صورة الجنائزية البريطانية بعيون الرأسمالية الاوربية
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

وقعت شعوب القارة الاوربية كلها يوم 23 حزيران أمام خط انحداري جديد بنظام مركب بين (المضمون) و (التعبير)، بين مستوى عاطفي داخل الذهن الفردي والمستوى العنكبوتي الرأسمالي الجماعي، حين انبثقت (سيولة كلامية)، واسعة وانفعالية، داخل الحكومات والبرلمانات والأحزاب البورجوازية في أوربا والعالم وداخل الأطر الفردية في مستويات  المجتمع البريطاني كافة .

جرفت (السيولة الكلامية) على الفور أشخاصاً واشياءً. أول الاشخاص المجروفين كان ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا حيث يفترض تقديم استقالته خلال 3 أشهر. أول الأشياء المجروفة هو المركب الاوربي الاتحادي.

ما معنى ذلك ..؟ هل يتقاطع مع الديمقراطية البورجوازية أم أنه يعيد تنشيط مفرداتها وعلاقاتها وعلاماتها..؟  أم أنه يحمل لولبيات جديدة داخل اطار النظام الرأسمالي الاوربي ومن ثم العالمي..؟  

اسئلة كثيرة تمتزج عند المواطن الاوربي هذه الايام بالنقد والفحص الدقيق للبحث عن عيادة المعالجة .

بصدمة غير متوقعة اخترق استفتاء الشعب البريطاني يوم 23 حزيران 2016 كل آفاق الدنيا بفوز المصوتين على  مغادرة  الاتحاد الاوربي والتحرر من التزاماته ومسؤولياته. نتيجة الاستفتاء كانت نقيضاً ليس لخيال ما يقارب نصف الشعب البريطاني، بل كان نقيضاً لخيال سكان اكثرية القارة الاوربية. كثيرون صاروا يتساءلون : هل كان قرار الاستفتاء (رحيلاً) أم (هروباً) أم (انفجاراً سياسياً) تعبيراً عن شكل من اشكال الازمة الرأسمالية العالمية، استنادا إلى ما رسمه كارل ماركس وآدم سميث من خطوط وعلامات وخرائط وتحاليل مرض لا يمكن الشفاء  منه في جسد النظام الرأسمالي..؟  كما ان ابرز أدباء بريطانيا في العصرين ، القديم والحديث، من امثال توماس هاردي وشكسبير وجورج برناردشو وفرجينيا وولف وت . أس إليوت  وكولن ولسن وغيرهم  اكتشفوا أن الشخصية البريطانية هي شخصية متكسرة على صخور (الجغرافيا)، خاصة صخور الجيوبوليتكا. ظلت بريطانيا طوال عمر وجودها السياسي تزاول (الصيرورة الدائمة) على اساس مقولتي (الحاضر والمستقبل)، معاً،  لاستيلاد (بريطانيا جديدة) أو (بريطانيا متجددة)  . كلاهما الجديدة والمتجددة تقدم مساحة سياسية واسعة امام قادة البلاد سواء كانوا من حزب المحافظين او من حزب العمال ان يتحركوا عليها بنسبة عالية من التفاؤل بالنجاح كي لا تشيخ بريطانيا أبداً.

تُرى هل أن خطوة بريطانيا الجديدة هي (خطوة إلى وراء) أم  هي تكسير لقيد سياسي – اقتصادي ادركت آلامه  على معصميها  بعد ما يقارب من خمسة عقود من العمل الأوربي المشترك..؟   هل أحست بنوع من الاختناق في وقت كان الشعب البريطاني يشاهد مباريات  بين (منتخبات قومية)  في أوربا تحركت فيها (القومية البريطانية) منتفضة ضد الاتحاد الاوربي..؟

في حزيران من هذا العام انطلقت بشكل واضح الروح القومية على شاشات القنوات التلفزيونية الأوربية  كافة يشاهد فيها العالم انفعال واشتعال الروح القومية الفرنسية والالمانية والروسية والبريطانية والايسلندية والايطالية وغيرها.. فهل كانت هذه السباقات بين اقوام أوربا سبباً في إثارة (رغبة المواطنين) في بريطانيا وتحريضهم على التصويت بكلمة (نعم) لمغادرة الاتحاد الأوربي، بينما كانت جميع استطلاعات الرأي تشير قبل يوم 23 حزيران إلى أن عواطف الأكثرية تتحرك مع البقاء ضمن الاتحاد الاوربي..!  ربما هذا المستوى القومي السطحي كان عاملاً إضافياً احتوى القفزة البريطانية نحو الخروج من الاتحاد.

الخروج من الاتحاد الاوربي كان أول وأكبر ضربة للعولمة، التي وجدت فيها الرأسمالية العالمية مناخاً مكثفاً ذا تشكيل موجز ، خصوصا بعد انهيار (الأممية الاشتراكية) بتفكك دول الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في بداية تسعينات القرن الماضي ، حيث خلق هذا التفكك صنفاً متفردا في زمان التطور الكبير للرأسمالية العالمية على قاعدة التأثير والتأثر في الثورة العلمية – التكنولوجية العالمية وهي فسحة كانت عائمة غير مستقرة في الدول الاشتراكية السابقة بفعل صنفها المتخلف من الادارة البيروقراطية وبمستوى واسع من اخطاء ايديولوجية وتطبيقية .

ليست بريطانيا دولة اعتيادية في  الشكل والتكوين والبنيوية الديمقراطية، بل هي دولة لها طابع خاص أوجد - لها وفيها - صيرورة ومسار مختلف عن غيرها من دول القارة الاوربية ، قبل الثورة الصناعية في ستينات القرن الثامن عشر  وبعدها،  هي دولة كانت رمزاً للسيطرة الاستعمارية في العالم حيث تنوعت فيها اساليب السياسة منذ تأسيس شركة الهند الشرقية بنهاية القرن السابع عشر،  ومنذ تحولها إلى دولة امبريالية حيث تميزت تلك الاساليب بالمكر والخداع ومحاولات تجنب الخضوع وفرض إخضاع الآخرين لمشيئتها ولمصالحها.

ترى هل تريد بريطانيا العودة لهذه الاساليب تستخدمها مع شقيقاتها الدول الرأسمالية الاخرى لصياغة مواقف جديدة تكسب منها مصالح جديدة ومكتسبات اقتصادية جديدة..؟ أم الهدف هو إرضاء الشخصية البريطانية المختلفة بكثير من صفاتها عن الشخصية الاوربية عموماً، أم أنها تريد أن تعمل مع غيرها من البلدان الرأسمالية بآلية مزدوجة..؟ أم انها تريد الذهاب مع الرأسمالية الأمريكية إلى مدى أبعد لكي تضمن فوزاً اقتصادياً في المستقبل البعيد.

ربما يحتاج الوضع برمته الى محلل نفسي ليكشف عن حقيقة المرض الذي تعاني منه الرأسمالية البريطانية أو لكشف المرض، الذي تعاني منه القارة الاوربية أجمع ، مما يجبر بريطانيا على الخروج من (مستشفى الاتحاد الاوربي) كي لا تصاب بفيروس من فيروساته ولا  بمرض من امراضه العقلية، ليس وفق نظرية فرويد النفسية، بل وفق نظرية كارل ماركس الاقتصادية.

المعروف من كتابات الأدباء البريطانيين تأكيدهم الدائم على (طموح) الشخصية السياسية البريطانية في تغيير نمط الحياة البريطانية كلها بين آونة وأخرى لأن (التغيير) في (العرف) البريطاني هو نوع من التجريب الملموس لرفع قدرات الرأسمالية البريطانية في مواجهة واقع الازمات ،التي لا تكف عن الهيمنة البنيوية، بين فترة وأخرى، داخل الجسد الاقتصادي البريطاني، مما فرض على المصوتين خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي كي لا تظل الدولة البريطانية مجرد آلة ضئيلة أمام حظوظ دول اوربية أخرى داخل (اتحاد) لا تجد فيه قدرة مضاعفة تنسيق امكانيات بريطانيا العظمى، كما كانت سلسلة دورها المتعاقب منذ قيام الثورة الصناعية حتى الآن.

في الحقيقة يمكن قراءة عدة اتجاهات في المواقف البريطانية نفسها عن نتائج الاستفتاء:

1 – هناك موقف يرى أن الخروج من الاتحاد الاوربي يعني وضع الكيان البريطاني في منعطف عميق الخطورة ، سياسيا واقتصاديا . الغارديان كتبت مقالا افتتاحيا تحت عنوان "اقتصادنا واتحادنا ومكانتنا في العالم معرضة للخطر".

2 – موقف اخر يجد ان الخروج من الاتحاد الاوربي يعني ميلادا بريطانياً جديداً. كما عبرت عن ذلك عدة صحف بريطانية كبرى.

3 – موقف اخر يجد ان نتيجة الاستفتاء يعتبر قراراً تاريخياً استعادت فيه بريطانيا سيطرتها على بلدها، كما قالت جريدة الديلي تلغراف بالرغم من أن الاستفتاء اظهر انقساما عميقا في الداخل.

4 – موقف رابع يجد أن نتيجة الاستفتاء سيؤدي حتما إلى مزيد من المطالبة الداخلية بمزيد من الانقسامات داخل المملكة  . المعروف أن المملكة المتحدة هي بالأساس اتحاد ديمقراطي بين (بريطانيا العظمى) و(ايرلندا الشمالية).  ربما يأتي يوم قريب ينادي به الشعب الايرلندي بتكوين دولته والانفصال عن المملكة المتحدة . ربما يطالب شعب اسكوتلندا بذلك ايضاً. ربما العديد من الجزر البريطانية الصغيرة في بحر الشمال او البحر الايرلندي تخطو نفس الخطوة.

5 - يخضع للمملكة المتحدة أربعة عشر إقليماً تسمى أقاليم ما وراء البحار البريطانية التي هي ليست جزءاً دستورياً من المملكة المتحدة  لأن لديها حكم ذاتي مطلق وتسيّر شؤونها بنفسها ، لكن شؤونها الدفاعية ترجع للمملكة المتحدة. ربما تطالب شعوب تلك الاقاليم الى تطوير الحكم الذاتي الى نوع اعلى من الكونفيدرالية تقوم على استقلال تلك الاقاليم. (المملكة المتحدة دولة ذات نظام ملكي دستوري، وتعتبر دولة إتحادية بموجب قرار سنة 1800 تتكون من أربع أقاليم وهي: إنجلترا وأيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز.  يحكمها نظام برلماني وتتمركز الحكومة في العاصمة لندن).

من هنا يمكن أن نعرف درجة وقوة القرار البريطاني لا يتعلق بـ(حركة عاطفية) للشعب البريطاني،  بل هي محاولة في خلق (علاقة جديدة) قائمة على درجة وقوة (الحرية البورجوازية ) التي تسعى لها بريطانيا ،  تريد بها  ان تبتكر لنفسها - كما يبدو-  آلة تنسيق جديدة تنتقي فيها لوحدها عناصر التكنولوجيا والادارة والسياسة المؤهلة لقيامها بفروسية عالمية جديدة تعيد لنفسها ولمصالحها الرأسمالية مجدها الامبراطوري، الذي كان متوفرا لها اوربيا وعالميا في اعقاب الحرب العالمية الأولى.

مجموع العواطف البريطانية البالغة بالاستفتاء نسبة تقل عن 52%  ستظل مجرد رغبة بريطانية عاطفية لن توفر لها في ظل الظروف العالمية سيراً متجانسا وحيداً، منفصلاً عن الرأسمالية الاوربية ذات الرؤوس المتعددة حيث تتداخل بعض اجسامها مع روسيا وبعضها الآخر مع دولاب تنسقه المانيا – فرنسا ، بينما تواجههم جميعا تنسيقيات اخرى  في مقدمتها التنسيقية الامريكية والتنسيقية الصينية وهما تنسيقيتان متقاطعتان لكنهما مؤثرتان على بريطانيا.

ليس غريبا ان يتمكن أحد  بوصف القرار البريطاني انه يحمل صفة من صفات الكاتب الروائي الجيكي فرانس كافكا رائد الكتابة الكابوسية، الذي يجد في كل قرار رأسمالي، غرابة وعبث.

كثير من القادة السياسيين الاوربيين منهم انجيلا ميركل وفرنسوا اولاند وجدوا بالفعل أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوربي  كابوس جديد  سيظل يخيم على أوربا لجيلين قادمين إذا لم يتلافاه الشعب البريطاني نفسه باستفتاء ثان يعيد بريطانيا الى الاتحاد الاوربي  إذ تقتضي وحدة المصالح الرأسمالية العالمية في زمان الازمات والانكسارات المتتالية.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 01-07-2016     عدد القراء :  2871       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced