أذر نفيسي: فصل من رواية "لوليتا في طهران
نشر بواسطة: Adminstrator
الأحد 20-09-2009
 
   
ترجمة: ريم قيس كبّة
مقطع من الفصل الرابع

أوسـتن
1

قالت "ياسي" بما يشبه التصريح: "انها حقيقة مسلّم بها في كل مكان: حقيقة ان الرجل المسلم اياً ما كانت حالته المادية, لابدّ وأن يكون راغباً بالزواج من فتاة عذراء في التاسعة من عمرها". أعلنت "ياسي" ذلك بنبرتها المعهودة الخالية من الإنفعال والمشوبة بشيء من السخرية وأحياناً بشيء من التهريج وكانت هذه ربما واحدة من تلك الأحايين.

فبادرَتـْها "مانا" فوراً: "ولماذا لا نقول بأنها حقيقة مسلّم بها في كل مكان: حقيقة ان الرجل المسلم لابد وأن يكون راغباً بالزواج من أكثر من إمرأة واحدة؟" قالتها وهي ترمقني بنظرة متآمرة كانت عيناها السوداوان طافحتين بالسخرية وبالثقة التامة من أنها ستحظى منّا بالرد المناسب. كانت "مانا", بخلاف "مهشيد", تمتلك طريقة خاصة للتفاهم بشكل سرّي مع القلائل الذين تحبهم. وكانت وسيلة إتصالها الأهم هي عينيها: فأما أن تركزهما او تبعدهما عن المقابل. وقد نمَتْ بيننا شفرة خفية بيد أنها كانت إذا ما شعرت بأنها إستُفزّت وما أسهل ما كانت تُستفز, فانها تخفض بصرها وتحيد به جانباً فتختفي نبرة التآمر من كلماتها.

    كان ذلك ذات صباح من تلك الصباحات الرمادية الباردة في أوائل كانون الأول/ديسمبر كانت السماء الغائمة والقشعريرة في الجو تُنذر بقرب هطول الثلج. وكنت قد طلبتُ من "بيجان" أن يوقد لنا نار الموقد قبل ان يغادر الى العمل, ففعل وراحتْ النار تغمرنا بدفئها اللذيذ. ربما كانت الـ"حميمية" هي أفضل وصف لشعورنا آنذاك وهي واحدة من العبارات المفضلة لدى "ياسي". كانت كل المعطيات الضرورية قائمة: شبابيك مضمّخة بالضباب أكوابٌ من القهوة تتصاعد أبخرتها هسيسُ نار موقدة حلوى من الـ"كريم بَف" بالقشطة كنزات من صوف سميك وكانت تتماهى في الغرفة راحة القهوة والدخان والبرتقال. كانت "ياسي" تجلس شبه متمددة على الأريكة, في مكانها المعتاد مابين "مانا" و"آذين". (كم تثير إستغرابي تلك الفتاة مرة بعد اُخرى: فكيف لجسدٍ ضئيل كجسدها أن يشغل هذا الحيز الكبير من المكان؟) أطلقَتْ "آذين" ضحكتها العابثة المجلجلة في الفضاء, وقرّبَتْ "نسرين" كرسيّها من الموقد وراحت يداها اللتان لا تعرفان الهدوء تطعمانِ النار قشوراً من البرتقال وكانت حتى "مهشيد" قد جادت علينا بشيء من الإبتسام.               


كانت أحاديثنا التي تتقافز بين الحين والحين مابين الجد والهزل تشكّل دليلاً واضحاً على مدى الحميمية والاُلفة التي نمَتْ بيننا. كان ما يشدنا لمعظم الكتـّاب هو المتعة، خاصة "أوستن"، حتى اننا كنا أحياناً نغالي في مشاعرنا فنتعامل مع النص بطفولية ومشاكسة لا لشيء سوى الإستمتاع. فكيف يمكن للمرء ان يقرأ الجملة الأولى من "الكبرياء والتحيز" دون أن يدرك تماماً بأن ماتريده "أوستن" من قرائها هو ذلك التعامل تحديداً؟

  كنا بإنتظار "ساناز" في ذلك الصباح فقد أخبرتنا "ميترا" وقد أشرقتْ غمازتاها قليلاً بأن "ساناز" تتمنى علينا إنتظارها لأن لديها مفاجأة لنا. وقد إكتفَتْ "ميترا" بالرد على كل تخميناتنا المشاكسة بإبتسامة متحفظة.

  راحتْ "آذين" تخمّن قائلة: "لابد وأن أمراً من إثنين قد حدث: فإما مشاجرة جديدة مع أخيها جعلتها تقرر أخيراً ترك البيت والإنتقال للعيش مع عمّتها الرائعة, او إنها ستتزوج من حبيبها أخيراً." قالت ذلك وهي تحرّك يدها و"تشخلل" بأساورها الذهيبة والفضية. فعلّـقت "ياسي" وهي تعدّل من جلستها قليلاً: "اذا إحتكمنا لإبتسامة "ميترا" فان إحتمالية الزواج ستكون هي الأرجح."

  إزدادت غمازتا "ميترا" إشراقاً بيد أنها رفضتْ الإستجابة لإستفزازاتنا. نظرتُ اليها فخطر ببالي زواجها من "حميد" مؤخراً. لابد وانهما كانا يختلسان اللقاءات من تحت أنفي دون أن يساورني الشك بهما. لقد دعياني الى زواجهما, ولكن "ميترا" لم تكن قد لمّحَتْ بشيء عن علاقتهما قبل ذلك. وكنت قد سألتها بفضول وقلق: "هل وقعتما في الحب؟" مما حدا بـ"مانا" ان تقول متأففة: "ياإلهي! انه ذلك السؤال الممل مرة اخرى!" لقد منحتُ أصدقائي وزملائي فرصة سانحة للتندّر دائماً إذ أنني لم أكن استطيع أن أقاوم سؤال كل من يتزوّج: "هل وقعتَ في الحب؟" كنت أطرح ذلك السؤال بلهفة وإلحاح دائمين ولم أكن لأحظى بسوى إبتساماتٍ لامبالية. أما "ميترا" فقد إحمرّتْ وجنتاها أمام سؤالي وأجابت بخفر: "آه.. نعم.. بالتأكيد."

    قالت "آذين" بتعفف زائف: "ولكن من ذا الذي يشغله التفكير بالحب هذه الايام؟" كان شعرها مسحوباً الى الخلف على شكل ذيل الفرس وتتراقص بخفة خرزات صغيرة من الفيروز عند اذنيها كلما أومأتْ برأسها. وإستأنفَتْ: "لقد أعادتنا الجمهورية الإسلامية الى عصر "جين أوستن" فليبارك الله الزيجات التقليدية التي ترتبها العائلة! لقد صارت البنات تتزوج هذه الأيام لأنهنّ مجبرات على ذلك.. أعني أن العائلة تجبرهن او أنهن يتزوّجن من أجل ضمان الإستقرار المادي او ربما من أجل الحصول على البطاقة الخضراء في أمريكا او من أجل الجنس.. او .. او .. إنهنّ يتزوّجنَ لأسبابٍ مختلفة أما الحب فنادراً ما يكون سبباً للزواج." ألقيتُ نظرة على "مهشيد" فبدَتْ وكأن لسان حالها يقول: "هاقد عدنا من جديد الى هذا الموضوع!" على الرغم من أنها كانت قد إلتزمتْ الصمت تماماً.

  وواصلَتْ "آذين", وهي تمدّ يدها الى كوب القهوة: "نحن نتحدث عن البنات المتعلمات عن مَن هنّ مثلنا, عن اللواتي درسْنَ في الكليات ويتوقع المرء أن يكنّ على مستوى أعلى من الطموح." 

  فبادرَتْـها "مهشيد" بهدوء دون النظر اليها: "ليس كلهنّ على تلك الشاكلة. فثمة الكثير من النساء المستقلات. وكم منهنّ إخترنَ ان يصبحنَ سيدات أعمال ناجحات, واُخرياتٌ إخترنَ ان يعشنَ بمفردهنّ." فقلتُ في سري: "بلى.. فعلاً! اوَ لستِ انتِ واحدة منهن؟ إنسانة جادة متعلمة وعاملة ومع هذا لا تزال تعيش مع أهلها وهي في الثانية والثلاثين!"

  قالت "مانا": "ولكن معظمهنّ لا يملكنَ حقّ الإختيار. أظن إننا متخلفون جداً عن عصر "جين أوستن"." كانت تلك من المرات القلائل التي أتذكر بها "مانا" وهي تنحاز ولو ضمنياً الى "آذين" ضد "مهشيد". وخلُصَتْ "مانا" الى القول بنبرة حزينة: "لقد كانت اُمي أوفرنا حظاً في إختيار شريك حياتها, فغدَتْ خياراتي أنا أقل, وستكون خيارات اُختي الصغرى أقل حتى مني."

  فقالت "نسرين" وهي تعيد ترتيب قشور البرتقال في صحنها مثل لعبة الجيكسو: "ولكن ماذا عن الزواج المؤقت؟ يبدو إنكنّ تتناسينَ البديل المتنوّر الذي منحنا إياه رئيسنا!" كانت "نسرين" تشير بذلك الى أحد الأحكام الإسلامية الخاصة بإيران وهو حكمٌ يبيح للرجل ان تكون له رسمياً أربع زوجات وأن تكون له ما يشاء من الزوجات بشكل مؤقت. والحكمة من وراء ذلك هو إشباع رغبات الرجال حينما تكون الزوجات غائبات او عاجزات عن الإرضاء. وبوسع الرجل إبرام "صيغة" عقد كهذه لمدةٍ قد تقصر لتصل الى عشر دقائق او قد تطول لتصل الى تسعةٍ وتسعين عاماً. كان الرئيس رفسنجاني, الذي كان قد نال شرف الحصول على لقب الإصلاحي آنذاك, قد إقترح على الشباب الخوض في تجربة الزيجات المؤقتة. وقد أثار هذا الأمر حفيظة السلفيين والتقدميين على حدٍ سواء. فقد وجد السلفيون في ذلك تحركاً سياسياً محنّـكاً من الرئيس لكسب تأييد الشباب له, وحدا بالتقدميين أيضاً الى التشكيك بدوافع الرئيس بالإضافة الى أنهم وجدوا في ذلك الأمر إهانة صارخةً للمرأة على وجه الخصوص. وذهب بعضهم بعيداً حتى أطلق على تلك الصيغة من الزواج إسم: "البغاء الشرعي".

  قالت "مهشيد": "انا لست مع الزواج المؤقت." ثم صمتَتْ لتضيفَ بحذر: "ولكني أرى بأن الرجال هم أضعفُ فعلاً من النساء ولديهم فعلاً رغبات جنسية لا تُشبع بسهولة إنه في النهاية خيار الفتاة فلا يمكن لأحدٍ أن يُجبرها على الموافقة."

  فقالتْ "نسرين" بإشمئزاز واضح: "خيار الفتاة؟ يبدو أن مفهومك عن الخيارات مضحك فعلاً!"

  فلم تجبها "مهشيد" وإكتفتْ بأن تخفض بصرها.

  وواصلَتْ "نسرين" بغضب: "أن بعض الرجال, بل وحتى أكثرهم ثقافة وعلماً يرون في ذلك تقدّماً. كنتُ اُناقش أحد أصدقائي في هذا الأمر وقد قلتُ له بأنني لن أقتنع بأن هذا الحكم ينطوي على تقدّم الا اذا جعلوا للمرأة فيه حقوقاً مثل حقوق الرجل. هل تردنَ التعرّف على مدى "تفتح" عقلية هؤلاء الرجال؟ إسألوهم عن الزواج ولكم ان تلمسوا بعد ذلك حجم الإزدواجية! انا لا أتحدثُ عن المتديّـنين منهم.. مطلقاً.. بل أخصّ العلمانيين" كانت تتحدّث وهي تُلقم النار قطعة اخرى من قشور البرتقال.

  فعلّقَتْ "ياسي" وهي تعقد ما بين حاجبيها: "فعلاً .. فلا أمي ولا اي من خالاتي كنّ قد تزوّجنَ عن حب, على الرغم من أن كل اخوالي لم يتزوجوا الا عن حب! ألا يبدو ذلك غريباً فعلاً؟ الى أين سيمضي بنا الحال؟ أعني أي إرث سنرث من هذه القصص؟" وبعد هنيهة تأمّـل أضافتْ وقد أشرق وجهها من جديد: "لو كانت "جين أوستن" في مكاننا كانت حتماً ستقول: إنها حقيقة مسلّم بها في كل مكان تفي بأن الرجل المسلم اياً ما كانت حالته المادية, لابدّ وأن يكون راغباً بالزواج من فتاة عذراء في التاسعة من عمرها!" 

  هكذا كنا قد إبتدأنا لعبتنا فقد أغرتنا جملة "أوستن" الإفتتاحية الشهيرة ورحنا ننسج حولها الجُـمل وهو إغراء لابد وأن يكون كل قارئ من قراء "أوستن" قد أحسّ به ولو لمرة واحدة.

  قطعَ صوتُ الجرس مهرجان مرحنا. كانت "مهشيد" أقربنا الى الباب, فقالت: "سأفتح انا." سمعنا صوت البوابة الرئيسة وهو ينغلق, تبعَتْـه خطوات على الدرج ثم هنيهة صمت تلاها صوت "مهشيد" وهي تفتح الباب لأصوات الضحكات والتحايا. دخلتْ "ساناز" وقد إرتسمَتْ على وجهها إبتسامة مشرقة. كانت تحملُ علبة كبيرة من المعجنات فسألتها: "ولماذا المعجنات؟ انه ليس دورك." فقالت بغموض: "بلى.. ولكنني أحملُ أنباءً سارة."                                                   

  فسألتْ "ياسي" بتكاسل وهي شبه غاطسة في مكانها على الأريكة: "هل ستتزوجين؟" وأجابت "ساناز" وهي تخلع عنها معطفها الطويل وغطاء راسها الصوفي: "دعيني أجلس اولاً." ورفعَتْ رأسها بشكل مائل الى أحد الجانبين بخفة وغنج لاتجيده سوى إمرأة ذات شعر جميل وقالت مصرّحة: "سيهطل الثلج."

  وتساءَلتُ في سرّي: ألنْ تعتذر عن التأخير؟ لقد بدا ذلك ضرورياً حتى  في مناسبة كهذه مناسبة تملك فيها عذراً دامغاً ولن يلومها أحد.

  فقالت بإبتسامة آسرة: "أنا آسفة جداً على تاخري مرة اخرى." ولم يكن في إبتسامتها ما يدل على الأسف.                           

  قالت "آذين": "لقد تعدّيتِ على حقوقي فالتأخير هو من إختصاصي انا!" وكانت "ساناز" تفكر بتأجيل ما لديها من أخبار حتى وقت الإستراحة. كنا قد إتفقنا مسبقاً على أن نُرجئ حكاياتنا الشخصية حتى وقت الإستراحة فقد كانت تلك الحكايا قد بدأت تتسرب بشكل متزايد بيننا في ندوات الخميس معرقلة بذلك ساعات الدرس. ولكن في ذلك اليوم تحديداً كنتُ انا الاخرى في غاية الشوق لمعرفة الأخبار حدّ انني لم أكن اطيق الأنتظار أكثر.

  فإستجابَتْ "ساناز" لطلباتنا الملحّـة أخيراً وقالت: "لقد حدث كل شيء بسرعة خاطفة!"

  علمنا بأن الحبيب قد إتصل بها فجأة ودون سابق إنذار وطلب منها الزواج ملمّـحاً عن شيء يتعلّق بضيق الوقت. وقال بأنه قد أخبر والديه أصلاً وهما بدورهما أخبرا والديها (دون ان يأخذ رأيها أحد كما فهمتُ من بين السطور). وقد إبتهج الأهل, وطالما إنه لن يستطيع المجيء الى إيران بسبب التجنيد فربما سيكون بإمكانها هي وعائلتها الذهاب الى تركيا. وإذ لم يكن الإيرانيون بحاجة الى تأشيرة دخول الى تركيا فقد كان بإمكان "ساناز" وعائلتها ترتيب موضوع السفر بسرعة.

  كان الخبر قد صعقها فقد كان أمراً لطالما إنتظرَتْ حدوثه بيد أنها بطريقة او باخرى لم تكن لتصدق بأنه قد يحدث فعلاً. وهنا قاطعَتْ "ساناز" نفسها لتقول: "تكاد ناركم ان تخمد انا شاطرة في هذا الأمر دعيني أوقدها ثانية." أضافتْ بعض الأخشاب الى النار الخامدة وراحت تحرّكها بهمّة فتراقص في الموقد لهب جامح دام بعض الوقت, ليختفي ويهدأ بالسرعة التي ظهر بها.

  في بداية القرن العشرين إرتفع سن الزواج في إيران وهو تسعة وفقاً للشريعة الإسلامية الى ثلاثة عشر عاماً ثم الى ثمانية عشر عاماً. كانت امي قد إختارتْ شريك حياتها بنفسها وكانت واحدة من بين إول ستّ نساء إنتُـخبن للبرلمان عام 1963. وحين كنتُ في مقتبل العمر في الستينات لم يكن ثمة فرق كبير بين حقوقي وحقوق النساء في دول الغرب الديمقراطية. ولم يكن وارداً بأن نعتقد أن ثقافتنا لا يمكن مقارنتها مع الديمقراطيات الحديثة, او بأنه ثمة نسخة غربية واخرى إسلامية للديمقراطية او لحقوق الانسان. لقد كنا جميعاً نطالب بفرص وحريات جديدة. ولذلك فقد أيّـدنا التغييرات الثورية لأننا كنا نطمح الى المزيد من الحقوق, لا الى تقليصها.

  وكنتُ قد تزوجتُ عشية إندلاع الثورة من الرجل الذي أحببت. في ذلك الوقت كانت "مهشيد" و"نسرين" و"مانا" و"آذين" في سنوات المراهقة, وكانت "ساناز" و"ميترا" أصغر ببضع سنوات, بينما لم تكن "ياسي" قد تجاوزَتْ سنتها الثانية. وعندما ولدت إبنتي بعد ذلك بخمس سنوات كانت القوانين قد إرتَدّتْ بنا الى ما كانت عليه قبل عهد جدتي. وقبل بضعة أشهر من إقرار الدستور, كان أول قانون يتمّ إلغاؤه هو قانون حماية الاُسرة الذي كان يضمن حقوق المرأة في البيت والعمل. ومن جديد خفّضوا سن الزواج الى تسع سنوات وقد قيل بأن ذلك يعادل ثماني سنوات قمرية ونصفاً. وأصبحَتْ عقوبة الزنا والبغاء رجماً بالحجارة حتى الموت. وتم إعتبار حق المرأة نصف حق الرجل (أي: حق الذكر مثل حق الانثيين). وتم إحلال أحكام الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية التي كانت متبعة لتصبح الشريعة هي المرجع الأساس في الحكم.

  كنتُ في شبابي قد شهدتُ وصول إمرأتين الى منصب وزير. وقد حوكمَتْ هاتان المرأتان بالإعدام بعد الثورة بتهم إرتكاب المعاصي ونشر البغاء. كانت إحداهما خارج إيران عند إندلاع الثورة وهي وزيرة شؤون المرأة فمكثَتْ في المنفى وأصبحتْ بعد ذلك من القيادييات البارزات في مجال حقوق المرأة وحقوق الانسان. اما الثانية وقد كانت وزيرة التربية ومديرتي في المدرسة الثانوية قبل ذلك, فقد تمّ وضعها في كيس ورجمها او رميها بالرصاص حتى الموت.

  وبمرور الوقت سوف ترنو البنات بناتي الى هاتين المرأتين بكثير من التقدير والإحترام ولسوف تبعثا فيهما الأمل: فطالما كان لنا في الماضي نساء مثلهنّ فلماذا لا يكون لنا كذلك في المستقبل أيضاً؟

  كان مجتمعنا أكثر تقدماً بكثير من حكامه الجدد, وكانت النساء, بغض النظر عن معتقداتهن الدينية والإيديولوجية قد خرجنَ الى الشوارع إحتجاجاً على القوانين الجديدة. كنّ قد خبرْنَ طعم القوة ولم يكنّ مستعدات للتخلي عنها بسهولة. كانت هذه هي البداية التي جعلتْ إسطورة الحركة النسوية الإسلامية تضرب جذورها في الأرض. وهي فكرة تناقضُ نفسها وتحاول التوفيق بين مفهوم حقوق المرأة والعقيدة الإسلامية. لقد أتاحَتْ هذه الفكرة للحكام الحصول على الكعكة وأكلها في آن واحد. فقد ذهبوا الى الإدعاء بأنهم تقدميون وإسلاميون في الوقت نفسه بينما إتُـهِمَتْ النساء المتحضرات بشتى أنواع التهم: مثل الغربنة والإنحلال وعدم الولاء للثورة. كانوا بحاجة الى وجودنا معهم بصفتنا نساء ورجال متحضرين فنرشدهم وندلهم على الطريق ومع ذلك كانوا يحرصون على إبقائنا ضمن حيز ضيّـق لانحيد عنه.

  كان أهم ما ميّـز هذه الثورة عن سواها من الثورات الشمولية في القرن العشرين انها إنبثـقَتْ بإسم الماضي: وكان هذا هو سر قوتها وضعفها على حدٍ سواء. حتى صرنا نعيش في الحاضر وفي الماضي معاً صرنا نحن الأجيال الأربعة: جدتي وامي وأنا وابنتي نحسّ اننا نواجه تجربة الحياة في عصرين مختلفين في آن واحد. وكان من المثير حقاً ان ندرك كيف ان الحرب والثورة جعلتنا أكثر وعياً حتى إزاء مشكلاتنا الشخصية (خصوصاً الزواج الذي يضمرُ في جوهره قضية الحرية الشخصية, وهو ما إكتشفـَتْهُ "جين أوستن" قبل قرنين من الآن). كنت أقول في نفسي: لقد اكتشفتْ "جين أوستن" ذلك فعلاً, ولكن ماذا بوسعنا نحن الآن أن نفعل اذ نحن قابعات في هذه الغرفة, في بلد آخر وفي نهاية قرن آخر؟

  أيقظتْـني ضحكة "ساناز" المتوترة من إستغراقي. قالتْ وهي تزيح بيدها اليمنى خصلة شعر مفترضة عن جبينها: "أنا خائفة جداً فقد كنت حتى هذه اللحظة أنظر الى ذلك الزواج على انه حلم جميل, على أنه محض فكرة تنتابني كلما تشاجرتُ مع أخي. ولم أكن لاُدرك يوماً كيف يمكن لهذا الحلم أن يتحول الى واقع ملموس بل مازلت لا استطيع أن أستوعب حدوثه."

  كانت "ساناز" متوجّسة بشأن رحلتها الى تركيا وكيف سيكون لقاؤهما معاً بعد كل تلك السنوات. قالت بقلق: "ماذا لو انني لم أرقْ له؟" (ولكنها لم تقل: "ماذا لو انه لم يرقني؟".. أو.. "ماذا لو اننا لم ننسجم معاً؟") قالت: "ماذا لو انني لم أرقْ له مما يترتب عليه الاّ يتم الزواج؟" هل سيصبح أخوها أكثر شراسةً وتصبح والدتها أكثر كآبة؟ وهل ستحمّلها والدتها ذنباً فتنظر اليها بتلك النظرات الإستشهادية وكأنها تعمّدت إفشال الزواج؟ كانت تلك أسئلة في غاية الإرباك بالنسبة لـ"ساناز". وكان من الصعب التكهّن بما تنوي عمله؛ فهل كانت ستذهب الى تركيا من أجل إسعاد الآخرين؟ أم لأنها تحب ذلك الرجل فعلاً؟ وكانت هذه هي جلّ مشكلتي مع "ساناز" فلم يكن بوسع أحد أن يعرف ما الذي تريده فعلاً.

  قالت "نسرين" وهي تنقل كوب قهوتها من يد الى اخرى بعفوية: "لقد مرّتْ ست سنوات, وحده الله يعلم ما الذي يمكن أن يكونه ذلك الرجل!" نظرتُ اليها بإهتمام, مثلما أفعل دائماً حينما نتطرّق الى موضوع الزواج والرجال. فلم أكن أملك أن اُغالبَ تساؤلاتي: كيف كان لها ان تتعامل مع المغمور من الذكريات؟ هل تضعُ نفسها في مقارنة مع صديقاتها اللواتي لايحملْنَ تجارب كالتي مرّتْ بها؟ وهل انهنّ فعلاً لا يحملنَ تجارب مماثلة؟                           

  نظرَتْ "ساناز" الى "نسرين" نظرة تأنيب. فلم تكن تريد سماع ذلك الآن. على أية حال سيكون سفرها الى تركيا في صالحها حتى لو أن الأمور لم تجرِ على مايرام. فهي على الأقل ستحسم وجوده في حياتها.

  سألتُها وأنا احاول تجاهل إبتسامات البنات الساخرة: "هل تحبينه؟ فطالما نحن بصدد إتخاذ قرار بالزواج فنحن إزاء مخاطرة دائماً ولكن السؤال هنا: هل تحبينه الآن؟"

  أجابت "ساناز" ببطء, وقد منعها إنفعالها الشديد من الدخول في لعبة المزاح مع البنات: "أحببته حينما كنت صغيرة جداً, ولا أعرف أكثر من ذلك. ولكنه ظل بعيداً عني زمناً طويلاً ولابد أن تكون قد اُتيحَتْ له فرصٌ كثيرة للقاء نساءٍ غيري اما أنا فلم يكن أمامي سوى التفكير به هو وهو هناك. تقول عمتي بأنه ليس مطلوباً مني الآن أن أقول نعم او لا وتقول بأننا اذا أردنا إختبار مشاعرنا الحقيقية, فسيكون علينا أن نلتقي في تركيا انا وهو فقط, وأن نقضي بعض الوقت معاً بعيداً عن تدخلات الأهل."

    لم أتمالك نفسي من مقاطعتها والتدخّـل مثل حَكَم كرة القدم فقلتُ: "يالها من عمة حكيمة بشكل إستثنائي! إنها على صواب فعلاً."   

  رنَتْ إليّ "مهشيد" هنيهةً خاطفة لتخفض نظرتها من جديد فلمحَتْ "آذين" ذلك وقالت بخبث: "أنا اتفق مع الدكتورة "نفيسي" سيكون من الحكمة لو انكما عشتما معاً بعض الوقت قبل أن تصلا الى قرار نهائي."

  قرّرتْْ "مهشيد" الاّ تسقط في الفخ, فإحتفظَتْ بهدوئها ورزانتها. ولا أدري هل تخيّـلتُ بأنها رمقتني بنظرة معاتبة, أم أنها كانت قد فعلتْ ذلك حقاً قبل ان تُخفض نظرتها من جديد وتركزها على بقعة ما من السجادة؟

  قالت "نسرين": "إن أول ما سيكون عليك عمله لإختبار مدى التوافق بينكما هو أن ترقصي معه!"

  أربَكَنا ذلك التصريح الصارخ أول الأمر وقد بدا غريباً جداً حتى على "نسرين". وقد إستغرقتُ لحظة صمتٍ لأستوعب القصد من وراء جملتها. ولكن.. ياإلهي!.. لقد فهمتها دون شك! فقد كانت تلمّح الى "جمعية العزيزة جين" تلك التي إبتدعناها في السنة الأخيرة لعملي في جامعة العلاّمة. وكانت فكرة الجمعية التي وئدَتْ في مهدها قد إبتدأت برقصة لا تنسى.

عن موقع كيكا

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced