ملائكة تشـــيخوف تهوي في ســـتوديو الممثل
نشر بواسطة: Adminstrator
الإثنين 02-01-2012
 
   
فيحاء السامرائي
تتواصل التدريبات في ستوديو الممثل حالياً على مسرحية (عندما تهوي الملائكة) من إخراج وإعداد الفنانة روناك شوقي، عن قصة طويلة للكاتب الروسي انطون تشيخوف (عنبر رقم 6)، والتي يعتبرها النقاد بانوراما وافية عن المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر، وتصويراً صادقاً لما يتعفن بين طياته من فساد وتسلط وسوء استخدام للسلطة في المؤسسات وبؤس مستفحل يسود الحياة العامة، يفضي الى تخلّق الناس بصفات ابتذال وترهات، وتمسكهم بقيم تافهة ورديئة...ويثير تشيخوف في عمله الابداعي هذا تساؤلات فلسفية عديدة وعميقة عن حرية الانسان وجدوى الحياة ونهايتها الحتمية بالموت وعن معنى الخلود بنظرة نقدية هادئة للأفكار، يمكن أن يفسرها قارىء تفسيراً تشاؤمياً يدفع به الى احباط وخيبة وتبرم بحياة مختومة بحقيقة الموت، ويمكن أن يقرأها آخر برؤية أن الايمان بكل تلك المثبطات تدفع الفرد الى اللاجدوى والعبث، لكن الخلاص يأتي من عبثيتها عبر العمل على دحظها، فلا يمكن انتظار الموت من خلال التوقف عن الحياة، ولا يجدي التوقف عن الفرح لمجرد أنه ربما يكون هناك حزن في الافق، فالحياة تحمل مسوغات العيش والاستمرارية في صعودها وهبوطها، أنها في قصصه ومسرحياته حزن من أجل الفرح.
تشيخوف، المعروف كأديب سوداوي ساخر، راثٍ متهكم، كاتب (البساطة الصعبة)، الرافض لتضخيم وتعظيم، يكتب بلغة ليس فيها زوائد، يحيّرنا فلا نعرف متى نضحك ومتى نبكي، هو خير شاهد لانهيار أحلام وتعاسة أيام، وناظر بحزن الى مصير وألم الانسان، فيقوم بتشكيل شخصياته المهمشة من خلطة منطوية على تعاطف ونقد، تعاطف لكونهم ضحايا ظروف موضوعية وذاتية ودورهم فيهما، وانتقاد لعوزهم رغبة في التغيير ورضاهم عن أنفسهم واستكانتهم، فيقوم بالتقاطهم  من قاع المجتمع وأحشائه، وينفض عنهم ثلوجاً وسخة، ويزيح عنهم غباراً وقاذورات، حالماً ربما، بأن هؤلاء البسطاء الذين لا يتمكنون من صنع القرارات الكبيرة، هم من سيزرع بذرة التغيير والثورة والتمرد، لترسم تلاويح مرتجى وقطاف آت...وخير من عبّر عن بطل تشيخوف هو فلاديمير نابوكوف بالقول: (إنسان يتصف بالأخلاقية والجمالية والغنائية...إنسان أضاع نفسه بصغائر الأمور...ومع ذلك كان يعرف بدقة ماهو جيد ومن أجل أي شيء يعيش...لذا فهو غير قادر على أن يكون إنساناً جيداً أو أن يقوم بعمل جيد).
من المؤسف أن العالم برمّته اليوم يشبه (عنبر رقم 6) لما يعجّ به من فقر وبؤس وفوضى وعبودية وانحلال قيم وغلبة طغيان وفساد سلطة، والبشر كلهم ليسوا في عنبر مستشفى أمراض عقلية، بل في عنبر حياة مجنونة، بشعورهم باضطهاد وظلم وحالة عجز وفقدان مقدرة على اجتراع رشفة أمل في غد مشرق يحتضن الانسانية...فمن هو المجنون ومن هو العاقل؟ وهل يقتصر هذا العمل على مرحلة تاريخية معينة مرت بروسيا أم أنه ينسحب على زمكانات أخرى معاصرة؟
لعل تشيخوف، وبدون أدلجة ونظريات، أراد أن يقول بعمله هذا، أن على الانسان أن يكون حراً، وأن كل شيء فيه ينبغي (أن يكون جميلا...حتى روحه وأفكاره)، وأننا ( نرتقي بالانسان حينما نكشف له حقيقته كما هي بالفعل) وكان رأيه أنه لو كل إنسان في العالم فعل كل ما بوسعه في المكان الذي يخصه فسيغدو العالم أحلى وأجدى... نجح لينين في التعبير عن القصة حين تفوه بجملة مدهشة بحق بعد فروغه من قراءتها: (لم أستطع البقاء في حنجرتي، فنهضت وخرجت الى الطريق وأنا أشعر بأني حبيس تماماً في العنبر رقم 6)... واللافت أن هذا أكثر مما طمح اليه تشيخوف في أن تقرأ كتبه لمدة عشر سنوات بعد رحيله، إذ هاهي أكثر من مئة عام تمرّ على وفاته، وأعماله لازالت تقرأ وتمثل بكل لغات العالم، رغم زعمه بأنه لم يكتب شيئاً له قيمة أدبية حقيقية...فهل أرشدنا الى معنى و درب الخلود؟
...............................................
توقظ روناك فينا روح التأهب قبل التدريب، وتقول، هنا في هذا الاستوديو الصغير يكمن تجلينا كممثلين، ويكمن جنوننا بحب شخصيات طالما مدّت لنا أيديها للمساعدة، وها نحن في هذا العمل نحاول أن نسندها وأن نبث في روحها الحياة من أجل أن تقف على خشبة صغيرة، ولنجعلها حاضرة في ذاكرة كل شخص يحضر تجربتنا، المسرح علّمنا أن نكون أحراراً وأن ندافع عن أبجديات الحياة بصرامة.
تحتسي (سلوى) آخر رشفة من قدح الشاي، وتقطع مسافة الحديقة بين المطبخ وستوديو الممثل راكضة، الجو بارد وماطر، لديها ضيوف يوم غد، وسيأتي ولدها وحفيديها، لكن ما يشغلها ويهمها الآن أن تركز على دورها، أن تتقنه، هي قلقة رغم أن هذا ليس أول عمل مسرحي تقوم به، سبق لها أن مثلّت العديد من الأدوار وبنجاح، وفي كل مرّة ينتابها ذلك القلق اللذيذ.
شهد ذلك الكراج الضيق منذ عشرين عاماً تدريبات للعديد من المسرحيات بجهود فردية وبصعوبات مادية...تعيد (روناك) ترتيب مواقع طاولة وكراسي، وتعطي ملاحظة، انتبهوا، الكرسي والطاولة ممثلان أيضاً في المسرحية...تنظر اليها مليّاً بينما أسألها: لماذا تشيخوف الآن روناك؟ ولماذا(عنبر رقم 6)؟
تلتفت نحوي بشرود وتجيب: كتابات هذا الأديب تعجبني، لمّاحة وصادقة وفيها سخرية وأمل رغم السوداوية التي تغمرها، أما هذا النص بالذات، فأحسّه قريب الى نفسي والى ناس يحيطون بي، قد لا أعرفهم ولكنهم موجودين، (عنبر رقم 6) ممكن أن يكون بوتقة حياتنا وكل ما فيها من بساطة وطيبة وظلم وشرور وتسلط لسلطة واضطهاد من مجتمع.
تخفي (هند) آلاماً تعانيها من أثر وكعة صحية، وتضحك أثناء استعدادها للبروفة قائلة بأن معاناتها مع اللغة العربية الفصحى وحفظ حركات الكلمات، أصعب عليها بكثير من ألم ظهرها ومعدتها، أمر طبيعي وهي التي عاشت خارج بلدها منذ طفولتها، غير أنها تحب التمثيل، ليس لأن أمها كانت ممثلة محترفة، بل لأنها ترى في التمثيل حياة أخرى.
تحضر لنا روناك أنواعاً من الحلوى مع الشاي، ونجلس عند الطاولة نتحادث وقت الاستراحة: هل للنص الذي أعددته أي إسقاطات خاصة على واقع معين، كالعراق مثلاً؟
تضع في صحني (كليجة) عملتها بنفسها وتجيب: ربما، فلكل زمان أحداثه ومميزاته، وفي كل مكان في العالم توجد معاناة ومتاعب، غير أن كل ذلك ممكن أن يحدث في زمان ومكان آخر، ممكن أن يكون جارياً اليوم في بلدنا أو في مكان ومع ناس يشبهون شخصيات تشيخوف بشكل أو بآخر، المعاناة الانسانية متماثلة رغم اختلاف أشكالها وأراضيها وناسها.
تترك (عشتار) ابنها وابنتها مريضين بالحصبة في الدار برعاية والدهما، مجيئها الى هنا التزام هام لديها رغم انشغال بالها، تطمأن عليهما من حين لآخر، وتتواصل في إحياء شخصية رئيسية في المسرحية بدأب وتفوق، ناسية لبرهة عالمها الخاص، هل ذلك ما تعلمتيه يا عشتار من الوالدين مي شوقي وفاروق فياض، الممثلين المرموقين؟
أسألُ روناك وهي تسوق حين توصيلنا لأقرب محطة أنفاق من بيتها قبل أن نواصل رحلة  تقارب ساعة ونصف لديارنا:
لماذا حورّت النص وجعلت كل الشخصيات نسائية؟ ما الذي تريدين قوله وإيصاله من خلال الاعداد والإخراج؟
تنظر روناك أماماً الى السيارات المسرعة ليلا  وتقول، وهل يوجد أكثر من هو مضطهد ومقموع أكثر من النساء في هذا العالم؟ حقاً الظلم وفقدان العدالة يطالان الرجال أيضاً على السواء، وفي الخصوص إذا كانت سلطة جائرة وفاسدة، غير أن حصة النساء من الظلم السلطوي والاجتماعي أكبر، ربما أردت أن أبيّن واقعاً كان في يوم ما أجمل، وبانتكاسة ونكوص  صار لا يطاق، بسبب سلوك غير قويم لناس في مراكز قرار وسلطة وقوة.
تنزل (نوال) من السيارة وهي تفكر بوظيفتها الجديدة والدورة التدريبية بعد الدوام والبيت والأولاد وماذا ستعد من طعام ليوم غد...وتبتسم (فرات)، الفتاة حديثة العهد بلندن، بعد أن تآلفت مع الجميع، وتودع روناك التي نسمعها تصيح من نافذة السيارة:
ليلة سعيدة يا فتيات العنبر، أراكن  بعد غد في بروفة أخرى، لا تمرضن، لتهتم كل واحدة بصحتها، الى اللقاء.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced