«المثل الأعلى والأدب الروسي» لكروبتكين: الإرهابي يرسم صورة منظّمة لتاريخ الإبداع
نشر بواسطة: mod1
الأحد 21-09-2014
 
   
ابراهيم العريس

ارتبط اســـم الأمير الروسي كروبتكين بولادة النزعة الفوضوية وانتشارها فـــي الحياة السياسية الروسية وأحياناً في الحياة السياسيـــة فــي العــالـــم. ومن هنا ما إن يذكر ذلك الأمير حتى تقفز الى الأذهــان على الفور صــورة رجل سياسة عنيف غاضب دائم الحركة، لا يخفــي هو نفسه من خلال كتاباته ونضالاته العملية أنه إنما يريد أن يصل الى السلطة في بلاده وربما في العالم كله أيضاً، من طريق الإرهاب وتدمير حياة الأبرياء، ومن هنا قد يستغرب البعض ان يعرف ان كروبتكين جعل من نفسه ذات حقبة من حياته، مؤرخاً للأدب الروسي، ووضع في هذا المجال نصاً تاريخياً مفصلاً، اعتُمد كثيراً لدى دارسي لحظات الازدهار الكبرى لذلك الأدب، الذي نعرف ويعرف الجميع انه وصل الى ذروة ذلك الازدهار خلال القرن التاسع عشر، وهو على أي حال العصر الذي اجتهد كروبتكين في دراسته. ولعل في وسعنا هنا أن نفتح هلالين لنشير الى «حالة» من عندنا تكاد تشبه حالة الإرهابي الروسي: حالة سيّد قطب الذي عُرف قبل معانقته عنف الإسلام السياسي وتأسيسه لما سيكون لاحقاً نواة الإرهاب المستشري باسمه، كناقد أديب مبدع يكاد يدين له نجيب محفوظ ببعض أجمل النظرات النقدية ألقاها على أعماله الأولى!

> أما بالنســـبة الى الأمير كروبتكين، فإن الكـــتاب الأساسي الذي وضـــعه في هذا السياق التأريخي - النـــقدي للأدب في بلاده، عنـــواناً يعبـّر عن دلالته الأساسيــة منذ الغلاف وهو «المثل الأعلى والواقع في الأدب الروسي». والحقيـــقة أن ما يمكن قوله هنا، وكما يمـــكن القارئ أن يلاحظ، هو ان ما سيقفز على الفور أمام عيون قـــراء الكتاب إنما هو غايات الأمير من وضع الكتاب التي لا شك فـــي انها كانت تتمثّل فـــي استنهاض همة قرائه لدوافع سياسية، من خلال سرد ما عبّر عـــنه الأدب الروسي في هذا المجال، حيث نعرف بالطبع ان كلمة «الــمـثــل الأعلى» تكاد تكون كلمة - مفتاحاً، للنظريات والممــارسات السياسية المرتبطة بالنزعة الفوضوية. ومن هنا نفهم لماذا اهـــتم كروبتكين كل ذلك الاهتمام بوضع ذلك التاريخ المفاجئ من جـــانــبه لأدب بلاده. والحقيقة ان فصول الكتاب ستؤكد لنا هذه الفكرة، حـــتى وإن كان من الظلم لمؤلفه أن نقول ان كل ما كتبه إنما يندرج في غائيـــة سياسية. من العدل، إذاً، أن نرى في هذا الكتاب تبحراً في الموضوع، يخدم الأدب بمقدار ما يخدم فكر مؤلفه.

> قبل أن نطل على مضمون هذا الكتاب، لا بد من الإشارة الى انه بني في الأصل، انطلاقاً من سلسلة من ثماني محاضرات ألقاها كروبتكين في معهد لويل في مدينة بوسطن الأميركية في العام الأول من القرن العشرين. وكان المطلوب من تلك المحاضرات ان تستعرض، خصوصاً، مسار الأدب الروسي خلال القرن التاسع عشر. وجُمعت لاحقاً في كتاب صدر العام 1905، ثم تُرجم الى الألمانية في العام التالي. ولقد استقبل الكتاب، والمحاضرات من قبله، بترحاب شديد في زمن كان فيه الغرب قد بدأ يهتم اهتماماً جدياً بكل ما يمتّ الى روسيا بصلة. ولعل من أهم السمات التي سهّلت ذلك الاستقبال، أن المؤلف ربط كل الأدب الروسي الذي تحدث عنه بالسمات الاجتماعية التي كانت - في رأيه - هي التي أوحت أصلاً بكل هذا الأدب. من البداية إذاً، يقول لنا الأمير كروبتكين إن الأدب الروسي كان، ومهما عظُم شأنه وشأن الإبداع الفردي الكامن وراءه، عادياً مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالمجتمع الروسي. لم يكن مثل هذا الكلام جديداً في ذلك الحين، طبعاً، ولكن كان من الجديد أن يطبق على مؤلفين كان الرأي العام الغربي القارئ قد اعتاد تصنيفهم ضمن نزعات فردية وروحية تكاد تبعدهم كلياً من السياق الاجتماعي الذي يأتي كروبتكين الآن ليفيدهم بأنه وراء هذا الأدب ومن دونه ما كان له - للأدب - أن يقوم، حتى وإن كان «مغرقاً» في فرديته مثل أدب دوستويفسكي!

> كما أشرنا، يبدأ الكتاب من عنوانه، ذلك أن الأمير كروبتكين أراد فيه أن يبرهن على «الدور الأساسي الذي يلعبه الأدب في حياة مجتمع مثل المجتمع الروسي، ومن ثم على الدور الذي يلعبه هذا المجتمع نفسه في حياة الأدب» كما يكتب المؤلف في التقديم. ولتأكيد هذا، يتحدث المؤلف باستفاضة عن الصراعات التي طالما تجابه فيها الفكر الثقافي في روسيا مع النظام المستبد العنيف هناك، قائلاً ان تلك الصراعات ما كان يمكنها ان توجد لولا العلاقة الحاسمة والعضوية التي قامت دائماً بين الأدب الروسي والمجتمع في هذا البلد. وللبرهان على هذه التأكيدات كلها ينتقل المؤلف الى استعراض تاريخي لدور الأدب - بل الفن أيضاً - في حياة الروس ليس في القرن الذي كان يعنيه فقط (القرن التاسع عشر)، بل في القرون السابقة، إذ ها هو في الفصل الأول يرسم صورة تاريخية، قد تكون سريعة بعض الشيء لكنها أتت وافية، للمكتسبات الفنية والأدبية التي تحققت للروس منذ أولى اطلالتهم على العالم الخارجي. وهو بعد ذلك يصل الى مبتغاه، حيث في الصفحات المكرسة لبوشكين ولـ «الديسمبريين»، يتحدث بتركيز عن النضالات التي خاضها هؤلاء، ليس من أجل فرض أساليبهم الأدبية الجديدة والمؤسسة، فقط، بل من أجل جعل هذه الآداب تساهم في إيصال الشعب الروسي الى سعادته. وهنا، بعد هذا التصوير الافتتاحي لغائية الأدب من خلال بوشكين وصحبه، يبدأ كروبتكين باستعراض كبار الأدباء الروس واحداً بعد الآخر مركزاً بصورة خاصة على مساهمة كل واحد منهم في عرض قضية الشعب والمجتمع والدفاع عنها، بادئاً بالمؤلفين الكبار من خلفاء بوشكين، واصلاً الى الكاتب المسرحي والروائي انطون تشيكوف، معاصره. وكروبتكين في تحليله لكل كاتب من هؤلاء الكتّاب، لا يهمل طبعاً الجانب الإبداعي، بل حتى الفردي، لديه... لكنه سرعان ما ينتقل، بعد عرض ذلك الجانب، الى الناحية التي كانت تهمه أكثر: تأثّر كتابات المبدع بمجتمعه، ومن ثم رغبته وقدرته على التأثير في ذلك المجتمع. وهنا في مثل هذا السياق يصبح غوغول ودوستويفسكي وتولستوي وتورغنيف على قدم المساواة: كتّاباً خدمت مؤلفاتهم الشعب، إذ عبّرت عنه، بعدما كانت أول الأمر قد تأثرت به.

> من الواضح ان تلك النظرة، الجديدة الى حد ما، في ذلك الحين، كانت هي ما أعطى ذلك الكتاب مكانته الكبرى. فالقراء النخبويون، بل أيضاً عامة القراء، أطربهم ذلك الحسّ الاجتماعي والمدني الذي هـــيمن على نص الكتاب واستنتاجاته، حيث نجد المؤلف، حتى حين يتحدث عن القصائد الشعرية الأكثر وجدانية، يعزوها جميعاً الى روح الشعب التي استلهمته في نظره. حيث ان كروبتكين كان يرى في كل سطر نثري أو في كل بيت من الشعر تحدّث عنه، نوعاً من البحث عن مثل أعلى يتطلع اليه الشعب، من خلال كتابه.

> كان من الواضح في هذا كله، وعلى رغم النجاح الكبير الذي حققه الكتاب، لا سيما في روسيا منذ عام 1916، حيث أشرف الأمير بيوتر كروبتكين (1842 - 1921) على إصدار طبعة جديدة ونهائية منه، كان من الواضح ان الكتاب، إنما يعبّر عن المؤلف وتطلعاته أكثر مما يعبّر عن الكتّاب أنفسهم. وكان من الواضح أن الأمير ذا النزعة الساعية الى تسييس كل شيء، إذا كان نجح في شيء - في هذا الكتاب - فإنه إنما نجح في جعل الكتاب يعبّر عن أفكاره السياسية وتطلعاته الايديولوجية أكثر مما يعبر عن أي شيء آخر. في معنى ان كروبتكين، إنما وضع كبار الأسلاف من المؤلفين الروس، في خدمة أفكاره. لكن هذا لم يزعج أحداً، إذ نعرف، على أي حال، أن ما من أحد، سوى نخبة ضئيلة من الناس، قرأ كتاب كروبتكين بصفته تاريخاً حقيقياً للأدب الروسي، بل قُرئ الكتاب دائماً على أنه جزء من التاريخ الفكري لمؤلفه.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced