أوقات عصيبة لم يمحيها غبار الزمن..
بقلم : بدريه يوسف
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

في ذلك الصباح المشؤوم الثامن من شباط عام 1963، كنا نسكن حي "كراج أمانة" ببغداد، كنت اتبضع من السوق القريب لدارنا والقريب من شركة الزيوت النباتية..لاحظت حركة الناس غير الطبيعية، وسارع اصحاب المحلات بغلق ابوابها، وراح الناس مندهشين يتساءلون عما يجري في المحلة وسألت اسوة بالاخرين عما يجري، قالوا : أنه انقلاب على الزعيم عبد الكريم قاسم! عجلت من خطى قدمي لاصل الى البيت وبلغت زوجي الرفيق عبد الاحد يوسف " ابو سلام " بما سمعته وبدوره سارع الى فتح المذياع للتأكد من الخبر، وفعلا سمعنا بيان الانقلابيين. وشعرنا بجولات وصولات الحرس القومي في محلتنا. في اليوم الثاني زارنا الرفيق الياس حنا كوهاري " ابو طليعة "، وجرى التأكيد على ضرورة اتخاذ اجراءات الحيطة والحذر من الاعداء او لاي مداهمة من قبل الانقلابيين او الحرس القومي، وإتلاف الوثائق الخاصة بالحزب الشيوعي والادبيات. كانت مهمة " ابو سلام " تهيئة مستلزمات الطباعة لبيانات الحزب ووثائقها وكان هنالك مخزن في احد الاسواق لمستلزمات الطباعة في الشورجة، وتكررت زيارة الرفيق " ابو طليعة" مع الرفيق ابراهيم.." ابو ايمان "، بعدها انقطع عنا، وعلمت لاحق من الاخت" ام طليعة " ،انه تم اعتقالهما من البيت بكمين، وهذا يعني اننا في خطر داهم. وبعد انقطاع لاشهر عديدة وبجهود الرفيق ابو سلام تمت اعادة الصلة بالحزب حيث اتى الرفيق كاظم الصفار ورفيق آخر لا اذكر اسمه الكامل سوى "ابو نصيف" الى دارنا، من اجل ترتيب العمل الحزبي والانتقال الى بيت حزبي آخر. وبعدها تفاجئنا بزيارة عدد من الرفاق القياديين كل من الرفيق جمال الحيدري وحسن عوينه وكاظم الصفار ومحمد صالح العبلي ومكثوا معنا في الدار لمدة من الزمن لاداء بعض المهام الحزبية. وفي حينها قرروا اصدار بيان حزبي سريع يفند ادعاءات المجرمين القتلة من الانقلابيين البعثيين والحرس القومي بان الحزب قد انتهى، وانه بخير ولا زال يعمل ويعيد اعادة تنظيم صفوفه رغم كل الظروف الصعبة. وكانت مهمة الحصول وطريقة نقل الورق والكاربون وجلب الطابعة في غاية الصعوبة.

في احد الايام رن جرس الدار، وبعد فتح الباب اندهشنا جميعا بحضور الرفيق العبلي متنكرا، قادما بدراجة هوائية، مرتديا زيا بسيطا ومعلقا على كتفيه (زمبيلين)، يحتويان على اغراض قديمة. بعدها دفع الزمبيل الاول امام الباب وبدوري دفعته الى داخل الدار، وعلق الزمبيل الثاني،على اساس جرت المبادلة بالاغراض.. حملت الزمبيل الى داخل الدار كانت آلة الطابعةّ بداخلها..غمرتنا حالة من السعادة ، وبدأت الاستعدادات لطباعة اول بيان بعد انقلاب شباط الاسود.

وفي اليوم التالي حضر الرفيق العبلي بملابس انقية، وجرى الحديث عن صعوبة توفير الورق والكاربون.. تم التوصل الى فكرة مساعدة من جاراتنا من "الارمن" عبر ابنتهم الموظفة في احدى الدوائر الحكومية لتوفير الورق الشفاف والكاربون (بحجة التطريز)،وكانت لي قناعة بانها كانت على يقين بانها تعلم الهدف من الطلب. وطلبت مني ان اوفر علبة كبيرة عليها ماركة " شركة باتا " لكي تسلم لي الورق والكاربون في دائرتها، وبالفعل جرت الامور بشكل طبيعي،غمرتني السعادة لتنفيذ المهمة وعدت الى البيت مسرعة، وكانت سعادة الرفاق لا توصف. علمت بعد ذلك بانه تم اعتقالها مع شقيقها واستشهدا تحت التعذيب، مع الاسف الشديد لم اتذكر اسميهما.

بدأ الرفاق ابو سلام والعبلي والحيدري بالتهيئة لنصب الطابعة،جلبنا طاولة ووضعناها على الارض وغطيناها بعدد كبير من البطانيات للتمويه ولتقليل صوت الطابعة خشية من الجيران وتم مد سلك كهربائي. كان للاطفال دور مهم في رفع اصواتهم باشارة منا للتمويه وابعاد كل اشكال الشبهات من صوت الطابعة.. تمت طباعة النسخ المطلوبة وتولى الرفيق العبلي ايصال البيان الى المنظمات الحزبية للتوزيع. في احد الايام جاءنا كل من الرفاق العبلي والحيدري وكان معهما الرفيق عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) ، حيث تناولوا وجبة الغذاء وغادروا المنزل، وقبل مغادرتهم تم تسليمي كيس من القماش" بقجه " يحتوي على وثائق مهمة وطلب مني ان احافظ عليه ،حتى لو كلف ذلك حياتي.. وقال لي العبلي سننقطع فترة من الزمن لصعوبة الوضع، وفي نفس الليلة طرق الباب بقوة، شعرت بان هناك وضعا غير طبيعي، فسارعت الى سطح الدار وخبأت الكيس في مدخن حمام الدار وناديت من السطح "لحظة..لحظة، انا قادمة لفتح الباب"،انهم الحرس القومي، الذين دخلوا داخل الدار وقسم آخر منهم في حديقة الدار وبدأوا بالتفتيش، وكانت المفارقة ان الطابعة مع البيان في خزان الملابس ومغطاة بالبطانيات،وكنت قد قفلت الخزان بالمفتاح، ولم يطلب منا فتحه، خرج احد رجال العسكريين وسأله الضابط ان وجد شيئا،فأجابه بالنفي، لم اجد شيء.

ولاجراءات الصيانة خبئنا تحت سلم الطابق الاول نسخا من الجريدة والورقيات والادبيات ولم تفصل العسكريين عن الوثائق سوى الستارة. وعلمنا بعد ذلك بان الهدف الاساسي، هو اعتقال الرفيق ابو سعيد، لانه هرب ولم يتمكنوا من اعتقاله، بعدها طلبوا هوية ابو سلام، التي تم اتلافها مع وثائقه الاخرى، بسبب حكم قضائي سابق بالاعدام بعد مؤامرة الشواف في الموصل. سألتهم عن ماذا تفتشون،قال احدهم: قرد هارب!..كان احد الاطفال يبكي خوفا ورعبا ولكن العسكريين غضوا النظر وخرجوا. الجميع كانوا مصدومين من الذي جرى وكيف تجاوزنا الصعوبة بحنكة وشجاعة.. جرى تفتيش بيت جارنا ايضا من الارمن " بيت زفارت " وشرحت الجارة "ام زفارت" بانه تم اعتقال شيوعيين اثنين من احدى الدور في الشارع الامامي، وآخر هرب باتجاه دار كان فيه كلب كشف وجود الرفيق، وتم اعتقاله، وشرحت كيف تم سحلهم واجسادهم مدماة.

جرى التمويه، بان الامور طبيعة في البيت كسقي الحديقة بالماء، لعب الاطفال. انقطعت الصلة الحزبية، وبعد اكثر من عشرة ايام زارنا الرفيق كاظم الصفار، واعلمنا بان الرفاق الذين اعتقلوا هم جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي "ابو سعيد" مع اهل الدار. كان الخبر كالصاعقة ولم نتمكن من تمالك انفسنا وكنا انا وابو سلام نشعر بالاسى والحزن لخسارة الرفاق فقد كانوا شموعا ونبراسا للمناضلين في التضحية ونكران الذات.

انتقلنا الى دار اخرى بمساعدة الاقارب الى منطقة الامين، وبشكل سري، بعدها تم نقل الرونيو واستمر الرفيق ابو سلام بطباعة الوثائق الحزبية وبدوري كنت اوصلها الى الرفاق.

  كتب بتأريخ :  الخميس 11-02-2016     عدد القراء :  2940       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced