لغز بولغاكوف ...صراع خفي بين الاديب والسلطان
نشر بواسطة: Adminstrator
الخميس 12-01-2012
 
   
عبدالله حبه
يخائيل بولغاكوف (1891- 1940)
لا يماري احد في ان الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891- 1940) يعتبر احد ابرز الكتاب الروس في القرن العشرين . وقد ادرجته جامعة ييل الامريكية بين أعظم عشرة كتاب أثروا في الادب العالمي المعاصر. علما ان اعمال هذا الكاتب القليلة لم تنشر في وطنه الا بعد وفاته باكثر من 25 عاما . وكان الكاتب قد نشر جزء فقط من روايته الاولى " الحرس الابيض" في احدى المجلات الدورية في عام 1923 وعدة قصص فجلبت اليه انظار النقاد والمهتمين بالادب بصفته موهبة ادبية متألقة جديدة . اما اعماله المسرحية الرئيسية مثل " أيام اسرة توربين" و" موليير" و" شقة زويا" فكانت تقدم على خشبة مسرح موسكو الفني ومسرح فاختانغوف في فترات متقطعة في حياته بين فترة واخرى طبقا لمزاج المسئولين في القسم الثقافي في الحزب الشيوعي السوفيتي. وفي الفترة من عام 1941 الى عام 1954 سمح بتقديم مسرحيتين له فقط هما "الايام الاخيرة "(بوشكين) و النص المسرحي الذي اعده من رواية نيقولاي غوغول "الانفس الميتة". وبقيت مخطوطات غالبية اعماله بدون نشر بعد وفاته في عام 1941. ولم تعرف ثلاثة اجيال من ابناء الاتحاد السوفيتي شيئا عن الكاتب واروع اعماله – رواية " المعلم ومرجريتا" الا في عام 1966 لدى نشرها مع حذف بعض المقاطع منها في احدى المجلات الادبية. وجسد الكاتب فيها وقائع حياته والاوضاع في بلاده بصورة مجازية وشاعرية اقترن فيها الواقع والخيال بأروع شكل مما جلب له الشهرة في الاتحاد السوفيتي والعالم حال نشرها.
ومأساة بولغاكوف تكمن في انه لم يستطع الاندماج مع الاوضاع الناشئة في روسيا بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية في عام 1917 حين دعا زعيمها لينين الى وضع الادب في كنف الحزب واخضاعه لمهام الثورة الآنية. ولئن سار في هذا الدرب الكثير من شعراء وكتاب الاتحاد السوفيتي لاحقا مثل فلاديمير ماياكوفسكي وديميان بيدني وحتى الكسندر بلوك في سني الثورة الاولى ومكسيم غوركي "كاتب البروليتاريا الاول" وميخائيل شولوخوف في الفترة بعد صدور روايته " الدون الهادئ" والكونت الكسي تولستوي بعد عودته من المهجروالكسندر فادييف وفالنتين كاتايف واسحاق بابل وزوشينكو وفسيفولود ايفانوف ومئات الكتاب والشعراء غيرهم ، فأن آخرين وجدوا صعوبة في الاندماج مع شعار "الادب والفن من اجل تحقيق مهام الحزب"، ومنهم بولغاكوف ومارينا تسفيتايفا وآنا اخماتوفا واوسيب مندلشتام وبوريس باسترناك وغيرهم الذين عانوا الامرين من الرقابة الحزبية وملاحقة السلطات لهم. علما انه ظهر في اواخر العشرينيات وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي عدد كبير من الكتاب " الحزبيين" الملتزمين بالواقعية الاشتراكية التي لم يستطع اي احد من الباحثين حتى الآن اعطاء تقييم دقيق ومحدد لها. وظهر كتّاب تخصصوا في الكتابة عن لينين مثلا ومنهم ميخائيل شاتروف الذي كتب سلسلة من المسرحيات عنه التي فرضت على مسارح البلاد . كما تخصص كتاب آخرون في الكتابة عن احداث الثورة البلشفية والحرب الاهلية .
وبعد الحرب العالمية الثانية صدرت مئات الروايات والمسرحيات عن بطولة رجال الجيش الاحمر. ومنذ اواخر العشرينيات توفي الكثير من المناضلين الثوريين او قتلوا في معارك الحرب الاهلية ، وتولى السلطة ممثلو البيروقراطية الحزبية ، وفقد الحزب شحناته الثورية ومبادئ العدالة الاجتماعية الحقيقية التي جذبت اليه سابقا بسطاء الناس والمعذبون في الارض. وفي هذه الاجواء ما كان يمكن تقبل ادب الكاتب ميخائيل بولغاكوف البعيد عن "الحزبية" ..... الكاتب الذي واصل تقاليد الادب الكلاسيكي الروسي ذي النزعة الانسانية البعيد عن الايديولوجيات . وثمة رأي سائد في خارج روسيا مفاده ان جميع الادب الروسي خاضع لايديولوجية ما. ولكن الدراسة الموضوعية لأعمال بوشكين وغوغول وسالتيكوف شيدرين وليسكوف وحتى تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف تظهر ان هذا الادب غير مؤدلج. وواصل بولغاكوف رسالة هؤلاء الكتاب وتأثر بشكل خاص بإعمال غوغول وسالتيكوف شيدرين في تصوير الواقع باسلوب ساخر. الأمر الذي جعله عرضة للهجمات المستمرة في الصحافة السوفيتية التي انهالت عليه بسيل من الاتهامات بكونه يخدم الفكر البرجوزاي ويتجاهل انجازات الثورة.
نشأ بولغاكوف في كييف في اسرة قريبة من الكنيسة الارثوذكسية. فقد كان والده استاذا في الاكاديمية الدينية، وورث هذه المهنة عن والده القسيس مرغما ، حيث ان ابناء رجال الكنيسة كانوا يتمتعون بالحق في الدراسة مجانا في المؤسسات التعليمية التابعة لها. اما والدته فقد كانت معلمة وابنة قمص في الكنيسة المحلية بمقاطعة اوريول حيث عاش الزوج ايضا. انها نفس المقاطعة ذاتها التي وهبت روسيا مشاهير الكتاب مثل تورغينيف وليسكوف وبونين. وعاشت الاسرة حياة متواضعة في بيت مستأجر ورزق الوالدان بخمسة اولاد وبنات اكبرهم ميخائيل الذي اتقن منذ صباه عدة لغات وتشبع بحب الادب الروسي والموسيقى والغناء والمسرح حيث كان غالبا ما يقدم افراد الاسرة واصدقاؤهم الحفلات الموسيقية والمسرحيات البيتية. وتأثر بولغاكوف بأجواء الفولكلور الاوكراني ذي السمات الشاعرية والخيال الواسع.
في صيف عام 1907 توفي افاناسي ايفانوفيتش رب العائلة بعد اصابته بمرض شديدة مرتبط بالتصلب الكلوي ، وهو المرض ذاته الذي اصاب ميخائيل لاحقا وادى الى وفاته في عام 1940 . وكان هذا الحدث كارثة بالنسبة الى الاسرة كلها لأنه كان معيلها الوحيد. وفي البداية هب الاصدقاء لمساعدة الاسرة وخصص لها راتب تقاعدي قليل، ثم اضطرت الام الى العمل في التدريس واصبحت مفتشة في مدارس البنات . ولكن مواردها لم تكن كافية لاطعام الاسرة الكبيرة.
كانت فارفارا ميخايلوفنا والدة الكاتب تتمنى ان يصبح اولادها من مهندسي السكك الحديدية. لكن ميخائيل التحق بكلية الطب في جامعة كييف. وعندما كان في السنة الرابعة نشبت الحرب العالمية الاولى فتطوع للذهاب الى الجبهة كطبيب جراح في مستشفى عسكري. وفي عام 1916 عاد الى كييف حيث انهى الدراسة في الجامعة بعد اداء الامتحانات . وقبل استلام شهادة التخرج عاد الى الجبهة مجددا وبرفقته الفتاة تاتيانا التي احبها وتزوج منها لاحقا. وعملت تاتيانا في المستشفى كممرضة. وفي العام نفسه استدعي ميخائيل الى موسكو وتم تبليغه بأنه يجب طبقا للقانون ان يلتحق بعد الدراسة بالعمل في احد مستشفيات الارياف في مقاطعة سمولينسك التي عانت من قلة الاطباء. وهكذا اصبح بولغاكوف الطبيب الوحيد في مستشفى قضاء سيتشفيف. وكان يقوم فيه بدور طبيب الباطنية والجراحة و العيون والاسنان وعلاج الاطفال. وقد كتب بولغاكوف فيما بعد عن تجاربه في هذه الفترة مجموعته القصصية" مذكرات طبيب ريفي ".
وسمع بولغاكوف في الارياف البعيدة نبأ قيام ثورة شباط البرجوازية في عام 1917 دون ان يعرف ما حدث بالضبط . فعاد الى كييف لزيارة والدته . وهناك بلغه نبأ قيام ثورة

ميائيل بولغاكوف وزوجته تاتيانا
اكتوبر الاشتراكية في عام 1917 . وأدى هذا الحدث الى تشتيت افراد العائلة التي كان شبانها جميعا يرتدون الزي العسكري وخدموا في الجبهة . وعانى ميخائيل بولغاكوف من تغير السلطة في كييف الذي كانت ترافقه الاعدامات والقتل على الهوية وافعال النهب والاغتصاب ، وهو ما يرافق عادة حالة الفوضى في غياب السلطة . ووجد بولغاكوف – الطبيب البعيد عن السياسة نفسه فجأة مرغما على مسايرة السلطات الجديدة والمتغيرة باستمرار . فقد جعله الحرس الابيض ضابطا طبيبا في جيشه وعندما احتل الالمان كييف مع مجئ نظام " الرادا المركزية" وارغموه على الخدمة في المستشفى التابع لهم . وعند انسحاب الالمان جاءت عصابات بتلورا من القوميين الاوكرانيين ومنحوه ايضا رتبة ضابط طبيب تابع لهم. وهرب رجال العصابات من المدينة بعد نهبها وتدميرها حين بدأ هجوم الجيش الاحمر عليها . وكتب بولغاكوف لاحقا "انني جندت لدى السلطة الخامسة التي سيطرت على المدينة". وصارت السلطة السوفيتية الجديدة تطارد جميع الضباط السابقين ولقى الكثيرون منهم حتفهم بأن أطلق عليهم الرصاص بدون اي سبب. وكاد بولغاكوف بدوره ان يقتل حين طاردته جماعة من المسلحين في الشوارع واطلقوا باتجاهه رصاص بنادقهم باعتباره ضابطا، وافلح في الهرب بالقفز وراء حاجز احد البيوت والاختباء في الازقة والوصول الى بيته حيث استبدل الزي العسكري بملابس مدنية. وبقي بولغاكوف الطبيب البالغ من العمر 27 عاما في المدينة المضطربة فترة قصيرة من الزمن. وقد روى الكاتب وقائع تلك الفترة في روايته الملحمية الكبيرة " الحرس الابيض" والتى حولها فيما بعد الى مسرحية" ايام آل توربين".
سيطرت القوات السوفيتية على كييف طوال ربيع وصيف عام 1919 . ورفعت في الشوارع لافتات كتب عليها "السلام للأكواخ – والحرب على القصور". واقيمت في اول ايار منصات في الشارع الرئيسي- كريشاتيك وقف عليها قادة اللجنة الثورية السوفيتية لاستعراض مظاهرات الكادحين الذين كانوا يرددون النشيد الاممي . بينما كانت تسمع بين حين وآخر طلقات الرصاص في اطراف المدينة خلال الاشتباكات مع افراد العصابات. وواصل بولغاكوف عمله كطبيب ليلا ونهارا بعد ان خلت المدينة من غالبية الاطباء الذين هربوا مع عوائلهم جراء حالة الفوضى. وفي اواخر آب حاصرت قوات الجنرال دينيكين المدينة بدعم عصابات بيتلورا واضطر الجيش الاحمر للانسحاب منها . وفي 31 آب رفع رجال بيتلورا لافتات في الشوارع كتب فيها :" عاشت اوكرانيا المستقلة" واعلنوا ان زعيمهم سيمون بيتلورا سيخطب في المساء. لكن دخل المدينة في المساء رجال الاستطلاع من جيش الجنرال دينيكين. واجتاحت كييف موجة من الارهاب والرعب والتدمير وبدأ تجنيد الرجال عنوة وكان من يرفض يعدم فورا. وتم تجنيد الاختصاصيين والاطباء بصورة خاصة وكان بولغاكوف احدهم. وانتقل الى مؤخرة القوات خارج المدينة مع غيره من الاطباء وفناني مسرح الاوبرا والموسيقيين وغيرهم ممن قررت قيادة قوات دينيكين ارسالهم الى الجنوب. وسافر الى مدينة فلاديقوقاز ليتوجه منها بعد لقاء زوجته تاتيانا الى مقر عمله الجديد في مدينة غروزني عاصمة الشيشان حاليا. وهناك حدث انعطاف حاد في حياة بولغاكوف . ويذكر الباحث ف. لاكشين احد اوائل من كتب عن سيرة حياة بولغاكوف يقول:" ان الافراد ينضجون في ظروف الثورة بسرعة...واعتقد بأنه لم يكن من وليد الصدف ان عمد طبيب الامس المتفوق في الدراسة، الذي بدا انه لم يكن لديه ما يشكو منه في مهنته، الى ترك عمله كطبيب ممارس في كييف ، فجأة وبدون سابق انذار ، وركب القطار الى جهة مجهولة لديه عبر اراضي البلاد التي عذبتها الحرب والجوع . وادرك في الطريق فجأة ، ما لم يحدسه من قبل وهو ان قدره ان يصبح كاتبا وليس طبيبا". حدث ذلك في سبتمبر عام 1919 وكانت منطقة القوقاز ما زالت تحت سيطرة الجنرال دينيكين ، واعتبر بولغاكوف طبيبا عسكريا يوجد في خدمته. ووصل الى مدينة روستوف-على-الدون وهناك صدر اليه الامر بالتوجه الى غروزني ومنها الى قرية شيشين- اؤول (في جمهورية الشيشان حاليا) حيث توجب عليه العمل كطبيب ريفي. لكنه عرف في غروزني ان سلطة دينيكين غير موجودة الا في جزء من المدينة لأن بلاد الشيشان الجبلية كانت تعيش حياتها الخاصة بها . وقد اعلن امامها الشيخ حجي اوزون (تجاوز عمره آنذاك سن العامين بعد المائة) "الغزوات" – اي الجهاد – ضد قوات دينيكين التي ضمت "الكفار" اتباع القيصر الروسي السابق. كما نشطت مجموعة البلشفي المضمد السابق غيكالو المؤلفة من العمال والحرس الاحمر في غروزني. فشهد بولغاكوف المعارك الطاحنة بين مختلف الفصائل المسلحة . ووصف بولغاكوف الملحمة الشيشانية هذه في روايته" المغامرات العجيبة لطبيب" التي يعتبرها المؤرخون خير مرجع عن الاحداث في القوقاز في تلك الفترة. ولاسيما المعركة عند شيشين- أؤول حيث تقابل فرسان القوزاق ومشاة دينيكين مع فصائل الثوار والبلاشفة وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين.
بقي بولغاكوف بعد الاحداث الدامية في شيشانيا في حيرة من امره. وانتقل مع زوجته مرة أخرى الى مدينة فلاديقوقاز الخاضعة للسلطة السوفيتية. وكتب عن هذه الفترة يقول:" لقد عانيت من وضع انعطاف نفسي حاد في 15 شباط عام 1920 حين تركت الطب الى الابد ووهبت نفسي للأدب". وكان جيش الفرسان الاحمر قد اقام السلطة السوفيتية في فلاديقوقاز. وبدأت تصدر في المدينة صحيفة ادبية بإسم" القوقاز" وعمل بولغاكوف فيها بصفة صحفي وتخلى نهائيا عن مهنة الطب، وبل اخفى شهادته كخريج كلية الطب "بإمتياز". وذكرت زوجته لاحقا انه مارس شتى المهن فعمل ممثلا في المسرح ومقدم

بولغاكوف كممثل مسرحي
برامج فنية ومحاضرا وألف القواميس وعمل مهندسا وصحفيا. وسعى الى اخفاء انتمائه الى عائلته في كييف خشية ملاحقات السلطة الجديدة. وفي مطلع عام 1920 لحقت الهزيمة بقوات الحرس الابيض في القوقاز نهائيا. وحلت ايام السلام الاولى بعد الحرب الاهلية. وكانت المنطقة مليئة بالآف الاطفال اليتامى .. هم عبارة عن هياكل عظمية ومغطاة بطبقة من الجلد – حسب وصفه. ووضعت السلطة كمهمة اولية لها تقديم المساعدة لهم. وجرت حملة لايواء واطعام هؤلاء الاطفال وكذلك تعليمهم. ونشأت منظومة تعليم وفي الوقت نفسه شُرع بنشر الادب الكلاسيكي العالمي والروسي .. وتأسيس المسارح وفق البرنامج الذي اعدته مفوضية الشعب للتنوير . ونظرا لقلة المثقفين في المدينة التي هجرها مثقفوها في فترة الحرب ، وكانت اللجنة الثورية التي تتولى ادارة الامور بحاجة الى اي شخص متعلم، فقد تم تعيين بولغاكوف في منصب رئيس القسم الادبي "ليتو"في اللجنة. وافتتح مسرح بإسم " المسرح السوفيتي الاول " في المدينة الجائعة. وقدمت فيه العروض المجانية للعمال والجنود رجال الجيش الاحمر. لكن المسرح كان بحاجة الى نصوص مسرحية تناسب المرحلة الثورية. فبدأ بولغاكوف بكتابة المسرحيات. وكتب اربع مسرحيات ذات مواضيع مختلفة ( " دفاعا عن النفس " و" الاخوة من آل توربين" و" عرسان من طين" و" ابناء الملا" و" ثوار كومونة باريس")، والتي قام بإتلافها لاحقا لأنه اعتبرها ضعيفة. كما صار يكتب المقالات الهزلية في الصحيفة المحلية. ولم ينشر القسم الادبي اي كتاب لعدم توفر الورق ، وحتى الصحيفة كانت تصدر بصفحتين او اربع صفحات صغيرة الحجم. لهذا تركز الاهتمام على تقديم حفلات فنية تتخللها المحاضرات عن بوشكين وتشيخوف وهايدن وباخ وموزارت يقدمها لهم "الرفيق بولغاكوف". اذ لم يوجد غيره من يستطيع القيام بهذا العمل في المدينة ايامذاك. وقد اثنت صحيفة " كومونيست" المحلية على نشاط الرفاق الشباب العاملين في "ليتو" من اجل نشر الثقافة البروليتارية. لكنها اشارت ايضا الى ان "واجبهم الثوري والحزبي" يقضي بعدم تقديم الادب والفن البرجوازيين بل نشر الادب البروليتاري والمستقبلي (نسبة الى تيار المستقبليين) . فالبروليتاريا لا تحتاج الى بوشكين وتشيخوف وامثاله.
دخل بولغاكوف في فلاديقوقاز عالم المسرح المحترف لدى تقديم مسرحياته على خشبة المدينة ذات التقاليد الفنية العريقة منذ العهد القيصري. وهناك بالذات قدم مسرحيته "الاخوة من ال توربين" لتي طورها لاحقا بموسكو حين عرضت بعد ستة اعوام في مسرح موسكو الفني بعنوان "أيام آل توربين". واصبحت من رموز المسرح السوفيتي والروسي حيث يتواصل عرضها في روسيا حتى اليوم. وتطورت في فلاديقوقاز مهاراته في الكتابة المسرحية. ولم يكن راضيا عن مسرحياته هذه لانها كتبت على عجل كما ذكر ذلك في رسالة موجهة الى شقيقته. لهذا فان نجاح هذه المسرحيات لم يخدع كاتبها. كانت نصوص مسرحياته ترسل الى " قسم التأليف المسرحي الشيوعي" في مفوضية الشعب للتنوير(وزارة الثقافة) بموسكو ، والذي كان يترأسه فسيفولود مييرهولد المخرج المسرحي الذائع الصيت فيما بعد. وقد ارتبط بولغاكوف معه فيما بعد بأوصر صداقة حميمية وعمل معه سوية في مسارح موسكو.
ان مصير بولغاكوف عموما يتسم بمسحة دراماتيكية منذ ان توفي والده وعندما عانت عائلته من العوز ومشقة الحياة. لكن بذور موهبته قد غرست فيه منذ الطفولة في اجواء حب الادب والفن والموسيقى والمسرح والشئ الاهم حب المطالعة التي أعطت ثمارها لاحقا حين ترك مهنة الطب ومارس الابداع الادبي. ولهذا وجد سهولة بالغة في الكتابة بأسلوب رشيق وجميل كان يحسده عليه الكثير من كتاب عصره. وثمة اسطورة بأن بولغاكوف بدأ الكتابة في وقع متأخر باصالة ونضوج كشفتا موهبته الفذة والاصيلة. وبدت "مذكرات مدونة على كم القميص" التي نشرت في عامي 1921 و1922، وكأنها من ابداع كاتب قدير تجاوز مرحلة النضوج، وظهر في الادب كاتبا" جاهزا". غير ان الواقع يبين ان الكاتب مر بمراحل اخفاق، وكذلك راودته الشكوك في قدراته الادبية قبل ان يصبح كاتبا شهيرا في الثلاثين من العمر تقريبا. وكان متشددا وحازما في تقييم أعماله مع نفسه، وغالبا ما كان يعيد كتابة اجزاء كاملة منها لأنه كان يعتبرها دون المستوى المطلوب. ويقول الباحث فلاديمير لاكشين ان بولغاكوف تعلم بهذه الصورة كيف يجب ألا يكتب في عمله الابداعي. وتعلم انه يجب الا يكتب بـ"طلبية" من أحد ما ولا "حول مناسبة معينة" وان يشعر ب" الخجل الاستيتيكي" من عمله- كما قال ليف تولستوي- الذي هو افضل دافع للكمال في الادب.
وتعتبر مقالاته الهزلية المنشورة في فترة 1922 – 1925 حين انتقل للاقامة بموسكو بمثابة "توطئة" لكتابة اعمال نثرية ناضجة. وكان قد بدأ العمل في القسم الادبي بمفوضية الشعب للتنوير (وزارة الثقافة) التي ترأسها الكاتب والفيلسوف البلشفي اناتولي لوناتشارسكي. ونشرت المقالات في جريدة "غودوك" لسان حال عمال السكك الحديدية وجريدة " في العشية " الصادرة في برلين باللغة الروسية. وقد كشفت مقالاته نضوجه وخبرته الكبيرة في الحياة، حيث شهد خلال الربع الاول من القرن احداثا مصيرية غيرت وجه روسيا وقلبت النظام القيصري ومن ثم البرجوازي ، وكوارث الحرب الاهلية واحداثها الدامية وخراب البلاد ماديا ومعنويا. وقد استمد بولغاكوف من هذه الوقائع المأساوية كلها مادة اعماله النثرية. وفي الواقع ان بولغاكوف الطبيب يشبه تشيخوف الطبيب في بداية حياته الادبية حين كان ينشر في الصحف مقالات هزلية صغيرة شحذ بها قلمه ككاتب مبدع لاحقا. وكتب بولغاكوف مثل تشيخوف عن نفوره من العمل الادبي "حسب الطلب" البعيد عن الابداع الحقيقي. لكنه مثل تشيخوف لم يكن منصفا لدى تقييم اعماله الادبيى المبكرة. فقد طور الكثير منها في اعماله لاحقا وضمنها رواياته ومسرحياته التي جلبت له الشهرة. اذن ان تجربة عمله في "ليتو" في فلاديقوقاز ومن ثم بموسكو وفي الصحف لم تذهب عبثا .
استقر بولغاكوف في نهاية المطاف بموسكو في اواخر ايلول 1920 بعد فترات تجول قصيرة في تفليس (تبيليسي حاليا) وباطومي وكييف . ووجد على الفور عملا في القسم الادبي "ليتو" التابع للسوفيت الادبي العام في موسكو . وانغمر في الاوساط الادبية للعاصمة حيث يوجد الكثير من الادباء المعروفين، بينما لم يكن قد نشر ايامذاك سوى"مذكرات على كم القميص". وجاء في رسالة موجهة الى امه في عام 1921 انه يفكر بكتابة دراما عن نيقولاي الثاني وراسبوتين واحداث 1916 -1917 ، وأعد خطة العمل . لكنه عدل عن الفكرة حيث انشغل بكتابة مجموعته القصصية " مذكرات طبيب ريفي" وواصل العمل في روايته الملحمية " الحرس الابيض".
وقد انطلق بولغاكوف في رواياته من تجاربه الادبية السابقة ، وامتزج اسلوبه الادبي الرفيع المتسم بالشاعرية المتفتحة والطليقة بالكلام اليومي الذي يتردد في الشارع. مما جعل قراءته ميسرة وسهلة لدى القارئ المثقف والبسيط على حد سواء. وقد ساعدت الكلمة المتداولة في الحياة اليومية بولغاكوف لدى تأليف الاعمال الدرامية التي تعتمد على الحوار. فهو شاعري وراوية في الدراما وفي الوقت نفسه هو كاتب درامي لدى تأليف القصص والروايات . إن السمة الاخرى المميزة للكاتب هو التزامه بالدقة في وصف الحدث وتحديده الزمان والمكان بأسلوب الريبورتاج لحد ذكر التواريخ والاماكن في المدينة بدقة متناهية. وهذا يرتبط ايضا بعمله كصحفي وكاتب ريبورتاجات وكطبيب ممارس يتوخى الدقة في كل شئ. وادخل بولغاكوف في العمل الادبي ما كان يعتبر " شيئا وضيعا ومبتذلا " في وصف الوقائع والاحداث اليومية وتقديمه بشكل جميل . وساعده في ذلك انه اعتاد كتابة يومياته التي ضمنها كل سمات الحياة اليومية، ومنها حتى حالة الطقس والاسعار في المتاجر ووسائل المواصلات ووصف الناس الذين كان يلتقيهم. لكن الشرطة صادرت هذه الدفاتر لدى تحري بيته واعيدت اليه لاحقا فقام بحرقها ولم يعاود كتابة اليوميات بعد هذا. وكان بولغاكوف يشعر بأنه المؤرخ الذي يدون احداث زمانه وحياته الشخصية. وبما ان الحوادث العابرة اليومية قد لاتبقى في الذاكرة فانه كان يدونها بصورة دقيقة. ولهذا نجده في نثره يطلق العنان لخياله وفي الوقت نفسه يصور "لون" و" مذاق " الزمن بصورة طبيعية. وفي هذا الترابط يغدو نثره تجسيدا لجاذبية أعماله الادبية المتسمة بروح العصر.
لا يعرف الكثير عن عمل بولغاكوف في "ليتو" بموسكو، وبقيت فقط مقاطع من اعماله الادبية غير المكتملة في تلك الفترة. وكتب عندئذ بقية "مذكرات على كم القميص" و" المغامرات العجيبة لطبيب"التي نشرت في 1921-1922 بمجلتي "في العشية " و" البوق". وانجز في هذه الفترة رواية" الحرس الابيض" ورواية " أيام أسرة توربين" وشرع بكتابة مسرحية " الهروب" حول احداث نهاية الحرب الاهلية. كما واصل كتابة رواية قصيرة اسمها " الداء". وقد شغلت الرواية فكره كما ورد في رسائله الى شقيقته. وفيما بعد تحولت الى رواية "المورفين" عن حياة طبيب ريفي ادمن على تعاطي المخدرات. ولم تنشر هذه الرواية الا في عام 1927 في مجلة " مديتسينسكي رابوتنيك" غير واسعة الانتشار الخاصة بأخبار الطب، والتي نشر فيها أيضا في عامي 1925 – 1926 المجموعة القصصية" مذكرات طبيب شاب". وكان بولغاكوف حسب اقوال معارفه في ذلك الوقت قليل الكلام كما لو انه لا يريد الافصاح عما يدور في فكره ، واذا ما تحدث فأن حديثه كان مترعا بالهزل الطريف الذي لم يكن يميز الزملاء الشباب من الصحفيين الجادين والمتحمسين للأحداث في فترة بناء الدولة السوفيتية الفتية في العشرينيات من القرن الماضي.
ونظرا لقلة ما نشره من اعمال ادبية في تلك الفترة وعدم وجود تجاوب من قبل القراء فقد كان بولغاكوف يشعر بنوع من العزلة الشديدة. وكان القلائل ممن تفهموه وقدروا موهبته ومنهم زوجته الثالثة يلينا سيرغييفنا التي رافقته حتى اليوم الاخير من حياته ، وكذلك بيوتر بوبوف احد القراء المعجبين به والذي سجل لاحقا سيرة حياته. وكان الكاتب يحتاج الى ردود فعل القراء والتجاوب معهم وهو امر بالغ الاهمية بالنسبة الى كل اديب في بداية درب الابداع.زد على ذلك انه كان بطبيعته يميل الى معاشرة الناس ، ويتوق الى التعارف مع الآخرين ، لكنه اضطر في هذه الفترة الى تجنب صخب الصالونات واللقاءات في النوادي والاجتماعات الادبية لأنه وجد فيها الكثير من النفاق والزيف والتي كان يصفها بانها " حفلات ساهرة في غرفة الخدم".
تغير الوضع حين عرض عليه تقديم النص المسرحي لروايته "الحرس الابيض" والذي تقرر اخراجها بعنوان "أيام أسرة توربين " على خشبة مسرح موسكو الفني في مطلع الثلاثينات. وكان بولغاكوف معجبا جدا بهذا المسرح وبأعمال ستانيسلافسكي ونيميروفتيش- دانشينكو فيه. وحدث الامر عندما تلقى رسالة جاء فيها:
"المحترم ميخائيل افاناسوفيتش!
بودي للغاية ان اتعرف عليكم والتحدث حول بعض الامور التي تهمني وربما تكون شيقة لديكم ايضا.
فإذا وجدت متسعا من الوقت سيسرني لقاءكم غدا مساء (4/4) في مبني الاستديو.
التوقيع :بوريس فيرشيلوف
وكانت الرسالة مكتوبة على ورقة فيها شعار " استديو مسرح موسكو الفني" . وقد وجهت الدعوة الى بولغاكوف لكتابة النص المسرحي لروايته التي انجز كتابتها لتوه ونشرت اجزاء كبيرة منها في نيسان 1925 في احدى المجلات الادبية هي "روسيا". وكانت هذه الدعوة بمثابة معجزة، لأنها جاءت في وقت كان الكاتب في امس الحاجة للتخلص من العمل الروتيني في "ليتو" الذي كان يستنزف القسم الاكبر من وقته وجهده ، بدلا من التفرغ للعمل الابداعي. وقيل لاحقا ان الدعوة تمت بتوصية من صديقه الشاعر بافل انتوكولسكي الذي كان يعمل في مسرح فاختانغوف واراد ان يخرج هذه المسرحية هناك ايضا. وقد وعده بولغاكوف لاحقا بمسرحيته التالية " شقة زويا" بدلا من"آل توربين". علما ان مسرح موسكو الفني كان بعد جولته في امريكا واوروبا بحاجة ماسة الى ربرتوار يتضمن مسرحيات جديدة غير مسرحيات تشيخوف وغوركي والكسي تولستوي التي اخرجت في فترة اصبحت في طيات الماضي... وبالذات الى مسرحيات تتحدث عن الاحداث الثورية في عام 1917 لتقديمها في ذكرى قيام الثورة.
عكف بولغاكوف على كتابة المسرحية طوال الصيف. وفي هذه الفترة ايضا نشر قسما آخر من روايته "الحرس الابيض" واعد للطبع كتابه " اقاصيص شيطانية" وتضمنت هذه المجموعة القصة الطويلة " البيوض القاتلة " التي حظيت كثيرا باعجاب مكسيم غوركي. لكنها اثارت غضب ليونيد افيرباخ المسئول في الاتحاد الثوري للكتاب البروليتاريين الذي نشر في صحيفة "الازفستيا" مقالة هاجم فيها بولغاكوف واعتبره كاتبا بعيدا عن نهج الثورة. لكن غالبية ادباء روسيا رحبوا بظهور موهبة شابة جديدة يمكن مقارنته بتولستوي ودوستويفسكي. وغدا بولغاكوف بين ليلة وضحاها حديث المنتديات الادبية والمسرحية في روسيا.
وعموما ان بولغاكوف تحدث فيما بعد في روايته الساخرة " رواية مسرحية" عن مجيئه الى مسرح موسكو الفني وعمله هناك. وأبدى رجال المسرح حماسا كبيرا لدى اخراج المسرحية التي حققت نجاحا باهرا وقدمت على خشبة المسرح الموسكوفي حتى الآن اكثر من ألف مرة. وتولى مهمة الاخراج ايليا سوداكوف تحت اشراف ستانيسلافسكي. وشارك بولغاكوف نفسه في جميع البروفات واعترف ستانيسلافسكي فيما بعد في رسالة الى بولغاكوف في4 ايلول 1930 " لقد عملت معك في عدة بروفات فقط من"آل توربين"... وتحسست فيك عندئذ موهبة المخرج (وربما الممثل؟)".
وهكذا وجد بولغاكوف في اعوام الثلاثينات الوسط الذي يمكن ان يعيش فيه وخرج من عزلته القسرية السابقة. فالمسرح عمل جماعي، وعيد دائم لجميع العاملين فيه بالرغم من جميع المصاعب التي ترافق العمل المسرحي. وكان من اكبر الصعوبات بالنسبة له عدم تقبل ستانيسلافسكي لرؤية بولغاكوف في التأليف المسرحي. ومن المعروف ان ستانيسلافسكي رفض في حينه قبول تقديم مسرحيات تشيخوف في مسرح موسكو الفني ، لولا تدخل نيميروفيتش - دانشينكو المربي المسرحي والكاتب والمخرج المسرحي الذي كان معجبا بتشيخوف، و تنازل حتى عن جائزة بوشكين الادبية التي منحت له لصالح تشيخوف. وقد كشف امامه الابعاد الفنية القيمة لمسرحيات تشيخوف وقام شخصيا بتدريب الممثلين على الادوار. وحدث الشئ ذاته هذه المرة مع مسرحيات بولغاكوف حيث طلب ستاتنيسلافسكي تغيير العديد من المشاهد وحتى التركيز على ابطال معينيين فيها . الامر الذي أثر غضب بولغاكوف. وحدثت مناقشات حادة خلال البروفات. وحدث الشئ ذاته لدى العمل في مسرحيات بولغاكوف الاخرى في هذا المسرح ومنها "موليير". وفي آخر المطاف اضطر بولغاكوف على تقديم استقالته والانتقال للعمل في مسرح البولشوي في كتابة ليبرتو الاوبرات. وكتب بولغاكوف في رسالة مفعمة بالسخرية المريرة الى صديقه بيوتر بوبوف يشكو فيها من ادارة مسرح موسكو الفني جاء فيها:" لدي عيد اليوم.. انني اجلس عند المحبرة وانتظر ان يفتح الباب ويظهر وفد من ستانيسلافسكي ونيميروفيتش يحمل رسالة تحية وهدية ثمينة. ويشار في التحية الى جميع مسرحياتي المشوهة والقتيلة ...كما تدرج قائمة بجميع الافراح التي انعموا بها علي خلال عشرة اعوام في زقاق مسرح موسكو الفني . اما الهدية الثمينة فستتمثل بأناء من معدني نبيل ما ( النحاس مثلا) فيه الدم الذي امتصاه من عروقي خلال عشرة اعوام". وتعبر هذه الرسالة بشكل مؤثر عن معاناة بولغاكوف من العمل في المسرح الذي احبه وعمل وصقل مواهبه فيه كاتبا ومخرجا وممثلا ومنحه كل قواه خلال العقد الاخير من حياته. إن اقوال بولغاكوف هذه تجسد ايضا الصراع بين عبقريتين ارادت كل واحدة اثبات وجهة نظرها في العمل الفني. وبعد هذا منعت مسرحياته من قبل الرقابة الحزبية.
وترتبط بفترة عمل بولغاكوف شخصية أخرى أثرت في مصير بولغالكوف هي شخصية الزعيم السوفيتي يوسف ستالين. وعرف الادب السوفيتي الكثير من الكتاب الذين لم يمارس ستالين في حياتهم تأثيرا يذكر باستثناء مكسيم غوركي. اما علاقته ببولغاكوف فهي علاقة خاصة جديرة بالذكر. فمنذ العروض الاولى لمسرحية " أيام آل توربين " التي قدمت في مسرح موسكو الفني في عام 1926 ابدى ستالين اهتماما بعمل بولغاكوف. ورغم ان ستالين كان يشجع احتدام الصراع السياسي في الادب والذي ترك آثاره المؤلمة في حياة بولغاكوف الا انه عمل في الوقت نفسه على بسط نوع من الحماية على الكاتب بصورة خفية. وقد صور بولغاكوف هذا الوضع بصورة مجازية في مسرحيته عن موليير وعلاقته بالملك لويس الرابع عشر. وثمة شبه فعلي بين الحالتين.
وفيما وصف ستالين مسرحيات بولغاكوف في رساته الى الكاتب المسرحي بيل – بيلوتسيرسكي بأنها مسرحيات " غير بروليتارية " بلاشك ، فأنه دافع في الوقت نفسه عن " آل توربين" من هجمات اتحاد الكتاب البرولتياريين بقوله :" طبعا ان من السهل توجيه " النقد" والمطالبة بحظر الادب غير البروليتاري . لكن الشئ السهل جدا لا يمكن اعتباره شيئا جيدا... اما بصدد مسرحية " أيام آل توربين" فهي فهل ليست رديئة لهذا الحد كما انها تجلب المنفعة أكثر من الضرر. ولا تنسوا ان الانطباع الرئيسي المتبقي لدى الجمهور من هذه المسرحية هو انطباع جيد بالنسبة الى البلاشفة". وقال ستالين الشئ ذاته عن مسرحية بولغاكوف الاخرى " الهروب" بعد مطالعته لمسودتها:" انها من ناحية "ظاهرة معادية للسوفيت" لكن من ناحية أخرى انا لا اعارض في تقديمها على خشبة المسرح اذا ما اضاف بولغاكوف الى مشاهد الاحلام الثمانية فيها حلما آخر او اثنين آخرين يصور فيهما المحور الداخلي للولب الحرب الاهلية في الاتحاد السوفيتي...".
ويشير الباحث فلاديمير لاكشين الى ان ستالين شاهد عرض " أيام آل توربين" 15 مرة كما شاهد عرض " شقة زويا" في مسرح فاختانغوف 8 مرات. ولربما اعجب ستالين بصراحة بولغاكوف الذي يطرح الامور بدون لف ودوران. ان ستالين الذي كانت تساوره الريبة والخوف من الطعنة في الظهر قد ثمن في بولغاكوف تمسكه برأيه وبشعور الكرامة الذاتية لديه ، والتي تجلت في رسائل بولغاكوف الموجهة الى الحكومة السوفيتية. وقد كتب بولغاكوف عدة رسائل الى ستالين. فكتب في 3 ايلول 1929 الى ستالين راجيا السماح له ولزوجته بالسفر الى الخارج. لكن ستالين لم يرد وربما لم تصل الرسالة اليه اصلا من مساعديه. وكتب بولغاكوف الرسالة الثانية في عام 1930 في لحظة يأس عندما منعت مسرحياته وفقد الأمل في نشر اعماله والحصول على اي عمل عموما. وجاء فيها:" بعد ان منعت جميع اعمالي وتعالت اصوات كثير من المواطنين الذين يعرفونني ككاتب ناصحين بقولهم : اكتب مسرحية " شيوعية"، وكذلك ابعث الى الحكومة السوفيتية برسالة غفران تتضمن التخلي عن افكاري السابقة التي اوردتها في اعمالي الادبية، مع التأكيد بأن اعمل منذ الآن فصاعدا ككاتب – مساير مخلص لفكرة الشيوعية.
ان الهدف هو انقاذ نفسي من الملاحقات والفقر والهلاك الحتمي في نهاية المطاف.
لكنني لم اصغ الى هذه النصيحة. وهيهات ان ابدو امام حكومة الاتحاد السوفيتي بشكل نافع اذا ما كتبت رسالة زائفة تصورني كبهلول وبهلوان سياسي ساذج. كما انني حتى لم احاول كتابة مسرحية شيوعية لأنني أعرف مقدما بأنني لن افلح في كتابة مثل هذه المسرحية.
لقد نضجت لدي الرغبة في التوقف عن عذاباتي هذه في الكتابة مما ارغمني على التوجه برسالة صادقة الى حكومة الاتحاد السوفيتي"...
وأورد بولغاكوف الامثلة عن النقد الظالم والهدام لمسرحياته بقوله :
" إنني لم اورد افكاري بالهمس في ركن منعزل. أنني اوردتها بشكل عمل دراماتيكي ساخر وقدمتها على خشبة المسرح. فكتبت الصحافة السوفيتية عن مسرحيتي " الجزيرة الحمراء" – بتحريض من لجنة الربرتوار العامة – تقول انها تشنيع بالثورة. وهذا افتراء غير عادل. فالمسرحية تخلو من التشنيع بالثورة لأسباب كثيرة سأورد احدها لقلة المجال وهو ان من المستحيل كتابة تشنيع بالثورة لعظمتها البالغة . ان الكتابة الساخرة هي غير التشنيع. كما ان لجنة الربرتوار العامة هي ليست الثورة... ان النضال ضد الرقابة مهما كانت وفي ظل اية سلطة وجدت هو واجبي ككاتب ، وكذلك من واجبي الدعوة الى حرية الصحافة. انا من اشد المعجبين بهذه الحرية واعتقد انه ذا ما أراد احد الكتاب اثبات انه لا يحتاج اليها فمثله مثل السمكة التي تعلن جهارا انها ليست بحاجة الى الماء.
تلكم هي احدى سمات ابداعي...لكن مع السمة الاولى وجميع السمات الباقية الموجودة في أعمالي الساخرة تبدو : صبغات سوداء وغيبية (فأنا كاتب غيبي الاتجاه) تجسد القبائح الكثيرة لواقعنا المعيشي ، والسم المترع به لساننا، والتشكك الشديد بالعملية الثورية الجارية في بلدي المتخلف ، ومقابلتها ب"الارتقاء العظيم "، والشئ الرئيسي تصوير السمات البشعة لشعبنا ، وفي رواية " الحرس الابيض" اظهرت السمات التي اثارت قبل الثورة بوقت طويل المعاناة الشديدة لدى استاذي الكاتب سالتيكوف- شيدرين.
ناهيك عن القول ان الصحافة السوفيتية لم تمعن الفكر في هذا كله وانشغلت بالانباء غير المقنعة الزاعمة ان الاعمال الساخرة لميخائيل بولغاكوف هي " افتراء"...
وفي نهاية المطاف ان سماتي الاخيرة في مسرحيتي القتيلتين " أيام آل توربين " و" الهروب" تصور الانتلجنسيا الروسية باصرار بكونها الفئة الافضل في بلادنا. وبضمن ذلك تصوير عائلة من المثقفين – النبلاء القت بها المصائر التأريخية المحتومة في اعوام الحرب الاهلية في معسكر الحرس الابيض ، وفقا لتقاليد " الحرب والسلام". وتصوير ذلك هو شئ طبيعي بالنسبة الى الكاتب المرتبط بالانتلجنسيا ارتباطا وثيقا.
لكن مثل هذا التصوير يقود الى الاستنتاج بان صاحب هذه المؤلفات يلقي في الاتحاد السوفيتي على قدم المساواة مع ابطاله – بالرغم من كل جهوده الكبيرة في ان يقف محايدا فوق الحمر والبيض - مصير وصفه بالعدو- واحد رجال الحرس الابيض ، ولا يمكن ان يطلق هذا الوصف ، كما يدرك ذلك الجميع ، الا على من يعتبر نفسه شخصا ضائعا ومنتهيا في الاتحاد السوفيتي.
.. لقد لحق الهلاك ليست اعمالي الماضية فقط بل والحاضرة والقادمة ايضا. وقد ألقيت شخصيا بيدي في نيران الموقد مسودة روايتي حول الشيطان ومسودة كوميديا وبداية رواية " المسرح".
واضحت جميع أعمالي بلا أمل.
انني ارجو الحكومة السوفيتية ان تأخذ بعين الاعتبار انني لست شخصية سياسية بل اديب ، وانني وهبت جميع اعمالي الى خشبة المسرح السوفيتي...
يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار ان منعي من الكتابة يعادل بالنسبة لي دفني حيا.
انني اناشدكم باسم الروح الانسانية للسلطة السوفيتيىة اطلاق حريتي ...انا الكاتب الذي لا يستطيع ان يكون نافعا في وطنه.
واذا كان ما اوردته غير مقنع وحكم علي بالصمت مدى الحياة في الاتحاد السوفيتي ، فانني ارجو الحكومة السوفيتية ان توفر لي العمل باختصاصي وانتدابي للعمل في المسرح بصفة مخرج على الملاك الدائم..انني اقدم نفسي الى الاتحاد السوفيتي بكل نزاهة وبدون اي ظل لالحاق الضرر اختصاصيا – مخرجا وممثلا يعمل بنزاهة على اخراج اية مسرحية ابتداءا من مسرحيات شكسبير ولحد مسرحيات اليوم الراهن...
واذا لم يتم تعييني كمخرج فارجو قبولي كممثل كومبارس دائم. واذا لا يمكن تعييني بصفة كومبارس فارجو قبولي كعامل في خشبة المسرح.
واذا ما كان ذلك غير ممكن فأرجو الحكومة السوفيتية البت في أمري كما تراه ضروريا ، لكن يجب القيام بذلك لأنني ، انا الكاتب المسرحي صاحب 5 مسرحيات والمعترف به في الاتحاد السوفيتي وخارجه ، أرى أمامي في اللحظة الراهنة – الفقر والشارع والهلاك".(الرسالة محفوظة في ارشيف ميخائيل بولغاكوف في مكتبة لينين).
ارسلت هذه الرسالة في 28 آذار عام 1930 الى سبعة عناوين ، اما النسخة المخصصة لستالين فقد سلمها اليه شخصيا ي. ليونتييف نائب مدير مسرح البولشوي آنذاك. وجاء الرد بصورة متأخرة وبشكل رد واحد هو المكالمة الهاتفية الشهيرة بتأريخ 18 نيسان 1930 حين تحدث ستالين مع الكاتب شخصيا. وجاء في نص المكاملة الذي دونته زوجته يلينا بولغاكوفا:
"- نحن استلمنا رسالتك . وقرأناها ...انا والرفاق. ستتلقى ردا ايجابيا على الرسالة. ولكن ربما ينبغي ان نسمح لك حقا بالسفر الى الخارج ؟ فهل اننا اضجرناك جدا؟
- انني في الفترة الاخيرة فكرت كثيرا فيما اذا يستطيع الكاتب الروسي العيش خارج وطنه ، وخلصت الى الاعتقاد بانه لا يستطيع ذلك.
- انت على حق. انا اعتقد ذلك ايضا. اين تريد ان تعمل ؟ في مسرح

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced