عندما يُستفز المجتمع!
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

استفزت فكرة الشروع بإجراء الاستفتاء في إقليم كردستان العراق مشاعر العراقيين، مما أدى بهم إلى الإفصاح عن صفحة جديدة من صفحات التوتر واتخاذ المواقف الحديّة والتعبير عن التعصب والتفرقة والتمييز التي ترتبط بالعنجهيات القومية بين عربي فخور وصاحب كبرياء، وقد يكون متغطرس وكردي مزهو بحقه في التعبير عن الرغبة بإعلان دولة كردستان. ومع الاقتراب من موعد إجراء الاستفتاء في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، تتصاعد حمى المناوشات الكلامية والإعلامية التي سرعان ما ظهر عليها التخندق ضمن فريقين متقابلين متعارضين سبق أنْ خاضا معارك طائفية بامتياز فوجدا توجيه البوصلة باتجاه الفصل بين من يدّعي الدفاع عن العراق الموحد القوي من جهة، وآخر يُدّعى عليه بالسعي إلى تقسيمه غير آبه بمستقبله.

بل وظهر تكتل إندس ضمن الفريقين المتعارضين المذكورين ممن اتخذ موقفاً عنصرياً بوضوح وهو ذاته الذي خاض من قبل معارك طائفية مذهبية بوضوح أيضاً، يقابله دعاة التخفيف والداعين إلى وقف خطاب الحقد والكراهية من جماعات التيار المدني التحرري.

علمياً، يمكن تعريف الاستفزاز اجتماعياً بأنّه الفعل البنيوي الذي يقوم على فكرة تحريك الساكن وإرباك القائم وهز المسلمات وربما زلزلتها. وهو تحول قد لا يكون معلوم النتائج ومضموناً وينذر بتوجهات غير محسوبة. في حالات يؤدي الاستفزاز من خلال العدوان الخارجي على سبيل المثال، إلى الوحدة والتماسك ولكنّه داخلياً على مستوى البيت الواحد قد يؤذن بالنزاع ويشجع على الإيغال فيه. فالاستفزاز بحد ذاته اختبار يسلط الضوء على مدى قوة البنية الاجتماعية وتماسكها. على المستوى الفردي، أنْ تستفز أحداً يعني أنْ تخرجه عن طوره بكلمة أو تصرف، وهذه من الطرق التي تستخدم لإحراج الخصم أو المتهم لاضطراره إلى الكشف عن الحقيقة. يستفز الفرد عندما يتهم زوراً بخيانة الأمانة أو الكذب والادعاء. ويستفز عندما يشكك بولائه واخلاصه. في العادة يحب الإنسان أهل بيته ويحترمهم ويدافع عنهم. وهو يرغب في أنْ ينظر إليه على أنّه يتحلى بالقيم والمثل النبيلة ويمارس حياته بأقل قدر ممكن من التجاوزات الأخلاقية والأدبية، ناهيك عن امتثاله للقواعد القانونية والتعليمات الإدارية المتفق عليها جماعياً. ولكن ماذا لو تعرض هذا الإنسان إلى الإساءة وإلحق به الضرر! ماذا لو حُرم وأهين وانتهكت كرامته! هذه أمور تخرج الإنسان عن طوره وقد تظهر أسوأ ما فيه. لعلّ المهم في ردة الفعل على الاستفزاز، أنّها تتأثر بما أدخر الأفراد لها. فتكون ردة الفعل إيجابية وقوية وبناءة إذا كان الفرد مبنياً بقوة وإيجابية. ويحدث العكس عندما يكون البناء هشاً وضعيفاً.

ولا يختلف الأمر كثيراً على مستوى الحياة العامة. ففي المجتمعات المستقرة والمتماسكة، يواجه الأفراد التحديات بقوة كما في أنْ يرفضوا الاستسلام لموجات التعصب التي يحاول الإرهاب إثارتها وبثّها في صفوفهم. ولكنّ الأمر يختلف عندما لا تكون هناك ثقة، وعندما لا يكون هناك شعور بالأمان، وعندما لا تكون هوية الجاني واضحة ومؤشرة ومكشوفة للعامة. تقوم الحياة الاجتماعية من حيث الجوهر على أنماط سلوكية تؤخذ كمسلمات وتعامل باحترام ومنها أنْ تحظى الجماعات المتباينة بالمعاملة المتساوية وتحترم مشاعرها ويصار إلى أخذ مواقفها ومطالباتها بالاعتبار. فإذا ما حدث الخرق من خلال الاستفزاز ارتجت الأنماط السلوكية المُشار إليها وتهاوت المسلمات التي تقوم بحراستها لتحلّ محلها الحيرة والتمزق والارتباك المؤدية لا محالة إلى التراشق والاتهام وإصدار الأحكام القطعية في أنْ يكونوا سيئين ونكون خيرّين، وخذْ على هذا. على المستوى الوطني استفز الإرهاب المشاعر وهدد وحدة البلاد، فكان أنْ تنادى الرجال لشجبه ومحاربته ووضع حد له. ولكنّه أي الإرهاب، أيقظ مشاعر سلبية متبادلة عندما أخذ شكل عمليات محددة كما في كارثة مطعم "فدك" على الطريق السريع بين محافظتي المثنى والناصرية وعلى مقربة من مدخل محافظة البصرة. واستفزت فضائح الفساد المالي والإداري المشاعر، فكان أنْ انهارت الثقة بالدولة ومؤسساتها والقائمين عليها. ولو كان الأمر مختلفاً لنظر الناس إلى فضائح الفساد بكونها منبهات لإعادة النظر بالضوابط القانونية والإدارية للحد منه ووضع حد له. واستفزت عملية نقل (300) داعشي مع عوائلهم من على الحدود السورية اللبنانية إلى الحدود السورية العراقية المشاعر، فكان أنْ أصطف العراقيون بين من يخشى على الوطن وسلامته من الأجنبي والعربي على السواء من جهة، وبين من اتخذ موقفاً دينياً مذهبياً من جهة أخرى.

اليوم فإننا أمام استفزاز من نوع آخر. استفزاز أيقظ الانقسام القومي. لسوء الحظ، تزامنت الاستفزازات في مجتمعنا بظروف غير مواتية ما زال المجتمع يكافح فيها من أجل إصلاح حاله. كان طبيعياً والحالة هذه أنْ ترتبط استفزازات من هذا النوع بظواهر محبطة كالتمييز والتفرقة العنصرية باسم الدفاع عن الوطن والخوف عليه. كان يمكن للوطن أنْ يغفو بدعة وأمن وسلام، لو توفرت الإرادة لحل مشكلاته بالحوار والتفاهم والتبادل البنّاء. فما الذي لحق بالأخوة العربية الكردية وما الذي أخرج الأخوة الأعداء من مخادعهم الباردة والعتيقة وما الذي أبكى الرجال والنساء على ماضي الزمان.

الاستفزاز على الصعيد المجتمعي سيف ذو حدين، فإما أنْ يقطع الجزء الرديء ويخلّص المجتمع من آفته ليعود به قوياً متماسكاً كما كان، وإما أنْ ينال من الجزء الصالح والسليم فيثلمه ويؤذيه ويعرضه لمخاطر العوق. يخوض الإسبان هذه الأيام أيضاً ظرفاً مماثلاً. إلا أنّ قوة الدولة وهيبتها تقف بحسم ليعلن رئيس الدولة قائلاً "إذا طلب أحد منك المشاركة بالاستفتاء على استقلال كاتالونيا في الأول من تشرين أول المقبل، لا تذهب ...". وأصدر القضاء الإسباني أمراً بمساءلة (700) محافظ قانونياً بسبب شبهة بمساندة الاستفتاء من أجل الاستقلال مع أوامر بالتحرك عسكرياً ضد من يرفض الامتثال لأمر المحكمة بالحضور والخضوع للمساءلة. أما نحن فقد كشفت الدعوة إلى الاستفتاء من أجل الاستقلال في أقليم كردستان عن هشاشة البنية السياسية على وجه التعيين، حيث رفض النواب الكرد المشاركة بالتصويت على رفض الاستفتاء في مجلس النواب العراقي، واصطفت الكتل النيابية مذهبياً وقومياً للتعبير عن مواقف محرضة على التهديد بالعنف إلى جانب المساهمة في تصعيد خطاب الحقد والكراهية على المستوى الشعبي. كان يمكن للاستفزاز من خلال الاستفتاء أنْ يظهر قوة المجتمع وتماسكه لو أنّ العملية السياسية قامت على أسس صحيحة تحررت من خلالها من آفات المحاصصة الطائفية والقومية والعرقية وتركت المجال للعراقيين ليخوضوا تجربتهم في التحول نحو النظام الديموقراطي من خلال الكفاءة والتميز المهني والولاء للدولة الوطنية الجامعة. وكان يمكن للرئيس أنْ يتخذ موقفاً أكثر وضوحاً وتعبيراً عن القيام بواجباته لحماية الدستور والمحافظة على وحدة البلاد. وكذلك الحال بالسيد رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ممن كان يمكن لهما ألا يهددا ويتوعدا ويتحملا المسؤولية التاريخية للدعوة إلى اللقاء من أجل التفاهم وتقديم الضمانات التي تطمئن مشاعر الطرف المغتاض من الوعود غير المتحققة والعقوبات المؤثرة بمائدة طعام آلاف المواطنين الكرد من موظفين وشغيلين في مختلف مناطق الأقليم. الإدارة والحكم فن الممكن لتفادي الحرب والعمل على إحلال السلام، وهذه أمور يمكن بلوغها بالحكمة والتروي والكثير من التجمل بالصبر دون التسرع بإطلاق الأحكام القاسية والمجحفة. لطالما مرت الشعوب بظروف وقفت بها على مفترق خيارات صعبة، إلا أنّها استطاعت رفع فتيل الأزمة من خلال  العودة إلى أبسط الطرق وأكثرها تقليدية وقوة تأثير: اللقاء والتبادل والحوار المؤدي إلى نتيجة حاسمة تشعر الأطراف المتخالفة بضرورة المصلحة المشتركة. أما التهجم والخصومة والتهديد والوعيد فلن تؤدي إلا إلى مزيد من التشنج والتعصب الذي لا يخدم أيِّ من الأطراف المتقاطعة على الإطلاق. مهما تكن النتيجة التي سيؤول إليها الاستفتاء، فإنّ لنا في هذا "الاستفزاز" وما يشبهه في المستقبل دروساً ينبغي التوقف عندها لأنّها أشبه ما يكون بالعرض الطارئ الدال على خلل أكثر خطورة وأكثر جوهرية.

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-09-2017     عدد القراء :  1773       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced