تذكر كتب التأريخ أن رجلا فقيرا طرق باب الإمام علي طلبا للمعونــة ، فما كان من الإمام إلا أن نزع بردتــه ولف فيها بعض الطعام ، واخرج يده من شق الباب دون أن ينظر إلى السائل . فلما سؤل عن ذلك قال : كرهت أن أرى ذل السؤال في عينيه ! . فما بالنــا نحن اليوم لا نكره أن نــرى ذل السؤال في عيــون الفقراء والمحروميــن والبؤســاء ، بل نعمد إلى استغلالهم وفضحهم ؟.
ترفع الحكومة العراقية وكسابقاتها من حكومــات ما بعد التغيير شعار تحقيق العدالة الاجتماعية بما يتضمنه من توفير الحاجات الأساسية للإنسان العراقي لكي يصون كرامته ويحفظ ماء وجهه من ذل السؤال وقسوته . بيد ان ذلك لم يتحقق إلا في حدود ضيقة ، فما زال هناك الملايين من المحرومين والفقراء والعاطلين عن العمل ممن لم تشملهم الحكومة برعايتها ، وتنصفهم بقوانينها ، فضلا عن إن وباء الفساد المالي والأخلاقي الذي استشرى في مؤسسات الدولة يحول دون تحقيق العدالة . وبالنتيجة يزداد الفقير فقرا وحسرة والغني غنى وقسوة ، وتزدحم شوارعنا وأسواقنا بالمتسولين من كلا الجنسين ، ليعكسوا صورة بشعة لما وصلت إليه الحال من تدهور وإنحطاط لن تستيطع الشعارات الرنانــة والتصريحات المزيفة التي تبشر بالعدل والرفاه أن تخفيه .
إن ظاهرة التسول ليست جديدة ، وليست غريبة ، لكن الجديد والغريب في هذا الموضوع هو في سلوك بعض الفضائيات العراقيــة التي أخذت تتبنى هذه الظاهرة وتروج لها من خلال برامج متخصصة . حيث يقوم كادر بعض الفضائيات بالذهاب إلى إحدى العوائل المسحوقة للتتحدث عن حرمانها ومعاناتها ، وعند ذلك يفقد الكثير من أفراد هذه العوائل البائسة السيطرة على أنفسهم ومشاعرهم ، فتنهمر دموعهم وينخرطون في بكاء مرير . وفي هذه اللحظة المرتقبة ، يعمد المخرج إلى عرض المشهد بصورة مؤثرة مع موسيقى حزينة ليستدر عطف وشفقة المشاهدين . والسؤال الآن هو : هل يوجد أكثر من هذا تسولا ودليلا على أن دموع العراقيين والعراقيات أصبحت رخيصة إلى هذه الدرجة ، وأمست وسيلة من وسائل الدعاية للفضائيات وأحزابها المتخمة بالمال الحرام ؟! . ثم ألا توجد طريقة أخرى لمساعدة الفقراء والمحتاجين غير التشهير بهم ، وإراقة ماء وجوههم أمام العالم أجمع ؟ . بل فما جدوى الحكومة إذن ، وما فائدة أولئك الذين يتقاضون في الشهر الواحد ما لا نحلم بالحصول عليه طيلة أعمارنا ، فضلا عن مخصصاتهم وامتيازاتهم الأخرى ؟ .
أرى أنه من الأجدر بهذه الفضائيات المدعومة من الأحزاب المتنفذة إن كانت صادقة (وهي ليست صادقة) أن تمد يد العون إلى هذه العوائل دون أن تضطرها إلى سفح دموعها أمام الكاميرات ، وتخاطب المسؤولين في وزراة العمل والشؤون الاجتماعية بدرج أسمائهم ضمن برنامج شبكة الحماية الاجتماعية الذي أصبح نبها للصوص والمفسدين والسراق من كل شكل ولون ، حتى ضاع الحق وتبخرت العدالة ، فلم يتبق للعراقيين سوى الحسرات والدموع يبثونها على الهواء .