ملحمة الكرامة الإنسانية «الجـوع»
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 30-09-2014
 
   
كريم السماوي

كان الروائي النرويجي كنوت هامسون (1859 ـ 1952) أكثر كتاب القرن العشرين جدلاً، بعد أن أثار حوله زوبعة لا تزال آثارها لم تهدأ حتى اليوم، فهو بعد أن أصدر روايته «الجوع» سنة 1889 حقق بعدها نجاحات ملموسة توجت بنيله جائزة نوبل في الأدب سنة 1920، إذا عدها النقاد ملحمة الكرامة الإنسانية، غير أن تأييده للنازية وتبجيله لهتلر..

لدرجة أنه اعتبر موته موت آخر العمالقة، جلب عليه الويلات وقـُـدم للمحاكمة التي حكمت عليه بالإعدام سنة 1947 وعمره آنذاك 88 سنة. ونظراً لحملة مضادة للحكم تبناها روائيون ومشاهير أمثال هيمنغواي وفوكنر وسارتر وجويس وميلر وغيرهم استبدل الحكم بإخضاعه للعلاج النفسي بعد مصادرة أملاكه.

معاناة وشجن

ورواية «الجوع» كتبها هامسون بعد أن امتهن مهناً بسيطة وبعد أن عاش طفولة قاسية مكررة بأيام الجوع حتى بعد أن هاجر إلى العاصمة أوسلو فأعطى الرواية من تجربته الذاتية لمرحلة من حياته مليئة بالمعاناة وقسوة الحياة والشجن، وكل ذلك يتلمسه القارئ من الرواية نفسها والتي نظر لها النقـّـاد على أنها من أهم ما كُـتب من روايات، خاصة وأنها أثـّرت في قلب الموازين الإنسانية، وساهمت في تطوير الخدمات الاجتماعية في أوروبا لاحقاً.

شح موارد

والدول الاسكندنافية بما فيها السويد والنرويج عانت من شح الموارد حتى النصف الأول من القرن العشرين، وهو ما ساهم في هجرة الكثير من مواطنيها خاصة إلى أميركا. وكانت النرويج سعيدة الحظ باكتشاف النفط بكميات هائلة في بحر الشمال، ما أدى إلى قفزة اقتصادية هائلة لشعب تعداده 5 ملايين نسمة حتى أصبح دخل الفرد فيها من أعلى المستويات العالـَـمية.

حياة التشرد

«حدث هذا في تلك الأيام التي كنتُ فيها متشرّدا أتضور جوعاً في مدينة كريستيانا ـ وهي عاصمة النرويج سابقاً وتـُـسمّى أوسلو اليوم ـ تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها» هكذا تبدأ الرواية وهكذا تحدّث الراوي طانجن، الصحافي الذي يعيش من مهنة الكتابة بالقطعة ..

والتي جعلت منه إنساناً بائساً ويائساً يعاني من الجوع والتشرّد ويصف حياته ومشاعره بأروع ما يكون. فطانجن يعيش حياته يوماً بيوم، وحياته الشقيّة لا تخلو من المسرّات بمجرد حصوله على مبلغ بسيط يكفي لسد رمقه عدّة أيام مقابل مقالة يكتبها بين الحين والآخر، ولهذا تحدّث لنفسه:

«أفكّر باحثاً عمّا إذا كنتُ سأوفق في يومي هذا إلى شيء يسرني فقد ساءت أحوالي في الأيام الأخيرة وأصبحتُ نزقاً ضيّق الصدر سريع الانفعال، وقد اضطرّني الدوّار مرتين أو ثلاثاً قبل الآن إلى أن ألبثَ في سريري طيلة النهار. وكنتُ إذا ساعدني الحظ بين الحين والحين أتمكنُ بشق النفس من الحصول على خمسة كرونات ثمناً لفصل أدبي أكتبه لهذه الصحيفة أو تلك».

عراقيل

وطانجن الذي يبحث عن وظيفة هنا وهناك يصطدم بعراقيل من أهمها عدم توفر مبلغ الضمان للوظيفة البالغ 50 كرونا.

وشيئاً فشيئاً تتدهور حالته فلا يستطيع حتى شراء ملابس كي يحافظ على مظهره الخارجي الذي بات مزرياً، بعد أن رثـّـت ملابسه وبات بالكاد يمتلك عدّة العمل المكونة من قلم رصاص ومجموعة من الأوراق، فضلاً عن مقدرته في الكتابة التي ما عاد لها سوق يقيه حياة الذل تلك إلى درجة عجز حتى عن دفع إيجار الغرفة الخالية سوى من سرير، التي يقطنها.

الجوع الشرس

وهكذا أصبحت أيامه مكرّرة بالمعاناة والتشرّد والجوع؛ الجوع الذي أمضى سيفه يعذبه بالألم المتواصل بعد أن صار له رفيقاً لا يفارقه في ليل أو نهار حتى أنّ معدته نفسها باتت تعاف الطعام الذي يأتيها على فترات متباعدة فيتسبب له ذلك بمعاناة مضافة، ولأنّ الجوع شرس في آلامه فإنـّـه يضطر إلى قضم الخشب قبل أن يلوكه طويلاً لتسكين آلام الجوع!

ويمضي الجوع بطانجن فيحدّث نفسه: «الواقع أنّ الحياة على مثل هذه الشاكلة سخافة، لا أستطيع أن أتصور ما أستحق عليه كل هذه الآلام المصبوبة عليّ!

وخطر في ذهني فجأة أنـّـه ربما كان من المناسب أن أنقلب شريراً!!»، ولكنّ طانجن الطيّب والنزيه يجد طعماً طيّباً لحياته حين يقدّم المساعدة للآخرين طعاماً كان أم مالاً، يمتلئ بالغِـبطة حينها ويشعر بالرضا ولهذا يحدّث نفسه: «إنــني منارة بيضاء في وسط بحر الإنسانية العكر!»، ولكنّ الجوع الذي يعكّر مزاجه يدفعه إشفاقاً على نفسه حد البكاء».

أحلام ودهشة

وحين يحلم طانجن فإنّ حلمه لا يتعدى معدة ممتلئة بالطعام: «كنتُ غارقاً في النوم، فأيقظني أحد الشرطة، فجلستُ وكأنـّـي بُعثتُ بعنف إلى الحياة والشقاء، وكانت دهشتي لوجودي في العراء دهشة جمود في أول الأمر، ولكن سرعان ما انقلبت خيبة مُرّة، فكدتُ أبكي أسفاً لأنـّـي لا أزال على قيد الحياة. وكانت السماء قد أمطرت في أثناء نومي فنفذ الماء إلى ملابسي وأحسستُ ببرودة قاسية في أضلاعي، وأخذ الظلام يمد رواقه فتمكنتُ بصعوبة من رؤية الشرطي الواقف أمامي».

وحين يشتد الجوع الذي تكاثرت أيّامه بطانجن وبعد أن بات ينهش قواه ومعدته يدفعه ذلك لمناجاة نفسه بطريقة فلسفية: «كنتُ إذا حالفني الحظ وحصلتُ بشق النفس على خمسة كرونات بهذه المحاولة أو تلك، لم تكن تكفي قط لإنعاشي قبل أن تهاجمني المجاعة من جديد فتشلني. ليتني أدري لماذا كُتب عليّ أن لا أرى يوماً صحواً؟ أوليس لي حق في الحياة كأي إنسان آخر؟!

أولم أبذل جهدي في الحصول على وظيفة؟ أولم استمع للمحاضرات وأكتب المقالات للصحف وأدرس وأشتغل في الليل والنهار كالمخبول؟ أولم أعش حياة الشح على الخبز واللبن في اليسر وعلى الخبز وحده في العسر، وإذا صفرت يدي تضوّرتُ جوعاً؟ تمنيتُ لو أنـّي متُ وعُـفـّي أثري فشقائي لم يشأ أن يقف عند حد».

كفاح مُستميت

طانجن الذي بات مشرّداً يعاني من الجوع والبرد والانحطاط بقواه، ويفشل في أول تجربة للحب له بعد أن رهن ملابسه وحاول بيع أزرار معطفه ويخادع قصّابا بطلب عظمة لكلبه وهو يُريدها لنفسه لعلـّـه يعثر بين ثناياها على قليل من اللحم النيء ولا يجدُ قريباً أو صديقاً يلجأ إليه ولا معونة من أحد تحت أي مسمّى حتى بات مشوّهاً من الجوع، وبعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجهه يقرر الهجرة إلى حيث لايدري.

1859

ولد كنوت هامسون 1859، ودرس اللاهوت والحضارات والأديان وركّز على دراسة الإسلام وأهم أعماله ثلاثيته: تحت نجمة الخريف، والمتشرّد والعازف، والبهجة الأخيرة.

ثم عدّة روايات بعضها تـُـرجم إلى اللغة العربية مثل بينوني وثمار الأرض والجوع فضلاً عن ديوان شعر بعنوان الجوقة المتوحشة وآخر بعنوان الأناشيد البرّية، وعدّة روايات أخرى مثل غموض، وفيكتوريا، وأبناء غيرهم، ونساء في النافورات، والمتشردون، والحياة تستمر، وأوجست، والدائرة تكتمل، وغيرها من الأعمال، وتوفي في عام 1952.

2014

صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014 ترجمة عربية لرواية «الجوع» لكنوت هامسون، وتعد الرواية من أشهر رواياته، والتي خلقت له شهرته العالمية، وفيها يقدم الكاتب الإنسان وهو متأرجح بين اليأس والأمل، ليختار الهجرة بعد أن تملكه اليأس، وكانت هذه الرواية من ترجمة شرقاوي حافظ.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced