يبحثون او يتساءلون عن حقيقة (الشخصية الداعشية) ، عن حقيقة وسائلها ودوافعها في القتل والذبح والتدمير الجماعي وحرق الناس أحياءً  وسبي النساء وبيعهن  وغيرها من اشكال العدوان الجنسي واغتصاب النساء .  

ربما يرى بعضهم ان ميكانزم الفعل اليومي في ممارسات (الشخصية الداعشية) تعود الى رأي  سيغموند فرويد (  1856- 1939) حين  يصف الشخصية العدوانية التي تقتل وتذبح وتفسق وتنهب وتفعل بالبشر الاخرين افعالا مشينة بصفات الاضطراب الجنسي أو الخلل الأوديبي. ربما أن الداعشي – حسب فرويد - يعتقد أن كل شخصية غير داعشية تستحق القتل والذبح والحرق والعذاب لأنه يستحق ذلك بسبب عدم استجابته لهيجان عواطف وانفعالات اجرامية للوصول الى تحقيق (وجود اجتماعي) من نوع خاص هو من نوع ديني انفردت به  الدولة الاسلامية أو دولة الخلافة الاسلامية (داعش)  او غيرها من الدعوات المعادية للحرية الانسانية والديمقراطية وكل شكل من اشكال الحضارة الانسانية الجديدة.

في كثير من الحالات يمكن تفسير الدوافع الجرمية للشخصية الداعشية على اساس نظرية فرويد رغم التحفظات الموجودة بشأنها بسبب عدم إمكانية اي باحث اجتماعي ان يتوصل الى تحليل الشخصية العدوانية الداعشية من دون فهم وتحليل اسباب استعداد هذه الشخصية لتفجير نفسه بتفخيخ جسده  على ضوء دراسة خبرات وعُقد ولادتها وطفولتها ومقدار ما واجهتها من مشكلات وعدوانية وعنف  في الطفولة حيث احتمال تأثيرات  الصراع السيكولوجي، الداخلي، الناتجة عن عقدة اوديب او عن تفاعل ازمات اجتماعية – اقتصادية متعددة قد لا يجد حلاً سيكولوجيا لها إلاّ في بعض اوجه الدافعية الدينية في علاقة (الأنا الدينية)  بــ( هو الديني) وبــ( هو)  الأعلى رغم أنها  علاقة مهزوزة يمكن لقوى واتجاهات سياسية معينة ان تعبئها وتستغلها لأغراض سياسية بحتة ، خاصة حين تصبح القناعة في اعماق (الشخصية الداعشية) ان تفجير (الأنا) بمفخخة  تمهد له السبيل الأسرع لملاقاة (هو) أي النبي محمد تمهيدا للدخول الى جنة (هو الاعلى)  أي  الله . لا شك ان هذا النوع من القناعة تصاغ للإرهابي  ولتثقيفه بها وفق نظريات دينية - إسلامية  على اساس التحريف والتزييف لترسيخ ثقافة عدوانية تبرر قتل الناس ،جماعيا وفرديا.. ثقافة نمطية خادعة  تعتبر كل انسان آخر مهما كان دينه أو عقيدته،  حتى (المسلم الآخر) هو مجرد (كبش فداء) أو (ضحية) من ضحاياه لضمان الدخول الى (الجنة).  ربما هذه (النظرية الدينية) قد تجد الكثير من ذوي أصول إسلامية  يعيشون في اوربا يؤمنون بها ايمانا مطلقا فيلجئون الى الانتساب لها مبدين الاستعداد لتنفيذها  لأنهم قد لا يجدون (كبش الفداء) في اوربا جاهزاً امامهم بسبب الحصانة الامنية الواسعة، بينما (كبش الفداء) مشاع بسهولة ويسر في الشرق الأوسط وأفريقيا والدول المتخلفة عموماً.  

بعد تعقيدات الوضع العنفي في سوريا وجد الداعشيون في اوربا ان الجماعات الانسانية في القرى والمدن العراقية صارت معدة ومؤهلة لأن تكون (ضحية) من اجل الصعود الى جنة الله ، خاصة وانهم يدركون ان الشعب الاوربي يعتبرهم (ارهابيين قتلة) ويصنفهم (مجرمين) ،  بينما يعتقدون ان دول الشرق الاوسط يمكن ان تكون حواضن لهم بمعنى ان العدوانية الداعشية قابلة للتحول من (مكان) الى آخر حسب سياقات (الزمان) ، بمعنى ان العدوانية الداعشية هي في جوهرها شبيهة تماما بالفاشية حيث الافكار تظل مبهمة وكامنة الى حين توفر ظروف تطبيقها وممارساتها فقد يكون الداعشي في (المكان والزمان) الاوربيين هو غيره في (الزمان والمكان) في الشرق الاوسط حيث تفرض عليه في تنظيم الدولة الاسلامية تحت راية داعش السوداء حالات انفتاح تام  لدوافعه الاجرامية ضد الانسانية، بينما كان متميزا بـ(الانغلاق الفكري التام) حين كان في بلد طفولته ، أي بمعنى وجود اضطراب كامن وظاهر في اصول ودوافع الشخصية الداعشية بما يفسر انتقال وتحول الشخصية الداعشية من حالة الانغلاق الى حالة الاذعان والخضوع لصاحب الولاية او لخليفة المسلمين الداعشي (ابو بكر البغدادي).

تحتل العلاقات المتبادلة بين مختلف تكوينات الشعب العراقي بأهميةٍ اجتماعية – تاريخية في الكفاح ضد تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) فأن نموذج المحاصصة الطائفية يضعف قاعدة العلاقات السياسية – الاجتماعية بين الناس وربما يؤدي الاستمرار بها الى بقاء الظروف الملائمة لسيطرة قوى التنظيم الداعشي الأسود ويقدم له معونة قد تكون غير مقصودة، لكنها تقدم ما يساعد تكنيك الدولة على ابقاء الدراما الداعشية في عدد من المناطق والمدن والقرى، سراً أو علناً، حسب الظروف المستقبلية.

الصراع السياسي المحتدم بين مختلف القوى الوطنية ، خاصة قوى الاسلام السياسي في العراق يوّلد حتما مشهدا يساعد، تلقائياً،  في سيطرة الارهاب الداعشي كلما استمرت البلبلة السياسية في الحكومة والبرلمان وفي بعض وسائل الاعلام. كما ان الخطط العسكرية القائمة على محاولة تقديم كبسولات دعائية مضخمة ، هنا أو هناك، بتصريحات تلفزيونية يمكن ان تتحول الى مجرد تخدير ليس غير، إذا ما عرفنا أن اهالي الكثير من المدن المحررة في محافظات ديالى وصلاح الدين النازحين منها منذ عام تقريباً ،  لم يتشجعوا على العودة الى بيوتهم ومدنهم لأن مقاييس واشكال التحرير لم تخلصهم من حالات الخوف والارتباك.  هذا ما يحتم على الحكومة وضعاً واجباً مهماً بضرورة ان تضع امام نظرها وحساباتها السياسية طبيعة الشارع العراقي الحالي المتميز بالاضطراب وعدم الثقة طالما يجد اهالي الشارع السياسي انفسهم خارج العملية السياسية لقادة الدولة الذين اغفلوا، وما زالوا يغفلون، ضرورة توفير الخدمات الاجتماعية لمدنهم شبه المهدمة ، خاصة بما يتعلق بتوفير مياه الشرب والطاقة الكهربائية وظروف سكنية آمنة ومناسبة.

لا بد من العمل الجاد المثابر لكي يزداد شعور المواطن العراقي بأن الدولة مسئولة مباشرة عن تغيير الاطار القديم في قيادتها للمسئولية الاجتماعية – الاقتصادية للمجتمع العراقي وهو الإطار الذي  كان، كما يعرف الجميع، أحد اهم العوامل والاسباب التي مهدت لظهور تنظيمات داعش وانتشار جرائمها الجماعية.

ان على مصممي السياسة العراقية أن لا  يتصوروا  اعداء العراق ،الداخليين والخارجيين، من الدواعش وحلفائهم  يمكن ان يكفوا او يتوقفوا عن مواصلة إلحاق الاذى بالناس الاعتياديين العائدين إلى مناطقهم بعد تحريرها، فقد يكون اهالي المدن أهدافاً من نوع جديد لجرائمهم وعدوانهم . هنا لا بد للدولة ان تزيل من الناس شكوكهم بوعود وتعهدات قادة الدولة فخلال اكثر من 12 سنة كان المواطنون العراقيون قد تعلموا ان تصريحات القادة من الوزراء والمدراء والبرلمانيين لا تحل مشاكلهم .ربما تزداد ريبة المواطنين في دور الحكومة بمستقبل ما بعد سقوط داعش . هنا نجد في داخل الحكومة العراقية والبرلمان من يعتقد ان الدول الغربية غير جادة في محاربة داعش استنادا الى التراث الاستعماري – السيكولوجي في تحليل الكثير من الظواهر والمواقف السياسية الغربية ازاء دول العالم الثالث طيلة القرن العشرين. حتى الولايات المتحدة الامريكية  ما زالت اياديها، العسكرية والسياسية والاقتصادية،  خصوصا القوات الجوية مغلولة في محاربة تنظيمات وتحركات  الدولة الاسلامية (داعش) وما زالت وعودهم ووعود التحالف الدولي جوفاء.  كما أن تصريحاتهم السياسية لا تترجم الى ضربات حقيقية يمكنها ان تكون ساحقة للداعشيين  ، وعلى الرغم من الضوضاء الاعلامية في بلدان اوربا وامريكا لكن التطبيقات التي تنفذها طائرات التحالف الدولي تبدو بنظر الحكومة العراقية قليلة وقاصرة رغم انها ترفض وجود قوات برية امريكية على اراضيها  .

ختاما اقول أن (الشخصية الداعشية)، الداخلية والخارجية، هي شخصية ارهابية تهوى التسلطية التامة على الناس ، ليس في مكان معين أو في زمان محدد، بل هي مساوية تماماً لممارسات (الشخصية الاوتوقراطية) كما يشير الكثير من العلماء في أوربا وأمريكا ، مما يجدر بعلماء الاجتماع العراقيين المعاصرين دراسة الداعشية بعمق، ودراسة اصول اتجاهاتهم التعصبية ومظاهرهم الجرمية.  من دون ذلك فأن الفكر العراقي المعاصر يبقى قاصراً عن الكفاح الحقيقي ضد الغلو والتعصب بكل اشكاله ونوازعه التي تنتج الكراهية والعدوان للإنسانية عموماً وللأقليات الاجتماعية والعرقية والعقائدية خصوصاً.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 05-06-2015     عدد القراء :  2316       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced