"ثقافات جديدة" بينها الترقيع !
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

لعل ما يتجلى في واقعنا من غرائب، خصوصاً على صعيد السلوك السياسي، يدفعنا الى التأمل في بعض الظواهر التي تبدو باعثة على الحيرة حيناً، وعلى الاحباط حيناً آخر.
وفي مجتمعنا، كما في كل مجتمع، ثقافتان متناقضتان، إحداهما السائدة المهيمنة، والأخرى التي تصارع وتكافح من أجل الجديد الحقيقي، لا ذلك الجديد الزائف الذي تدعيه الثقافة المهيمنة.
ويمكن القول إن "ثقافات" عدة تقع ضمن حدود الثقافة السائدة، بينها، على سبيل المثال، ثقافة الاستحواذ، وثقافة الترقيع، وثقافة "التغليس"، والأخيرة ترتبط بظواهر سلوكية سلبية بينها الرغبة في تجاهل "الآخر" وإقصائه وتهميشه.
أما ثقافة الترقيع فمرتبطة، من بين أمور اخرى، بالاستهانة بحقائق الواقع والحياة، وبـ "ثقافات" يمكن القول إنها "جديدة" لأنها ناجمة عن حقبة استبداد عصري.
وإذا كان من الصحيح القول إن جذور الاستبداد في مجتمعنا تمتد الى تاريخنا القديم، فان هذه الجذور باتت أعمق في عهد الدكتاتورية الفاشية التي ابتكرت نمطاً جديداً من الاستبداد لا نظير له. وهو نمط لم يُكشَف عنه بالكامل، وبالتالي لم يحلَّل على النحو المطلوب، ولم تستمد منه الدروس الضرورية لمسيرة مجتمعنا الحالية ووجهة تطوره اللاحقة، ذلك أن القوى السياسية المتنفذة راهناً منشغلة عن مثل هذه التحليلات "البطرانة" التي لابد أن تلهيها عن غاياتها الأساسية متمثلة في الامساك بالسلطة.
ولا حاجة بنا الى إلقاء أضواء على ما فعله استبداد الفاشية خلال عقود من حكمها. فهذه الفظائع طالت الملايين، وماتزال عواقبها وخيمة. ولا ريب أن "الثقافات الجديدة"، وبينها الترقيع والتغليس والاستحواذ، هي من بين عواقب ذلك الاستبداد الفاشي.
غير أن مما يثير الأسى والاحباط أن من جاءوا "محررين" كان همّهم آخر، وهكذا حال همّ "المقررين". فكلاهما له غايته، وهي غاية بعيدة عن معالجة فظائع الاستبداد ونتائجه المدمرة التي تركها على نسيج المجتمع، وإشاعته الخراب المادي والروحي في الحياة.
ولسنا بحاجة الى كثير حديث عن نمط تفكير المتنفذين وسلوكهم العملي. فما يجري الآن من مآسٍ يشكل دليلاً ساطعاً على أنهم لا يبالون بمصائر الملايين ولا بمستقبل البلاد. ولعل هذه اللامبالاة وسواها من أنماط السلوك والممارسة هي حاضنة لثقافة الترقيع وسواها من "الثقافات الجديدة".
أما الترقيع فنجد أفظع تجلياته في هذه العاصمة التي وصفت، ذات يوم، بأنها "كعبة المجد والخلود". ويكفي المرء القول، تعميماً، إن حنفيات البيوت فيها عاطلة، متكسرة، عصية على الفتح، ويصلحونها بالترقيع، وهي طريقة شائعة في حقل التصليح. أما حنفيات العقول فحدّث ولا حرج !
وأما حاملو ثقافة الترقيع، وهم من تجد بين صفوفهم "متنفذين" ينهون ويأمرون، حتى على الرغم من فقدانهم المصداقية، فيصولون ويجولون، متباهين وسط امتيازاتهم، و"مغلّسين" عن معاناة "الآخرين" المريرة، بل وعاجزين عن الاحساس بمثل هذه المعاناة.
وهذه الثقافة الترقيعية تنتج أفراداً يعودون دائماً الى الماضي باعتباره الأفضل، ويتمسكون بالوصفات الجاهزة، وهم مغفلون ذوو صيغ مبتذلة، يتعاملون مع الواقع كحجر جلمود، وينتشون بالاستعراض الفارغ أمام الأضواء، بينما يخشون من التعددية والتنوع. وهم، قبل هذا وذاك، مولعون بالاستحواذ على "أشياء"، ومصادرة أصوات، بينها أصوات الناخبين، وبينها، أيضاً، أصوات النساء التي يغيضهم، بل ويرعبهم ارتفاعها، وخصوصاً عندما تنهض مطالبة بحق، وساعية الى اكتشاف حقيقة.
لكن المعضلة الأعظم تتجلى في أن ثقافة الترقيع والتغليس والاستحواذ وسواها تبدو مألوفة، مثلما تبدو شوارع وأرصفة دار السلام في أعين الناس الذين تدجنوا فألفوا نفاياتها ومياهها الآسنة ومشاكل اختناقاتها المرورية، وغير ذلك الكثير مما لم يعد يلفت الأنظار من فرط تكراره وشيوعه. فهذا الانحدار المأساوي لا يثير الاحتجاج والمقاومة، ذلك أنه تحول الى جزء جوهري من ثقافة مهيمنة، أي ثقافة مقبولة من جانب "أغلبية صامتة" لم تعد، على ما يبدو، قادرة على المعارضة، طالما أن فواجع ونوائب تدفعهم الى حافات اليأس.
ومما يعمق المأساة أن القوى السياسية المتنفذة تبدو لامبالية بهذه الظواهر، عندما تضع حلولاً لبعضها، سريعة، ومؤقتة، وعرجاء، ومرقّعة، تسهم، هي الأخرى، في المزيد من الانحدار.
* * *
وسط هيمنة "الثقافات الجديدة" يواجه أهل المصداقية آلام المعاناة، بصمت غالباً، بينما يرفل "المرقِّعون" بنعيم يشغلهم عن معضلات الملايين بقضايا "أعظم".
لماذا لا يخشون من النور وأهله، مادام الترقيع يسهل في الظلام، مثلما تسهل كل تلك الظواهر المرتبطة بالترقيع ؟ ولماذا لا يرقّعون ما دام الترقيع سبيلاً الى ضمان السلطة والامتيازات عبر إشاعة الخنوع ؟
وكيف ينهض الناس إذا كانت هذه "الثقافات" مهيمنة وسط أجواء إحباط كان آخر تجسيداتها قانون الانتخابات المجحف "المرقَّع" وإقراره الأكثر ترقيعاً ؟
هل تتذكرون قصيدة الملا عبود الكرخي الشهيرة "قيّم الركّاع من ديرة عفج" ... !؟
ليت محمد بن علي الهمداني كان حيّاً ليرى بغداد الخراب التي قال عنها ذات يوم:
فلم ترَ عيني مثل بغداد منزلاً
ولم ترَ عيني مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً
وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا ...

طريق الشعب

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 22-12-2009     عدد القراء :  2187       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced