عن زخارف اشعار مظفر النواب(6)
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لم تكن  اشعار مظفر النواب بقصيدته ( الريل و حمد ) لهواً لغوياً، ليس  فيها حاجة من حاجات ادخال عقول القرّاء الى حالة الهدوء . كانت القصيدة تحاول تنمية وجدان الوعي و الحب في طقوس  ادخال (مجموع )الناس الى حياة (بعض )الناس أو توصيل حياة ( بعض) الناس الى ممكنات و ماديات (جميع)  الناس . انها نوع من أنواع المعاصرة المتحررة يتوق  الشاعر مظفر النواب الى ان يكون افتراض وجودها ،  نافعاً للناس في اختيار القوة الشعرية ، ذات الدفع الخاص ،  البالغ السعة على الناس. اعطانا في القصيدة صور إنبات المحبة بين الأطفال من دقة اسرار ألعاب الصغار  . حين كنت طفلاً ، بعمرٍ نابهٍ يقربُ من العاشرة أو يزيد ، اشهراً او أسابيع، لا أتردد من التخصص في التلصص على بعض صبايا المحلة الجميلات  يتقافزن ( الطُفّيرة)  في صحنِ بيتِ فتاةِ ما فوق الجميلة اسمها ، سهيلة . معها سعاد و آمنة وأحياناً أخريات  . كان ذهني ينصرف لحلِِ لغزِ و تفسيرِ أسباب اهتزازٍ جسديٍ و روحيٍ ،  حين ارى جزءً من فخذ سهيلة ، كأنني اصطدمُ بحاجز حديد . لم افهم السبب رغم مجاهدة فكري لأعرف ما هو مبهم في هذا الأمر .. كان يستحوذ عليٌ سحرٌ خاصٌ ، حالما ترتفع تنورتها،  قليلاً ، لتكشف عن جزء من بدنها يجعلني أهيم  به .. لم أكن اعرف السبب...!

مُذ كنت طفلاً ، احببت لعبة (الطُفّيرة ) وأتقنت دروسها ، النظرية ، لما فيها من طلاوةٍ وأحاسيس من بلسم القلب وما تقدّمه من حيويةٍ لا يزيد عمرها سوى لحظات . لعبة مشوقة،  مفعمة بنعمة الصحة و بتقسيم عمل القفز المتناوب بين اللاعبين المتقافزين او اللاعبات المتقافزات . وجدتُ فيها كل ما يهز النفس و يهش القلب و ينعش خيالَ من يتطافر  او تتطافر  . كنتُ أرضي نفسي بمشاهدة القافزات ، بسرية التصرف و بمنطق ما وراء الستار ،  لكن لم يكن لي توفيق المقام بمنفعة ممارسة هذه اللعبة . اغتبطتْ نفسي ، مرتين ، في دنيا ( الطفيرة) . المرة الاولى حين هبّ النسيم من تحت تنورة (سهيلة ) حين لسعتني لذّة غامضة . الثانية حين اخترقتْ وعيي ، بصورةٍ بالغة الصميم ،  حين قرأتُ الظرف و الفهم و الهمس في قصيدة (الريل و حمد) .

لا يوجد طفل عشّاري ، من أصول محلة البجاري خصوصاً ، لم يهب عليه نسيم ( الطُفّيرة )   إلّا ما ندر .  من ذَا الذي لا تستهويه لعبة ( الطُفّيرة)  بكل المدن العراقية. .؟

مَنْ كان بإمكانهِ تجاهل تعدّد ألوان ملابس المتقافزات مع شقيقته،  في صحن داره،  او أمام مدخل زقاقها.  لا جمود و لا عصمة لدى الجميع ، أطفالا و فتيانا و مراهقين،  من تعاظم رغبة المشاركة او المشاهدة بهذه اللعبة .

في عصر أيام الاثنين ، من كل أسابيع الطفولة ، ينظّم أطفال محلة البجاري معنى من معاني الحالة الاجتماعية، البريئة ،  حين تجد في كل زقاقٍ،  طفلاتٍ حلواتٍ،  يتقافزن بغزل بريء مع ( الطُفّيرة). حتى  ان رجال الدين في المحلة كانوا يبتكرون كلاماً حلواً يقولونه مدحاً و فخراً  عن لاعبات هذه اللعبة .  لا ادري هل يوجد طبع مثل هذه اللعبة  في الارياف العراقية او ان  لها بدائل من الألعاب القروية ، لكن  كلام (الطُفّيرة ) جاء شعراً شعبياً منظوماً في قصيدة النواب.

تبدو اللعبة بلا غالبٍ و لا مغلوبٍ  ، في واقعها ..  لكنها ( مفردة شعرية ) غنيّة جداً بمعناها ، حين ابتكرها و همهم بها  مظفر النواب بقصيدته ، و هو بهذا الصدد من الغالبين ، رغم انني كنتُ ادرك انني الغالب بكل حالات المشاهدة . كما انها لعبة لا تتعب اللاعبين رغم ان حراكها يتطلب  وجود راكضٍ( طافر )  من فوق ظهر شخص آخر ، (مطفور ) .   انها لعبة سلفية قديمة او تراثية.. سمّها ما شئت ، غير انها  تغني ابجديات الطفولة و المراهقة  بالمتعة،  كما الطيران يغني و يسعد الحمام .

حين كنتُ في مدينةٍ هولنديةٍ ، بحريةٍ ، اول وصولي الى الاراضي المنخفضة عام ١٩٩٧ شاهدتُ بعيني ، الشبان و الشابات ، الى جانب الأطفال ، يجتمعون و يتواترون و يتقافزون ( الطُفّيرة) بالطريقة العراقية . انتابني ،  وقت ذاك،  شعور عميق انه لا توجد حواجز بين سلسلة المخلوقات الانسانية ، الطفولية و الشبابية ، بين  العراق و هولندا و ربما بالعالم كله . .  ما كنتُ مستغرباً في غربتي و لا وجدتُ وعورةً في قبول فكرة أن احد شعراء هولندا من شباب قرية (  ديكوخ) كان قد صاغَ قصيدةً ، قبل شهرين  من تاريخ وصولي اليها،  قال فيها أشياء الخير عن لعبة (الطُفّيرة الهولندية) .

لم يتوفر لي مجال المقارنة بين قصيدة الشاب الهولندي و قصيدة الشاعر العراقي  مظفر النواب لأن   المواطنين الهولنديين من قرّاء الشعر ،  يتميزون بالمطالعة الشعرية الشحيحة ، بينما المواطنين العراقيين من قرّاء الشعر الشعبي خصوصاً ، لا يرتوون إلّا بتمارين تقولها لهم  اشعار الشعراء ، منها اشعار الريل و حمد .

عرفتُ شيئاً مركزاً مفاده ان (الطُفّيرة )  هي لعبة عالمية،  ليس  عاراً ، فيها،  او توعّراً .   قبل هذه المعرفة كان   صديق   مصري ، فنان سينمائي، قد اخبرني عام 1979    ان قرّاء الأقاصيص المصرية يقرؤون ، ايضاً، عن صنفٍ من أصناف الألعاب المصرية تشبه ( الطُفّيرة ) في العراق . كان ذلك خلال  زيارتنا لمنطقةٍ شبه  ريفية،  جنوب القاهرة،  شاهدتُ فيها اطفالاً مصريين يلعبون هذه اللعبة   او ما يشبهها.  من هنا جاءت إجادة  الذوق في اللهجة و الصورة ، في  اختيار مظفر لزبدة  (الطفيرة  المُضافة)  الى حلاوة العسل في حوض قصيدته الشعبية الاولى ( الريل و حمد). كما سمعتُ مديحاً ، مأثوراً، نادراً، من الناشطة  المصرية ، الدكتورة صافيناز كاظم ، التي قابلتها  مع مظفر النواب عام ١٩٧٠ في دمشق . اقول ، صراحة ، انني كنتُ مبتهجاً ، بغاية الابتهاج ، لأنني حزرتُ  الغيب في  خوض موازين مظفرية، داخل القصيدة الشعبية لكي تضع  ( الريل و حمد)  على رأس قبيلة الشعر الشعبي  ، العراقي ، الحديث.  

لم يكتب الشاعر مظفر النواب ، قصيدة ( الريل و حمد)  إرضاءً للحزب المنتمي إليه ولا رغبةً في ان يحصر نفسه بقضية سياسية معينة ، كما فعل شعراء كثّر، قبله و بعده . اراد ان يفعل فعلاً ، خالداً و اصيلاً ، من اجل ان يجعل الشعر الشعبي العراقي،  مثل الشعر الفصيح،  متمتعاً بأزهار الربيع و التجديد فجاء برياحين الجمال الشعري بقصيدة الريل و حمد بشواهد لعبة ( الطُفّيرة) المشتركة بين الإناث و الذكور .  

لم يكن  مظفر النواب يريد من كتابتها ان يلتصق بمجتمعٍ معينٍ،  كما لم يكن يريد ان يكون مثقفاً،  تابعاً . بل وقف من دون خطة و لا تخطيط الى جانب قضية  معينة من قضايا  هموم المرأة  و هموم الرجل ، ايضاً، في زمانٍ كان يقال فيه ،  ان عشق المحبين يعطّلهم عن إقامة الصلاة و فروض الدين وربما يؤدي الحب الى (الشرك..!) . لم يرم صراحة او إشارة الى ان  هذه القضية  ذات  موضعٍ معينٍ في مسيرة الدولة او حتى المجتمع   ،  اي من دون الإشارة الى ان عقدة هذه القضية من مسؤولية الدولة او النظام السياسي ، كما هو حال غالبية قصائده الشعبية الاخرى .

كانت قصيدته الشعبية تنميطاً ثقافياً عفوياً حيث ناتج القصيدة عبّر ، بنفسه، عن نفسه،  باعتبار موضوعها من الموضوعات الاساسية في المجتمع العراقي و هي (مسألة الحب ) المسألة القريبة من جان جاك روسو ، المرتبطة بالخلفية الاجتماعية المضطهدة جداً في الريف العراقي . انا أظن ان اي تعليل ، لا من النوع السهل و لا من النوع المعقد قد فرض نفسه على كتابة تلك القصيدة . كان دافعها الأول و الأخير هو تعليل من نوع هادئ عن التذمر الاجتماعي - الانساني و نتائجه . كان سخط الناس ليس قليلاً على أولياء أمور الشابات و الشبان ، الذين تدفعهم قلوبهم الى الحب و المحبة . كان الحب مثار قلق و شكوى بين أفراد العائلة ، لكنه انتقال من القبيلة و العشيرة و انفصال عن واجباتها و حقوقها سواء كان الانتقال داخل القبيلة و العشيرة او خارجها. كان ( الحب) مرفوضاً في المذاهب العشائرية المختلفة . اقل احتمالات القضية هي السكينة و القنوع ، للتستر ، على الساخطين ، الناقمين، من سكان القبيلة الرافضين للحب بين عاشق و عشيقة . لا مساواة بين أهل المدينة و أهالي الريف .  يمكن ان تنتهي علاقات الحب و العشق في المدينة بالزواج ، بينما تنتهي نفس علاقة الحب بين  رجل وامرأة من سكان الريف بعلّة القتل و الاقتتال و الفصل العشائري . كان مظفر النواب قد دَنا بهذه القصيدة دنواً عميقاً الى قلوب الناس العاشقين و الى نار العشق نفسه ، التي تجبر الانسان على الدخول الى (جنة الحب ) مزحزحاً اليها (بالنار) . ربما يشعر كاتب الشعر نفسه ان مقامه هو (الحب) ، الذي لا يباعد بين النار و الجنة  لأن الحب كما في الريل و حمد ينطلق من روح الانسان و من شوقه الشديد الى المرتجى من الحب و الحبيب ، سعادة العيش و الحياة ، مهما تطاول  الليل بقسوته على العاشقين ، كما توضح المطربة المصرية ام كلثوم بأغلب أغانيها ان الأرق و التضحية و الخصام هي من زعزعتْ  نوم العاشقين و اقتلعتْ أشجار آمالهم . من النادر ان لا يرتفع سيف مزعج على رقاب العاشقات اولاً و بعض العاشقين ، ايضاً  ، رغم وجود الكثير من القلوب العراقية المقروحة من تباريح الحب و العشق  . كان الشاعر مظفر النواب يحس بلواعجها  و يعبر عنها بفصاحة شعرية ، شعبية ، خلّابة . ربما صداقته المتنوعة الأشكال و الأشخاص قد فتحت أمامه تواريخ قصص الحب و الغرام بلهجات قبائلها  ، الظاهرة و الباطنة.  اتقن النواب  ، و لا ادري كيف ..؟ معظم اللهجات العشائرية في وسط و جنوب العراق . كما ان صداقته البالغة الاحترام و الشدة مع رفيقه في درب النضال ( سعدي الحديثي) قد أغنته بشيء كثير من لهجات عشائرية في غرب العراق و في شروح معيشة البدو الرحّل بصحرائِه.

جعلتْ الحروف الشعرية تفيض بقلم  الشاعر مظفر النواب، دافعاً بقصائدهِ بعد ظهور (الريل و حمد) الى شعر الكفاح الشعبي و محاولة جعله فناً من فنون الحركات الاجتماعية - الثورية لتجميع الحركات الشعبية الساخطة على كل نوعٍ من انواعِ الفاشية العراقية . خاصة وان مظفر النواب كان إنساناً متكامل الاخلاق يتلقى أصحابه و اصحاب أصحابه بالابتسامة و البشر تعبيراً عن حبٍ حقيقي  في قلبه. من هنا صار أليفاً ، رقراقاً، في حب (الجماعة ) ، كما صارت  الجماعة المحبة لمظفر النواب ليست ضئيلة المساحة و الاهواء . كان حجمها و اثرها و تأثيرها اكبر من كل مكسب و ربح لأن صوت مظفر كان حسه منتشراً ، بكل مكانٍ في مدن العراق و اريافه،  بعد صيرورة قصيدة الريل و حمد مفخرة الطبائع و الاخلاق و الاعمال و الاقوال في البلاد العراقية . كنتُ أجد ملمساً صوتياً رقيقاً حين يلامسهً (غناءً ) صوتٍ فنيٍ راقٍ ، لا يطاوع إلّا  صوت سعدي الحديثي. كما وجدتُ وسيلة الحرية في اداء الصحفي الراحل (سعود الناصري) حين طاوع طلبي و رجائي بغناء قصيدة  الريل و حمد على سلطان تلحينه على عزف آلة العود . استجاب  في زيارته الى لاهاي - هولندا عام ٢٠٠٠ فأدخل ضرورات السرور الى قلوبنا،  نحن المستمعين،   في بيت الصديق رزاق الحكيم . كانت دائرة الحرية بتلك العزيمة تضم ام فرح و الضيفة الفنانة (  غزوة الخالدي ) و ياسين النصير  و حامد العاني  مع مجموعة صالحة غابت عن ذاكرتي الشائخة في هذه اللحظة .

لا عجب و لا غرابة في سعة و سرعة انتشار قصيدة( الريل و حمد)  في الكليات و المدارس ،  لم تقيّدها قيود الانتشار في المدن العراقية و الارياف. كان هوى القصيدة و إشارات كل مفردة من مفرداتها و سبل تخطيها أغلال الشعر الشعبي ، قد حطّم جميع القيود لانتشارها في القلوب السليمة الصافية .

أدى نشر قصيدة الريل و حمد الى أصداء بعيدة المدى،  ليس بين الشعراء الشعبيين  و بين شعراء الفصحى ، فحسب ، بل بين المثقفين العراقيين ، عموماً. يشهد على ذلك ليس فقط الانتشار الواسع لنص القصيدة،  بل الأكثر من ذلك المناقشات النقدية و غير النقدية ، التي دارت حول القصيدة و حول شاعرها مظفر النواب ، في الكليات و المدارس و المنتديات الثقافية ببغداد و بالألوية كلها. انتقلت القصيدة إلي  بواسطة الصديق و الرفيق اسعد الشبيبي ، الذي سرعان ما ابلغني انه يحفظ القصيدة عن ظهر قلب . اخبرني ايضاً انه حفظها ، بسرعة،  ذات يوم  جمعة،  في اثناء قضاء العطلة الأسبوعية . قال لي انه وجد في هذه القصيدة مفاهيم شعرية جديدة في الشكل و المضمون . من شدة سروره بتلك القصيدة انه قام بترجمتها لزوجته الانكليزية  المعروفة بحبها الجمال و الحرية في القصائد الشعرية . قالت ، ذات يوم ، جواباً على سؤال، من ضيوف زوجها و أقاربه ،  عن رأيها بهذه القصيدة فأجابت : انا لا املك  قدرة  التقييم .. لكنني اؤيد سروركم بمقام صديقكم الشاعر و شعره .  

من خلال قراءاتي المتتالية للقصيدة ، ذاتها،  اندفعتُ الى الاهتمام ، بصفة خاصة ، بالشعر الشعبي . أردت التعرف على ملامحه و مناهجه و على رؤيته . شغلتني كثيراً بعض استكشافات الشعراء الآخرين في هذه القصيدة من مثل الشاعرين سعدي يوسف و اسعد الشبيبي ، اللذين كان  يربطهما مع مظفر النواب  انتماء الحزب الواحد ، الحزب الشيوعي . لكن بدأت اقرأ و اطلع على آراء الكثير من الشعراء ، غير الشيوعيين . بعضهم كان عدوا للشيوعية و البعض الاخر كان يحمل منظومة قيم سياسية و اخلاقية و ادبية ليست على وفاق مع الشاعر مظفر النواب ، لكنهم رتبوا موقفهم من هذا الشاعر على وفق أصول و فصول الموروث القيمي و الاخلاقي في قصيدة الريل و حمد . هكذا برهن النوّاب بواسطتها ان عقليته الشعرية متعددة بتكوينها،  و ناضجة في بنيتها،  و ثقافية - مستقبلية في تدوينها،  كأداة  رئيسية في الثقافة الشعرية - الشعبية - العراقية.

ملخص القول عمّا وجدته و ما وجده آخرون ، ان (قصيدة الريل و حمد) لم تكن مجرد تجديدٍ في الشعر الشعبي ، بل خلقتْ و قدّمتْ قالباً اسلوبياً، مدهشاً و عجائبياً لمضمونٍ مبتكرٍ على قاعدةٍ من الفانتازيا الواقعية . هذا التطور الشعري وفّر بدايةً جديدةً لإنقاذ المشروع الإبداعي في الشعر الشعبي ، منذ بدايتها الانتقالية،  المنهجية ، حيث تمكّن مظفر النواب،  بهذه القصيدة،  ان يؤثر تأثيراً جاذباً على أساس هذا التطور الهام في القصيدة الشعبية . كذلك محاولة توظيف التراث في الاخلاق و العادات و القيم داخل كينونة القصيدة الشعبية .

لا بد لي من القول هنا ، ان متابعاتي لقصائد مظفر النواب الشعبية منذ (الريل و حمد ) حتى الآن،  أكدت لي أنها  ظلت تعبّر عن وجوده الانساني من خلال الشعر ، من خلال القصيدة الشعبية و الفصحى . لكل كلمة او واقعة،  عواملها في المكانة الشعرية،  بقصائد مظفر .  يجد نفسه عائداً ،عند كل حادث و حديث ، الى التراث الأدبي ، المتجاوب مع عصر الثورة الوطنية بعد ١٤ تموز ١٩٥٨ و ما جاء به الانقلاب الأسود في ٨ شباط ١٩٦٣ وما بعد ذلك من حكومات و احكام القمع و السجون و القتل و الحروب الخارجية و الداخلية . كان مظفر النواب مبدعاً حقيقياً يحدث انبهاراً ، ليس بكل مرحلة من مراحل عنف الدولة ضد الوطن و المواطنة ، بل بكل قصيدة من قصائده المتصارعة مع الوعي الشعبي بأنواعٍ مختلفةٍ من قيم اللغة الشعبية او الفصحى  في زمانٍ قادحٍ بآلام المنفى  وغل الغربةِ عن وطنٍ صارتْ  نخلته شوكةً على أرضه   ، كل شيء فيه مسلوب  .

يملك مظفر النواب عينين ثاقبتين،  ساحرتين،  نفاذتين الى اعماق الشيء و الشعر و الناس ، كلهم . يرى ارض الكوفة مثل ارض الزبير ، مثل سنجار ، مثل الجبايش، مثل حلبجة ، مسكونة بالرؤية و الفجيعة لا يأمن الناس فيها من وحشة حكامهم المغطاة وجوههم بالسكاكين المسمومة .  كان يرى  مدينة بغداد فقيرةً بعكس ما يريدها الله . كان يرى مسألة الحكام الحمقى و عداوتهم بعينٍ ليستْ متجبرة أو سارحة . كانت نظراته  بنفس سحر و ثقابة  و نفاذة عيون بعض الشعراء العالميين المعاصرين . اذا كانت سنوات فترة الخمسينات من القرن الماضي ،  مليئة بالوعي السياسي ، فإنها كانت ، ايضاً،  قد شهدتْ ملامح شعرية - شعبية  ، جديدة على وفق ما حقّقه مظفر النواب من طفرةٍ  أعطتْ الى الكلمة الشعرية نهوضاً جباراً،  كان قد أعطاه جان بول سارتر الى الدلالات المأساوية في جميع كتاباته و كتبه في فترة الخمسينات الفرنسية . حيث ازدانت سطيحة مكتبته بالجمع الزائد عن المعلومات الواسعة المفعّلة عن (الفلسفة  الوجودية). طاف الشاعر مظفر النواب بقصيدة شعبية مهجهجة استقصرت زمان اخلاص الحبيبة لحبيبها بذاكرتها البهيجة . أدهش مظفر النواب سكون الشعر الشعبي بقوائم راكبته العزلاء ؛ (الريل و حمد ) محققاً طفرةً شعريةً ليست منعزلةً عن فعلِ المستقبل الشعري . كما استطاع مظفر النواب بهذه القصيدة تحقيق هدفين في ان واحد :

الهدف (١) انه استطاع ان ينقذ الشعر الشعبي من أزمته .. وهي من شقين، أزمة كتابة  وازمة علاقة مع الجمهور . كانت قصيدة (الريل و حمد) حركة بهذا الاتجاه .

اما الهدف( ٢)  فهو ان مظفر النواب بقصيدته التجديدية ، الوثابة ،  حقّق في  الشعر الشعبي عملية استرداد جمهوره الحقيقي الواسع ، خاصة بعد انبهار حركة الشعر الشعبي العراقية بموازين التجديد النوّابي  و استقامة هذا الشعر بفرصٍ عظيمةٍ في التطور على يد الكثير من الشعراء الشعبيين المعاصرين .

ان إرادة الوجود الشعري لعددٍ غير قليلٍ من الشعراء الشعبيين ، من اصحاب ارادة ( القوة) في مجابهة الظلم  ، و من اصحاب ارادة المعرفة في مجابهة ( الجهل) . من دون ذلك ، و من دون جهود وجلجلة التطوريين الثوريين من أجيال الشعر الشعبي المتعاقبة،  المخصوصة بنهج الحيوية الفائضة بتجديد مجربات العقلية الشعرية – الشعبية ،  حيث يتعزز ، بجهودهم ، مسير مادية واقع الشعر الشعبي ، الى حد تحرير (روح) و (جسد) القوى النفسية ، الشعرية و  الجماهيرية ، في حركتها و محركها لبناء مجتمع أفضل .  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-06-2020     عدد القراء :  2055       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced