وهج الزبرجد
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 27-11-2009
 
   
سلام عبود
قصة قصيرة
هدوء قصير عمّ في الخارج وتسلّل الى الغرفة الصامتة، فزاد من وحشتها. صمت قصير، كثيف، أعقبه انطلاق مباغت لصوت المغنـّي وصل الى مسامع أميرة، الجالسة بقلق وخوف أمام عريسها:
لا خبر... لا خبر... لا كفيّة... لا حامض حلو، لا شربت...
... والتمت الحلوات من كل بيت حلوة التمت،
أترف أصابع ليلة الحنّة اتحنت... لا خبر...
صوت المغنـّي، والحركة اللحنيّة الراقصة، والكلمات العاطفيّة الواعدة هبّت مثل نسمة هواء عليل وحرّكت المشاعر، فازداد الصياح وتعالت الأصوات المرافقة للمغني، ودبّت حياة جديدة في أحاسيس المشاركين في العرس، الذين جلسوا يستمعون ويشاركون في الغناء طوال الساعات الثلاث الماضية، منذ أن دخل العريسان غرفتهما.
من حين الى آخر كانت الأغاني تخبو وتوشك أن تغفو، لكنّها تعود، كما لو أنّ شيطانا خفيّاً ينبهها، فتفيق من سباتها وخمولها وتشرع بتغيير الأمزجة والأحاسيس، مشعلة الحماسة في الجميع، فتنطلق المشاعر والحناجر في باحة الدار، حيث يجلس الأهل والضيوف والأصدقاء بانتظار البشارة، بانتظار اللحظة التي يخرج فيها العريس حاملا الدليل الأبيض المبقـّع بدم العروس.
المناديل البيض وحلوى الحامض حلو الملونة وزّعت على المدعووين. أكواب الشراب تدور على الجميع، فتُرتشف بتلذذ، تُستطعم فيها نكهة الزواج، وحرقة دماء العفـّة وحلاوة ليلة العرس. والفتيات التممن. سميرة جالسة قرب ابنة عمها فاطمة توشوش في أذنها في انتظار أن تفعل الزمردة الخضراء فعلها السحريّ. والحاضرون يترقبون العريس، ينتظرون أن يخرج اليهم في أيّة لحظة حاملا اللباس الداخلي للعروس، ملطّخا بدم البكارة. بينما يجلس هو متوتـّرا، حزيناً، مضطربا، خجلا في ركن السرير، يحاول أن يستجمع شجاعته لمواجهة الحشد الجالس في الخارج، الذي ملّ الانتظار. مدّت أميرة أصابعها المحنـّاة ولمست الزمردة الخضراء فأحست بنعومتها ودفئها وبسريان وهجها السحريّ في روحها.
على غير توقع نهض العريس. انتصب واقفا، كما لو أنّ حركة اللحن أيقظته من شروده. جمد في مكانه برهة ثم سار مسرعا نحو باب الغرفة. فتح الباب وخرج، فسمعت أميرة أصوات الزغاريد تتعالي من باحة الدار. وفي اللحظة ذاتها التي جرّت الأيادي الرجاليّة العريس، وأخذته وسط موجة عالية من الزغاريد والأهازيج والصيحات والقبل كانت سميرة تعجل بالانسلال خفيّة الى غرفة أختها العروس وهي مفعمة بنشوة عارمة وفرح لا يُحد. ألقت سميرة نفسها على أختها معانقة وراحت تقبّلها وهي تبكي من شدة الانفعال وتقول:
- قلت لكِ ولم تصدقيني... فعلتها الزمردة! ألم أقل لك ثقي بي وبها.
أجابتها أميرة:
- لا تتعجلي... لا بدّ أن ننتظر ونرى.
- ننتظر ماذا؟ انتهى كلّ شيء. رفعه أمام الناس، ملطّخاً بالدم.
- ليس دمي على أيّة حال، أنت تعرفين ذلك.
- ماذا تعنين؟
- أعني ما تعرفينه. ليس دمي. جرح نفسه بالموسى ولطّخ اللباس بدمه.
- فعل خيرا. ما الفرق؟ دمه أم دمك! النتيجة واحدة، المهمّ أنّه قبل بالأمر وأشهد الناس جميعا على ذلك.
- قلت لكِ لا تتعجلي. لم يقبل. كلّ ما في الأمر أنّه لم يحتمل الانتظار. لم يفعل شيئا. هو عاجز عن فعل شيء. لم يقترب منـّي. لذلك أصرّ على أن يجرح نفسه بالموسى ويخرج اليهم ليوهمهم أنّه فعلها. لم يقربني.
- وهل أخبرتِه؟
- لا، لم أجرؤ. غافلني وخرج مسرعا. اسمعي، أنا أعتقد أنّه سيرجع حالا بسرعة. هو لا يستطيع أن يبقى طويلا في الخارج. سيدبّر عذرا ويعود مسرعا، لأنّ الدم ما زال يسيل من الجرج، الذي أحدثه في يده. فكلّما رفع المنديل من فوق الجرح نبع الدم من جديد. لذلك سيرجع حالا بكلّ تأكيد. فاذهبي الآن قبل أن يرجع.
- ولكن...
- ماذا تريدين أن تقولي، قولي بسرعة.
- هل أفرح؟
- لا أدري. لكنـّني لم أعد خائفة. أنا لست خائفة الآن. كنت على وشك الموت من شدة الخوف والارتباك حينما أغلق باب الغرفة وجرّني الى السرير ورفع ثوبي. لكنـّني الآن لست خائفة جدّا.
- والزمردة.
- هنا.
فتحت أميرة يدها فظهرت الزمردة الخضراء بلونها الفسفوري المشّع وقطرات صغيرة من دم يابس عليها.
- هذه القطرة منه.
فركت أميرة الزمردة بأصابعها فعادت صافية:
- لست خائفة، اطمئنّي.
- هل أنت متأكدة؟
- قلت اطمئنّي. هل تعرفين، لقد اكتشفت أنـّني لست جبانة جدّا!
خرجت سميرة مسرعة، بينما ظلت أميرة تنتظر عودة عريسها، الذي لم يتأخر سوى بضع دقائق، كما توقعت.
دخل مسرعا وأغلق الباب. رفع قبضته اليسرى، التي جرحها بالموسى، والتي ربطها بمنديله الأحمر الداكن، ليمنع تدفق الدم. بسط أصابعه المرتجفة فبدا المنديل أشدّ دكنة بفعل الدم. نظرت أميرة الى عريسها، الذي تجمّد قرب الباب ينظر الى قبضته المدمّاة. تمالكت نفسها وتحركت صوبه بشجاعة لم تعهدها في نفسها. فكّت المنديل المنقوع بالدم الذي يطوّق كفـّه، أبعدته وتناولت قطعة قماش نظيفة وراحت تلفـّها حول منطقة الجرح. لبث هو واقفا، مشوّشا، لكنّه بدا أقلّ اضطرابا وتوتـّرا مما كان عليه من قبل. أحسّت بجرأة أكبر تتملكها فبادرت وأحنت رأسها وقبّلت يده الجريحة بارتباك وتعاطف وودّ، شبيه بودّ الأخوة. لمس وجهها لمسة شكر أكثر منها لمسة مداعبة، وراح ينظر اليها نظرة ممزوجة بالحنان والخجل، من دون أن يتخلى عن تعاليه المصطنع، ثم ذهب الى حافة السرير وجلس وهو يزفر، ربّما ارتياحا أو خيبة.
فيم يفكر؟ فكّرت أميرة.
هي واثقة الآن من نفسها، واثقة أكثر من أيّ وقت مضى أنّها ليست خائفة جدّا. لكنّها حائرة ومنقسمة ومشتتة المشاعر، بشكل لم يسبق له مثيل، حتـّى وهي في ذروة خوفها عندما دخل عليها للمرّة الأولى. قبل هذه اللحظة كان جلّ ما تتمناه هو أن تتمكن من فعل أيّ شيء يمكن أن يخلـّصها من هذا المصير المرعب، الذي كانوا يجرونها اليه: ليلة الدخلة. تمنـّت لو أنّها تقدر أن تقفز من سيارة الزفـّة وتموت تحت العجلات أو حتـّى دوسا بالأقدام. تمنت لو أنّها تجرؤ وتركع تحت رجليه حالما يدخلان الغرفة وتبوس رجليه، وحتـّى حذاءه، وتعترف له بكلّ شيء. لكنّها لم تجرؤ على فعل ذلك. ومن يجرؤ! وكيف سيصدقها! هل سيصدقها لو أنّها جثت أمامه باكية، مستعطفة، طالبة منه أن يصدق بأنّها فقدت عذريتها في لحظة طيش بريئة وسخيفة. ولكن هل حقا أنّها فقدت عذريتها أم أنها تتوهم ذلك، وأن خوفها وجهلها صوّر لها الأمر بهذه الصورة المخيفة؟ قطرات صغيرة جدا من الدم بقـّعت سروالها الداخلي الأبيض. أختها سميرة تعرف ذلك. كانت سميرة معها حينما حدث ذلك. كانت معها في الغرفة ذاتها. كانتا معا تنامان على سريرين متجاورين حينما شعرت بذلك، وهي متدثرة، مستغرقة في قراءة "إنّي راحلة". من يصدق ذلك؟ وهل سيقبل بشهادة أختها سميرة، التي رأت كل شيء بعينيها: رأت بقع الدم الصغيرة، ورأت ذعرها، وأحست بحماقتها وتفاهة تصرفها. خمس قطرات صغيرة، واحدة منها بحجم رأس الدبّوس، أحصتها مع سميرة قطرة قطرة. سميرة وحدها تحسّ وتدرك صدقها وعمق جراحها وشدّة ورطتها. ولكن حتـّى لو قبل بشهادة سميرة، كيف سيقبل بها زوجة وهي تعبث بنفسها هذا العبث المشين؟
هي لم توافق على الزواج من كامل الحلاق، الشاب الودود، المتسامح، ذو العلاقات الاجتماعيّة والصداقات الواسعة. لم يرغمها أحد من أخوانها أو أهلها على ذلك. لكنّها كانت مرغمة من قبل قوى مجهولة تحيط بها وتطوق وجودها، من قبل عيون وأفواه وألسنة وقلوب لا تعرف ماذا تكتم وماذا تدبّر، وماذا تخبيء لها. وحينما ألحّ كامل في طلب يدها مرارا، قرّرت أن تذهب اليه بنفسها، أن تتجرأ وتقابله شخصيّا، وجها لوجه، وتعلن له رفضها الصريح والتام. قرّرت بالاتفاق مع أختها الأصغر منها سنا، سميرة، أن تلتقيه وتخبره بالحقيقة كاملة، لكي يكفّ عن محاولة إقناع أهلها، وأخوتها خاصّة، بقبوله زوجا لها.
قال لها بصوته الودود، المعهود:
- أنت مخطئة إذا كنت تعتقدين أنّني أريد أن أرغمك على قبولي زوجا لك. حتـّى موافقة أخوانك لا تعني شيئا عندي إذا لم توافقي أنت شخصيّا.
- وأنا غير موافقة. جئت بنفسي لكي أقول لك هذا، ولكي تفهم.
- هل تعتقدين أنّني أقول لك هذا الكلام لكي أخدعك؟ أنا صادق تماما في قولي، وكلامك يزيدني تمسكا بك، أنا اشتريت...
- لن تشتريني!
- لم ولن أفكّر في هذا أبدا. لقد اشتريت قلبا يا أميرة، قلبا أنا أعرف معدنه الصافي...
- إذا كنت تقدّرني بحقّ الى هذا الحدّ فما عليك سوى أن تعرف بأنـّني لا أقدر.
- هل أنت مرتبطة بأحد؟
- لا، أنا لم أعرف أحدا، ولم أقرب رجلا غريبا من قبل سواك الآن، فلا...
- لذلك قلت لك: أنا اشتريت قلبا يا أميرة.
- وأنا لا أريد، فلا ترغمني على شيء سيجعلنا نندم طوال العمر.
- أنا أعرف أنّني لن أندم. وإذا كان الموضوع يتعلق بمواصلة الدراسة فأنا لست ضد هذا.
- ليس هذا هو....
- لا توجد مشكلة لديّ إذاً. أنت بالضبط كما تصورتك وتخيلتك. أنا اشتريت قلبا صافيا كالذهب ووجدته أصفى مما تخيلت.
لقد تركته متيبسة الشفتين. خانتها شجاعتها. لم تتمكن من قول الجملة الأخيرة التي درّبت وأعدّت نفسها لقولها. لم تتمكن من مجاراته في مهارته وبراعته الفائقة في إظهار تعابير الودّ. ربّما يكون ودّه المدهش، الشبيه بالعناد، هو الذي ألجم لسانها ومدّها بأمل كاذب، فراحت تخدع نفسها به.
حالما دخلا الغرفة، بعد الزفـّة، قررت أن توقفه فورا عند حدّه، حينما رأته يجرها من يدها ويضعها على السرير، ثم يشرع بملامسة جسدها المرتجف. وحينما نزع لباسها الداخلي، لم تعنه على ذلك، تركته يفعل ذلك باضطراب وتعثـّر. ثمّ تركته يستلقى فوقها، وهي تشعر أنّها على حافـّة الانهيار. لكنّه لم يلبث أن انسحب من فوقها، ثمّ شرع يتصنع الحديث معها. حاول مرّة ثانية، بينما كانت هي تغالب مشاعر متناقضة: خوفا ممزوجا بالأمل والخجل. حاول ولكن عبثا. وقبل أن يستلقي فوقها مجددا فكّرت، وهو يدنو منها، بأن تقول له كلّ شيء، بأن تجرؤ على البوح، وترى النهاية، التي لا بدّ أن يصل اليها سواء قالت أو سكتت. لا بدّ لها أن تجرؤ على ذلك، لا بدّ أن تقول لتريح نفسها وتواجه الأمر الذي لا بدّ لها أن تواجهه الآن أو غدا أو بعد غد! لكنّها، لسبب لا تستطيع إدراكه ظلّت مترددة، تحتشد الكلمات في فمها، لكنّها لا تخرج منه. حينما أخفق في المرّة الأولى، لم يخطر ببالها أنّه عجز عن ذلك. ظنّت ذلك نوعا من اللطف الزائد، الذي يتحلى به كامل، والذي يعرفه الجميع عنه. وحتـّى المحاولة الثانية الفاشلة لم تجعلها تشكّ في مقدرته على إتمام مواقعتها، لكنّها منحتها فرصة أطول لتمرين نفسها على تقبـّل ملامساته الخجولة، المرتبكة. نظرت اليه وهي تأمل من كلّ قلبها لو أنّه عجز حقـّا في الوصول اليها ومواقعتها. ربّما ساعدها عجزه المؤقـّت على التخلص من هول اللحظة التي سيكتشف فيها عارها. الحظة التي سيتصالب فيها جسده، ينسحب من فوقها، ثمّ يشير الى مكمن الجريمة، طالبا منها أن تواجه نفسها وتواجه الحقيقة المرّة، الحقيقة التي يريدها هو، الحقيقة التي لن يقبل أن تروى بغير ما يعتقده ويظنّه كلّ رجل عن كلّ امرأة. وحتـّى لو صدّقها، وهذا محال، أو حتـّى لو قبلها على مضض، فلن تمر هذه الذكرى الشنيعة بسلام، لن تنمحي صورتها من الذاكرة البتّة، ولن تجني منها بعد ذلك سوى الشقاء والشكّ والندم.
أفاقت من كابوس وساوسها. نظرت اليه فوجدته، كما كان قبل دقائق، يضع نصف جسده في السرير، وهو يضغط على يده الجريحة بقوّة. الأصوات الصاخبة القادمة من باحة الدار اختفت، ولم تعد تُسمع سوى أحاديث خفيفة، متقطّعة، ضجرة، ربّما صادرة من آخر الضيوف أو ممن تبقـّى من الأهل. أرادت أميرة أن تقول له شيئا يخصّ يده، لكنّها خشيت أن يجرّها الحديث الى أمور أخرى، قد تمهد السبيل الى بعث النشاط فيه مجددا وإيقاظ شهوته. هل هو عاجز حقـّا؟ ربّما يكون قد أحسّ بمعانتها، بطريقة ما، وتصنّع العجز؟ رجل طيب المعشر، رقيق الطباع، مثل كامل قد يفعل مثل هذا الموقف الشهم! لا، لا يمكن لأحد أن يفعل ذلك. هو عاجز حقـّا. نعم، لقد حاول، ثمّ كرر المحاولة، لكنّه فشل، واضطر أمام ضغط الضيوف أن يخرج اليهم بعد أن جرح يده.
همّت بأن تقول له، لتخفيف اضطرابه وشدّة خجله، إنّ ما حدث له أمر اعتيادي، يحدث لكثيرين، وهو ليس أمرا شاذا أو معيبا، مثل هذا يحصل للبعض. الحياة ما زالت أمامهم! أيّة حياة أمامهم؟ هل ستعينه على الخروج من ورطته لكي تريه ورطتها؟ لا، لن تكون غبيّة الى هذا الحدّ! لن تخرجه من عجزه لكي تفتح على نفسها أبواب الجحيم. ولكن ماذا لو أباحت له الآن وهو في ذروة ضعفه بسرّها؟ لا، هي غير واثقة من عجزه، ربّما سينهض الوحش الذي يلبس جلد الرجل، القابع في أعماقه ويتخلى بطرفة عين عن كلماته الجميلة، ويمدّ أصبعه اليها مشيرا باحتقار وإهانة قائلا: إنّها باعته، باعته رخيصا، وإنّها لم تكن صافية كما كان يظنّ، بل هي لا أكثر من كائن ملوّث، دنس. نعم، سيقول لها ذلك. ألم يقل لها إنّه اشتراها، اشترى قلبا صافيا!
- لماذا جاءت سميرة؟
باغتها صوته. ارتجفت وهي تحسّ أنّه يرى أفكارها. لكنّ شفتيه اليابستين، اللتين نطق بهما جملته المتعثرة، خفـّفت من وقع السؤال وجعلتها تفكّر في جواب ما لا يثيره. فقد جاءت سميرة لأنّها أختها، وقد سرقت لحظات صغيرة، مشروعة، لكي تبارك لها. لماذا السؤال إذاً؟
- قبـّلتني وخرجت.
- ألم تقولي لها شيئا؟
- أيّ شيء تعني؟
لم يجب. رفع يده الجريحة أمامها.
- ولماذا أقول لها ذلك؟
- لاحظتُ أنّك كنتِ قلقة وخائفة.
- نعم، ولم أزل.
- بسبب هذا؟
رفع يده مجدّدا، فهزّت رأسها بالإيجاب، لكنّه لم يكتف بإيماءتها، فتح شفتيه المتيبستين وقال:
- هل لاحظت أميرة قلقك؟
- لا.
نطقت الكلمة، ولم تجد ما تضيفه.
نعم هي خائفة وقلقة. خائفة من أن تبوح بكلّ شيء فتدمّر حياتها بيديها؛ ولكنّها قلقة، فلربّما لا تعينها شجاعتها على الإسراع بالاعتراف، فتفسد حياتها وتندم. انكمشت وهي تحاول أن تستجمع شجاعتها وأن تركز تفكيرها وتعيد حساباتها بشكل منطقيّ ومرتّب، توازن بين أن تصمت، أو أن تتحدث. فهو لن يقدر الآن وهو في حالة العجز أن يكشف سرّها، ولكن ماذا سيحدث لو أنّه استعاد نشاطه؟
هي تحسّ أنّها الآن في هدنة موقتة، لكنّها لا تعرف متى تنتهي هذه الهدنة. ربّما سيصحو فيه الرجل مجددا، ربّما سيعينه تبادل الحديث معها على استعادة قواه، فيكتشف سرّها! هل من مصلحتها أن تستمرّ في الحديث معه؟ ألا يقرّب حديثها معه مشاعره نحوها؟ ربّما شجّعه ذلك على التحرك والمحاولة من جديد!
- لماذا لا تأتين الى جواري؟
لم تجب أو تتحرك. لبثت تراقب حركته وتزن ردود أفعاله. فكّرت بخوف: ربمّا سيحاول مجددا. تصنـّعت الابتسام وجرّت نفسها على السرير، وأضحت الى جواره، وهي تراقب بحذر ردود أفعاله وتترقب الخطوة القادمة، التي سيخطوها نحوها. انتظرت بادرة منه، لكنّه لم يتحرك. لبث شاردا، مشتتا، كما كان.
لماذا طلب منها أن تأتي الى جواره؟ ربّما هو يشجّع نفسه. ولكن لماذا لا يتحرك؟
بدا ساكنا، خجلاً وتائها، أمّا هي فقد تعاظم في نفسها القلق والخوف وتشتت المشاعر، دنت أكثر واستلقت قربه تماما، لا يفصلها عنه فاصل سوى جرح يده وجرحها الداخلي، لا يفصل بينهما سوى الخوف.
لم تتحدث، ولم يتحدث. لبثت هي ساكنة، معطـّلة تماما، تنتظر فعلا ما منه، لكي تُوقظ استجاباتها الخابيّة. لكنّه ظلّ يحدّق الى الفراغ، تاركا لها حرية مراقبة الفراغ الذي كان يحدّق اليه.
السكون القادم من باحة الدار اختلط بسكون الغرفة فضاعف من حدّة الصمت. غادر الجميع ولم يبق أحد ساهرا سواهما، وهما ينصتان الى وقع السكون الثقيل، ويراقبان خيط التواصل، غير المرئي، الذي يربطهما على نحو واهن، غامض، خال من المنطق والقواعد.
- أعتقد أنّ هذا حدث لي بسبب شدّة لهفتي عليك، وحبّي لك.
همس كلمات يابسة، متقطّعة، كما لو كان يريد التأكد من أنّه لم يزل قادرا على النطق. نطق الكلمات وهو خائف من شدّة وقع الصمت المهيمن على الغرفة. لم تعقـّب هي على كلماته، اكتفت بهزّة رأس خفيفة، لم يفهم منها شيئا، ولم تكن هي تدري ماذا تعني. هي تشعر أنّها ربّما ستخطيء لو أنّها منحته الآن إشارة عاطفية مؤثـّرة، ربّما تعينه على استيقاظ شهوته وتبدد حالة التشتت والضعف التي تنتابه. ربّما سيستجمع قوّته!
- طبعا، يجب أن تعرفي، أنّ هذه حالة مؤقتة، فأنا... لم يحدث لي هذا من قبل أبدا.
استقبلت كلماته بسلبيّة مصطنعة، على الرغم من أنّها أحسّت بالإهانة في أعماقها، لأنّه يعلن لها صراحة خياناته وانعدام عفتّه، ويؤكّد ذلك بالدليل القاطع، في ليلة الدخلة، وهو على سرير الزواج.
- لم يحدث ذلك أبدا، ولا مرّة، هل ما زلت قلقة؟ لماذا لا تجيبين؟
شجّعها سؤاله المشحون بالوقاحة والضعف، بالتعالي والدونيّة، على أن تستعيد زمام المبادرة، وأن تصحو تماما، وتنظر الى المشهد بتحكّم أكبر.
- ماذا أقول! بما أنّك جرّبت هذا من قبل، فأنت تعرف نفسك أكثر منّي.
- أنا آسف! لم يكن هذا قصدي. أنا آسف لأنّني قلت كلاما سخيفا.
نطق كلماته بودّ حقيقيّ.
هكذا أحسّت: ودّ حقيقيّ. وجهه، الذي بدا مصفـرّا وناشفا من أثر الإحساس بالخيبة والعجز والخجل، جعله يبدو صادقا بشكل محسوس، ومقنعا الى حدّ لا يصدق.
هل تبوح له بسرها الآن؟ هل حانت اللحظة المناسبة؟ فلو أنّها قالت له الآن كلّ شيء، ربّما سيثق بقولها، سيقدّر شجاعتها وصراحتها وصدقها، سيثمن فيها أنّها استطاعت أن تقول له ما لا يقال في لحظة هو لا يستطيع أن يثبت فيها عكس ذلك، ولن يستطيع. لا يستطيع في سرّه أو في علنه. ألم يبادر هو بنفسه ويعلن للجميع عذريتها، ألم يشهر عذريتها أمامهم؟ ألم يُرهم دمها؟ من سيصدقه لو قال عكس ذلك؟ إذاً لا توجد لحظة أفضل من هذه لأن تقول له فيها كلّ شيء، فتريح نفسها من عذاب يتحتم عليها أن تواجه نتائجه عاجلا أم آجلا، إذا أرادت أن تعيش معه بوئام وانسجام، من غير تأنيب ضمير.
نظرت اليه خلسة، كما لو أنّها تريد أن ترى مقدار استجابته لما تفكر فيه. لكنّها وجدته يغمض عينيه. جلست في منتصف السرير، وهمّت بأن تمدّ يدها نحوه مواسية، لكنّها عدلت عن ذلك، ومدّت يدها تحت الوسادة، وأخذت زمردة سميرة، وهي تتلقى دفقة من أمل أخضر ينبعث سطح الخرزة الأملس المدوّر. هي لا تعرف هل إغماضة عينيه ووهنه، أم سحر الخرزة هو الذي بعث القوةّ في روحها، فجعلها تزحف نحوه، تدنو منه، وهي مصممة على أن تريه جرحها. مدّت يدها نحوه، وهي تقبض بالكف الأخرى على الزمرّدة، تودّ أن تريها له، متمنّية أن يراها فتسحره بصفائها ونعومتها، التي تجد فيها أملا غامضا، ربّما كاذبا وموهوما، لكنّه أمل يرتبط بحقيقتها، بصدقها، بنقاء سريرتها، وبطهرها أيضا. ضغطت على الخرزة في اللحظة ذاتها التي مدت يدها نحوه وهي واثقة الآن أنّها تجد في سحر الزمرّدة قوّة حقيقيّة تعبّر عن حقيقة ذاتها، توثـّق بعض أسرار جسدها وروحا، براءتها وعبثها وعفـّتها. الزمرّدة هي هدية أختها سميرة، التي ورثتها من عمتها فخرية، والتي شاركتها سرّها، وتشاركها الآن لحظة انكشاف عريها، لحظة نطقها بالحقيقة، التي لا يستطيع عريسها أن يثبت عكسها للآخرين.
انتبه اليها. أحسّ بدنو يدها منه. فتح عينيه، فبادرت هي في ملامسة جسده عند الكتف، من دون أن تبدو أنّها تتعمد ذلك. سرور مفاجئ حلّ على وجهه وهو يتقبل لمستها الخاطفة، فأضعف مقدرتها على التزام الحذر. التصقت به أكثر وأخذت يده السليمة اليها، وهي تفكّر في طريقة ما توصلها الى زمرّدة سميرة، الى إشراكه معها في تحسس وهجها وسطحها الأملس السحريّ، الذي سيعينها على التسلل بأمان الى جراحها الخفيّة، لو خانتها شجاعتها.
- أنا أعتقد مثلك. هذه لحظات يمرّ بها بعض الناس بسبب التوتر والانفعال وربّما بسبب التعب والتفكير. قرأت هذا في كتاب...
- وهل تقرئين مثل هذه الكتب؟
باغتها سؤاله. أحسّت كما لو أنـّه ينظر اليها وهي تمدّ يدها بين فخذيها، وهي مستغرقة في القراءة. أحسّت كما لو أنّه يرى حمقها وعبثها. ارتجفت، ولم تعرف ماذا تجيب.
- سأستعيره منك، ربما يفيدني وأنا في حالتي هذه.
نطق كلماته وهو يبتسم بخجل، فأحسّت أنّ ابتسامته الخجول تستر عريها.
- استعارته أختي سميرة من صديقة لها وأعدناه اليها. هو كتاب عادي، لا يتحدث عن هذه الأشياء، لكنّه...
- ماذا يقول الكتاب أيضا؟
- يقول ما ذكرته لك.
- وماذا يقول عن هذا؟
رفع كفه الجريحة وهو ينطق الكلمات فأحسّت أنّه يرفعها بتثاقل وإعياء. ومن تحت الساعد رأت خطا ثخينا من الدم يسيل الى الرسغ ويصبغ أطراف ثوبه الأبيض بلون غامق الحمرة. انتابتها هزّة عنيفة، فقامت مسرعة، أمسكت يده المصبوغة بالدم وعبرت الى الجهة الثانية من السرير، فراعها ما رأت: بقعة كبيرة من الدم تلطّخ أرض الغرفة. صدمة عنيفة، مثل شرارة حارقة، أصابتها. ارتجفت من أعماقها. صرخت صرخة مكتومة وهي تراه عن قرب يرتجف، وتحسّ برودة يده وضعفها. سحبت جسده الى منتصف السرير، ووضعت يده الجريحه الى جواره، ونزلت من السرير مسرعة. أحضرت لفافة جديدة وراحت تربط يده. هاجمها شعور غريب بأنّه ربّما يشارف على الإغماء، أو هو في سبيله الموت. نزلت من السرير وهي مصممة على أن تفعل شيئا.
- سأذهب لأخبر أباك.
- لا، لا تفعلي، لا أريد أن يعرف أحد.
- لكنّ الدم لم ينقطع، ربّما يصبح نزيفا، ربّما تسممت يدك!
- لا.
نطق بضعف، ولكن بحزم.
- ولكنني لن أسمح لكَ أن تقتل نفسك. ماذا سيقول الناس عنّي لو أنّني تركتك هكذا تنزف؟
- لن يقولوا شيئا.
- ماذا سأقول للناس لو... لو مت؟
- أنتِ تفكرين في الناس، وفي ما سيقوله الناس عنك! وهل نسيت ماذا سيقوله الناس عنّي، لو عرفوا؟
- فليقولوا ما يقولون.
- بهذه البساطة؟
- نعم، بهذه البساطة. حياتك أهم من أقوال الناس، فليقولوا ما يحلو لهم.
- هل أنت مجنونة! أتعرفين ماذا يحدث لو أنّهم عرفوا؟ ربّما لن أخرج الى الشارع بعد ذلك إلا وأنا أجرجر عاري خلفي. ستكون نهايتي يا أميرة. تخيّلي، كلّ الذين كانوا هنا سيتذكرون كذبتي، كلّ الذين يأتون الى محلي للحلاقة ويثرثرون من الصباح حتـّى المساء سيقهقهون في داخلهم كلّما نظروا في وجهي. كيف سأرى نفسي في المرآة؟ ستكون نهايتي. أيّ عار سيلحق بي!
اختفت الكلمات القاسية، التي نطقها، وظلّت كلمة عار وحدها تدور أمامها مثل نحلة مستفزّة، وتبدد لحظة القوّة التي أحسّت بها وهي ترى عريسها متهالكا يوشك على الانهيار.
هل تتركه يموت؟ ماذا سيقولون عنها لو أنّه مات؟ هل يمكن لها أن تغتفر لنفسها لو أنّ ذلك حصل فعلاً؟ من غير المعقول أن يحدث هذا، فالناس لا يموتون من جرح في باطن الكف. ولكن ماذا سيقول هو بعد أن يشفى؟ ربّما سيظنّ أنّها كانت تسعى الى موته، أو في الأقل كانت ترغب في ذلك، ولم تحاول انقاذه.
ولكن، ماذا لو أنّها كانت واهمة؟ ماذا لو أنّ تلك القطرات الصغيرات الخمس لم تكن سوى فائض طبيعي، أو جرح سطحيّ، كما قالت لها إحدى النساء. هل تقدّم نفسها شهيدة من أجل لا شيء؟ فكّرت وهي تزداد قوة وتصميما، وقالت:
- لا بدّ أن أذهب وأخبرهم.
- لا، لا تفعلي هذا.
- أنا لا أستطيع أن أراك على هذه الحال وأسكت.
- تستطيعين.
نطق الكلمة بإعياء واضح، ونفاد صبر.
- سأفعل.
- أنت طالق لو فعلت.
- سأفعل.
- سأطلق بالثلاث.
نطق تهديده وهو عاجز عن تحريك نفسه، أمّا وجهه فقد بدأ يزداد شحوبا وجمودا. عادت اليه مجددا، اقتربت منه، أخذت يده الجريحة اليها وأزاحت الرباط وقالت بذعر:
- الدم ما زال يسيل.
- لا تحاولي إخافتي.
- أنت تنتحر.
- مع هذا لا تفعلي.
- اللفافة الجديدة منقوعة بالدم.
فكّت الرباط، الذي وضعته توا على الجرح، فظهر الجرح الصغير محفورا في أعلى الكفّ، مغطى بالدم. قطرات جديدة، صافية، مرتعشة، تجمعت في أعلى الجرح، ثمّ تكوّرت وخرّت ساقطة على الفراش.
أعادت وضع الرباط على يده، لفتـّه بقوّة، وضغطت على يده.
- إذا لم يتوقف الدم هذه المرّة سأخبر عمّي، مهما كان الثمن.
- الله كريم.
نطق العبارة وسكت، وهو يسحب يده السليمة بصعوبة ويضعها على وجهه، فأحسّت أنّه ينسحب من حياتها ويتركها وحيدة، عارية، جريحة، على سرير ملطخ بالدم، وسط صمت كثيف، أعقب تلك الضجّة الصاخبة، التي ملأت المكان.
الآن لا شيء يُسمع سوى وشوشات الصمت المملوء بالخوف والقلق والعار.
نظرت اليه وهو يحجب وجهه تحت ساعده، فدوّت في أذنها كلماته المتوعدة: طالق بالثلاث.
اختلطت أحاسيسها واضطربت وهي ترى نصف وجهه الظاهر يزداد شحوبا واصفرارا؛ لكنّها لبثت جامدة، تائهة، لا تعرف ما عساها أن تفعل.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced