حينَّ دخل فكر ماركس حياة المفكر حسين مروّة (1)
بقلم : نبيل عبد الأمير الربيعي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

وُلِدَ المفكر حسين مروة عام 1910 في قرية "حدّاثا" قضاء "بنت جبيل" في جنوب لبنان ـ أخذ دراسته الأولى في بنت جبيل والنبطية. عام 1924 رحلّ صغيراً وبعمر الثامنة من قريته إلى النجف ومعهُ حُلم العائلة الكبير أن يصبح شيخاً مهيباً مرموقاً كوالده, ذلك كان حلمه الأول, سبق كل أحلام الطفولة, لبس العمامة والجبة قبل أوانها الطبيعي كرمز للحلم ذاته أولاً, وكأداة إلزام له بموجبات الحلم ثانياً. لم يستطع الحلم أن يعيش معهُ في النجف أكثر من عام واحد, فبدأ الحلم ينتابه الضمور والذبول في ذاته, حتى رأى مروّة خاطراً قاهراً صارماً يعترضه ويريد أن يحملهُ على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية, وهي مسألة تحديد وجهة المصير, مصير حياته كلياً.

      وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم إلى المجهول, وغابت من حياته نهائياً صورة الشيخ المهيب المرموق التي كانت هي نفسها صورته كما رسمها في الحلم, لكن المجهول صار معلوماً, هو البحث عن العلم نهجاً وهدفاً معاً, بقي في النجف وتابع دراسته رغم كل الأسئلة المستنفرة في داخله, وبقي مروّة يتابع ويختار رغم سني دراسته الأربع عشرة, حتى امتلك حريته في اتخاذ القرار, هذا الشعور حيث فتح لهً أبواباً للدخول في عالم أوسع للقراءة والدرس للعلوم (الحلال), وحدها في عرف النظام الدراسي النجفي آنذاك. لكنه أخذ يقتحم بأسئلته الخطوط الحمراء من مكانها التقليدي الفاصل بين (المحرمات) من أنواع المعرفة البشرية المعروفة ويقتلعها واحداً واحداً من مكانها التقليدي, بادر مروّة لتنظيم (يوميات) القراءة والدرس لكي يتوافر له التوازن واختياره بين لون المعرفة الذي تقدمه له النجف من دراسات علوم المنطق والنحو والبلاغة وأصول الفقه والفقه الإسلامي, وبين فسحة الاستقلال الفكري وحرية المناقشة الجدية مع العلم والنص دون كوابح.

    كان الوصول إلى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف لبلدان العربية, ومن مصر ولبنان بخاصة, متيسراً في النجف, أي خارج أسوار المحيط الدراسي الديني, يقول المفكر حسين روّة في أحد النصوص (من النجف دخل حياتي ماركس) :"كان يتوافر لنا هناك أن نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والكتّاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الأول فما فوق من القرن العشرين, وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والأدبية المترجمة عن مفكرين وعلماء وأدباء عالميين..مادة القراءة (المحرمة) علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعايها, ونحاول جهدنا أن لا ندع لحظة من الزمن تتسرب من أيدينا هدراً دون كسب معرفة ما". هذه المرحلة من حياة مروّة كانت هي مرحلة الخصب المعرفي, فرأ فيها مروّة أشتاتاً من المعارف لا تنتظمها وحدة, بل يتخللها الاختلاف حتى التناقض, قرأ الأدب الرومانسي, مع الفكر العلمي, مع الكتابات العلمية الخالصة, مع البحث الاجتماعي, نظرياً وميدانياً, تلك الكتب وذلك الوهج النفاذ هو الذي علمه الكثير ومهدّ له الطريق إلى ماركس, كانت كلمة (الاشتراكية) تتردد كثيراً في قراءاته ومنها القراءات النهضوية من كتابات نقولا حداد, صاحب مجلة (السيدات والرجال), وروايات فرج أنطوان ذات النزعة الاجتماعية, وكتابات إسماعيل مظهر وبحوثه التي تصدر في مجلته (العصور) المصرية المعروفة باتجاهاتها المادية, ثم النتاج الطليعي لشبلي شميل, الذي قدّم إلى الفكر العربي والثقافة العربية أول مرّة نظرية التطور الداروينية, التي تعتمد النظرية على استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطوّر الطبيعة والمجتمع, فضلاً عن سلامة موسى وأثره الفكري على مروّة في ذلك العهد, وأثر مجلة (المقتطف) بما كانت تُعني به من إضفاء للطابع العلمي الغالب على مجمل ما تنشره وقتذاك.

    كانت رواية (الدين والعلم والمال) لفرج أنطوان وهي رواية أقرب للبحث الفلسفي الاجتماعي, وقد اطلع عليها مروّة عام 1926م, من خلالها تعرف مروّة على ماركس وفكره, أنهى دراسته في جامعة النجف عام 1938. يقول المفكر حسن مروة :"لكن ماركس هذا الذي ألتقيته عند فرج أنطوان, لم استقبله بارتياح, ولم أشعر أنه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلفة للاشتراكية... فماركس هذا هو أولاً – فيلسوف منّا – أي من هؤلاء العمال الذين يبتسرون حل المشكلة الاجتماعية, الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحل في اشتراك العمال في ربح العمل.. وهو مع ذلك – ثانياً – من أشد أنصار العمال غلواً, وهو – ثالثاً – له رأي في الملكية يناقض رأي أرباب العمل.. كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو فيلسوف من الفلاسفة؟ رغم هذه الهواجس المقلقة, وقع في نفسي أن ماركس هذا لا بدَّ له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم (الاشتراكية).. لكن, كيف سأصل إلى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربه هذه؟ بدءاً من هذا السؤال, بدأتُ أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس.. ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزل في النجف.. لكن ماركس (الماركسي) تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الأّول, عند فرح أنطوان, مع ماركس (غير الماركسي).. تأخر حتى أنعقدت لي صلة خفيّة مع (الشيخ) حسين محمد الشبيبي (هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي أعدمه النظام الملكي مع الشهيد الرفيق فهد في بغداد عام 1947..".

    منذُ انعقاد هذه الصلة دخلت علاقته الصحيحة والعلمية مع ماركس (الماركسي) وأخذ يقرأ العلم الماركسي دفعة دفعة, حتى حصل على البيان الشيوعي كهدية من الرفيق الشهيد الشبيبي شرط أن يقرأها أكثر من مرة, واحتفظ المفكر مروّة بهذه النسخة مفعماً بفرح المعرفة بأضوائها الجديدة الكاشفة, لكن هذه النسخة اختفت بشكل مفاجئ, ثم تعرف على كتاب (رأس المال).

    شارك المفكر مروّة في وثبة كانون الوطنية والديمقراطية التقدمية في نهاية عام 1947م, لم يكن شيوعياً في تلك الحقبة بل كان كاتباً وطنياً يكتب بصراحة وجرأة موقفه الوطني في صحف بغداد ولا سيما جريدة (الرأي العام) لصاحبها الجواهري, وفي مجلة (الحضارة), حتى جاء أمر إبعاده يوم 9/6/1949 من العراق قبل أن يصير الانتماء عضوياً بالفعل  أما مسألة الانتماء الحزبي فقد تأخر حتى فور وصوله بيروت أصبح شيوعياً خطراً.

    وبعد أحداث بيروت الطائفية هنا جاءت المفاجأة ويومٍ داكن من أيام شباط العاصفة يوم 17/3/1987م, حيث تسللت الجريمة العمياء في ثوب الخديعة, اقتحم مسلحون أدوات منزل المفكر الشيخ الثمانيني إلى سرير حسين مروّة, أنهضه أحدهم عن السرير.. أوقفه.. وضع فوهة مسدسه, كاتم الصوت, في أسفل ذقنه.. وأطلق رصاص الجريمة.. فتفجّر دماغ حسين مروّة, واستباحة دمهً الطاهر وهو رهين المحبسين؛ الشيخوخة والمرض, كان منظم الجريمة العقل المريض, هذا العقل الذي يخاف الضياء والفكر, هذا العدو المريض لأصحاب العقول, وهو يظن أن قتل الدماغ يذهب بضياء العقل ومفاعيل نتاجه المعرفي.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 23-06-2017     عدد القراء :  1533       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced