الدين مدنيٌ فـي العراق
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

تسلط فكرة "الدين المدني" الضوء على الجوانب الديناميكية بين الحياة الدينية والحياة المدنية في المجتمعات البشرية وفي مقدمتها المجتمعات العلمانية الحديثة في أوروبا وأمريكا الشمالية التي لم تفلت من دائرة الصراع بين الدين ومتطلبات الحياة الاجتماعية المدنية بطريقة تشبه إلى حد كبير ما يحدث من جدل وصراع في مجتمعاتنا التقليدية. حصل هذا بسبب سعي ممثلي المؤسسة الدينية الكنسية إلى فرض هيمنتهم على المجتمع حتى بعد الدخول في مرحلة وضع السنن والدساتير والتشريعات التي تفصل على نحو واضح ومحدد بين الدين والدولة. وعندما لم يحسم الأمر لصالح الأغراض الأحادية للمؤسسة الدينية الكنسية الملحاحة بطبيعتها، فقد حدث نوع من المصالحة بين الطرفين من خلال الاتفاق ضمنياً وفيما بعد علنياً على فكرة "الدين المدني"، التي تسمح بقدر من التعبير الأدبي والوجداني عن القيم الدينية الأثيرة لدى جموع المؤمنين من المواطنين من جانب وحاجتهم إلى احترام مطالبهم في المحافظة على مقاييس حياة مدنية تكون الغلبة فيها للقانون والدولة وإرادة الجماعة المحلية، من جانب آخر. وهذا ما يعبر عنه من خلال عبارات "بارك الرب في البلاد" و"على بركة الله نتقدم" وما إليها مما يتردد في الأناشيد الوطنية وغيرها من النشاطات الاجتماعية العامة في هذه البلدان. يشير مفهوم الدين المدني من حيث الأساس إلى تأثر الدين بالمجتمع ليصبح معبراً عنه ومطالباً بحاجات الشرائح الاجتماعية المتنوعة ولا يكتفي بالدعوة لممارسة طقوسه وعباداته بمعزل عما يعتمل فيه بل يكون أذناً له وعيناً عليه. يسلم العارفون في هذا المجال أنْ لا وجود لدين يمارس خالصاً من أجل الدين وإنّما هناك على الدوام سلسلة من الطلبات والمرامي التي يسعى الأفراد في المجتمع إلى الفوز بها ليبرروا إيمانهم ويواصلوا تعزيز زخم اعتقاداتهم. فالناس يمتلئون بتطلعات وطموحات ومطالب عملية يريدون تحقيقها. وعندما يعجزون وهذا ما يحدث في الغالب فإنّهم يتوجهون إلى الدين لأنّه الملاذ الذي لا يتحرجون في الكشف عما يبغون في حضرته وجلاله آملين أنْ يكون قادراً على إشباع ما يتوقون إليه. ويبقى التحدي كيف يوازن الدين بين المحافظة على قوة التأثير في أذهان أتباعه والسائرين في ركابه وبين القدرة على تلبية احتياجاتهم المادية الملموسة وتطمينها. تظهر والحالة هذه أهمية مقولة الإمام علي عليه السلام: "القرآن كتاب مسطور لا ينطق وإنّما ينطق به الرجال". إنّه يعتمد على الطريقة التي يفسر فيها الأفراد النص المقدس استجابة لحاجات ومتطلبات الجماعة التي تتشكل بحسب التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشون في خضمها.

ولا ينأى العراق بعيداً عن مفهوم الدين المدني الذي يعبر عن نفسه في أكثر من ممارسة وتقليد ليشهد على مدنية الدين وليس الدين من أجل الدين. خذْ على سبيل المثال أنّ العراقيين يقدسون العلم الوطني ويتوقفون طويلاً عند ما ينبغي أنْ يكون عليه من حيث الألوان والرموز ذات الصلة بالمقومات الثقافية التي يحترمونها ويعتبرونها من وسائل وحدتهم وتضامنهم. ويختلفون ويتحاججون بقوة بشأن احتمالات تغييره أو إعادة النظر في دلالاته الرمزية لما يمثله بالنسبة إليهم من قوة نابضة بالتاريخ والسياسة والحياة. ويؤدون النشيد الوطني بخشوع ووجدان متوهج في أي مناسبة رسمية يقومون بها مثل افتتاح حفل معين أو الشروع بأعمال مؤتمر علمي أو ثقافي وطني أو محلي من أي شكل كان. وفي المناسبات الدينية التي تستقطب أعداداً لا حصر لها من الزوار تهدر الحناجر بالأهازيج الوطنية والأخلاقية لتعبر عن رغبتها في أنْ تلقى الشفاعة لدى من يمكن أنْ يسعى ليخلصّها من سراق المال العام والضالعين بهدره وتطالب بوقف الفساد ومحاسبة الفاسدين. ويستهل كثير من الناس أحاديثهم اليومية الاعتيادية أو كتبهم الرسمية ذات الصلة بشؤونهم الدنيوية بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) توطئة لما يريدون قوله مدركين أنّهم لا يفعلون هذا تعبيراً عن قدسية ما سيتكلمون به وإنّما طلباً للمباركة والاستحسان في آذان مستمعيهم أو متابعيهم من المواطنين المؤمنين. وأدخلت المرجعية الدينية في النجف الأشرف فقرة غير مسبوقة على خطبتها التقليدية أيام الجمع أطلق عليها ممثل المرجعية وخطيبها عنوان "الخطبة الثانية" وهي الخطبة التي تتخصص بالشأن العام وتحفل بملاحظات حول مستوى الأداء السياسي والحكومي وغالباً ما تتضمن ملاحظات نقدية حادة وصارمة لما له مساس بالحياة العامة ومصالح الناس ومستلزماتهم الروتينية. بل وقدم الشيخ عبد المهدي الكربلائي ممثل المرجعية الدينية الجمعة الفائتة توجيهات محددة في الخطبة الثانية وضعها تحت عنوان "مقومات المواطنة الصالحة" والتي حصرها في أربع نقاط رئيسة هي التنشئة على حب الوطن من خلال الحس والشعور بالمسؤولية تجاهه، الحث على اكتساب الثقافة الوطنية الصالحة لمجموع الشعب العراقي ممن هم أخوة في الدين أو أخوة في الوطن كما عبر عن ذلك، الحث على احترام الأنظمة والقوانين ذات الصلة بالصالح العام وأخيراً الحفاظ على المال العام. يلاحظ أنّ الكربلائي في هذه الخطبة كرر أكثر من مرة أنّه يتكلم عن مقومات المواطنة الصالحة "بقطع النظر" عن تصرفات المسؤولين في الدولة بطريقة تشير بوضوح إلى تذمر المرجعية الدينية حد الاشمئزاز وعدم الرضا عن هؤلاء. ولعل المثير للانتباه أنّه رد على أدعياء الفصل بين الدين والقضية الوطنية مستشهداً بقول الرسول الأعظم "حب الوطن من الإيمان" وقول الإمام علي عليه السلام "عمرت البلدان بحب الأوطان".

من جانب آخر، إستبدل أتباع التيار الصدري وهو تيار ديني سياسي معروف ويتمتع بشعبية كبيرة نسبياً "الخامة البيضاء" ذات الدلالة الدينية الخاصة بمرجعيتهم الدينية بالعلم العراقي الذي صار وشاحاً يتوشحون به ويرفعون الأعلام الوطنية العراقية حتى وهم يمارسون طقوسهم الدينية ويفعلون الشيء ذاته عندما يشاركون بنشاطات سياسية ذات طبيعة مدنية ودنيوية بالتمام والكمال من قبيل المشاركة في التظاهرات الشعبية احتجاجاً على شيوع الفساد وعدم تقديم الضالعين فيه إلى القضاء وغير ذلك من الأمور التي تشكل هاجساً لدى الغالبية العظمى من العراقيين. وتلك أكف آلاف الحجاج العراقيين بمختلف مرجعياتهم المذهبية والعشائرية والقومية تكاد تلامس السماء أثناء أداء مراسيم الحج والعمرة وهم يدعون بإجماع تام ومن أعمق أعماق قلوبهم لكي يحفظ الله العراق ويرددون جملاً وعبارات يتفقون بلا ترتيب مسبق على ترديدها لعل من أكثرها شيوعاً "يا رب أرفع هذه الغمّة عن هذه الأمة". وبذلك يمتزج الديني بالمدني ليصبح الدين وسيلة لإسماع الصوت بشأن الحاجة الملحة لتحسين الأوضاع ووضع حد للتدهور على مستوى الأمن والاستقرار وتأمين طرق العيش الكريم للآلاف منهم ومن أبنائهم. هذه مشاهد وملاحظات تمثل بالحقيقة جزءاً مهماً من امتزاج الظاهرة الدينية بالمدنية وتعبر عن مساعٍ ملموسة للجمع فيما بينهما ليس بطريقة أنْ تذوب إحداهما بالآخرى أو أنْ تسعى واحدة لابتلاع الأخرى وإنّما بطريقة أنْ تحققا نوعاً من التحالف والتوافق المتوازن الذي يقوم على أساس احترام حقيقة أنّ الدين في خدمة المجتمع وليس العكس. فعندما يطالب الناس بالقصاص من الفاسدين والعودة إلى قيم الدين الحنيف فإنّهم لا يتصرفون بدواعٍ دينية محضة، وإنّما يستخدمون الدين ليعبّروا من خلاله عما يريدونه واقعياً لتحسين نوعية حياتهم وتلبية احتياجاتهم اليومية الملحة. ويشمل هذا التحالفات السياسية بين مختلف الجماعات ومنها التحالف بين التيار الصدري والتيار المدني ممن اتفقا على وجود مصالح حيوية شعبية ومجتمعية مشتركة فيما بينها. ليس من قبيل الصدفة والحالة هذه أنْ يختار رئيس مجلس النواب العراقي السيد سليم الجبوري نائب أمين الحزب الإسلامي العراقي تسمية "حزب التجمع المدني للإصلاح"، ويختار حزب الدعوة تسمية "إئتلاف دولة القانون"، والمجلس الأعلى "كتلة المواطن" وفيما بعد "تيار الحكمة"، إلخ. كل هذه تسميات عبرت بوضوح عن الرضوخ لإرادة المجتمع العراقي المدني بطبيعته، الأمر الذي يبرر القول إنّ الدين للمجتمع وأنّه لا يمكن للدين أنْ يكون للدين إلا على نطاق ضيق يشمل أعداداً محدودة من الأفراد ممن يمارسونه لغايات خاصة بهم. يبقى أنْ تدرك هذه الجماعات السياسية أنّ المواطن لن يكتفي بالتسميات ويسلم بالشكليات وبخاصة أمام زخم الحقائق الدامغة بشأن الاستغلال غير الحكيم وغير النزيه لموارد البلاد مما يتطلب الارتفاع إلى مستوى التحديات التي يعبر عنها المجتمع في المناسبات الدينية والمدنية غير الدينية على السواء.

  كتب بتأريخ :  الأحد 10-09-2017     عدد القراء :  1650       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced