مرت بالحارس آدم فترة أخذ يهتم خلالها بقراءة الكتب الدينية، والكتب التي تتحدث عن الأرواح وما بعد الموت، و كتب التراث الإسلامي عن عذاب القبر وأهواله، عن الملاكين منكر ونكير، لكنه ترك قراءة هذه الكتب لأنه وجد فيها الكثير من الأوهام والترهات. ما من أحد يعرف سر الموت، ولا أحد يعرف لغز الحياة.هكذا كان يعتقد بقوة، بل إنه أحيانا كان يشارك الماديين حججهم في أن الحديث عمّا بعد الموت هو أوهام وخيالات الأحياء نتيجة خوفهم من الموت، فما من أحد عاد من الموت ليخبرنا عن سره. نعم..الموت تجربة لم يخضها أحد..لا.. الموت ليس تجربة، وإنما عبور إلى العدم..أو الغامض المجهول..هكذا كان يفكر مع نفسه.
أحيانا كان يفكر بهؤلاء الفلاسفة الإسلاميين الذين يحترم تفكيرهم الفلسفي وتأملاتهم العميقة في بعض نصوصهم، ويسأل نفسه: كيف دونوا، إلى جانب كتبهم ونصوصهم الفلسفية العميقة، تلك الترهات عما يجري في القبر، حينما يتحدثون عن الحساب في القبر وأهواله..؟ ثم يسأل نفسه: ماذا عن مئات الملايين من الهنود الذين تم حرقهم وألقي برمادهم في الأنهار المقدسة؟ كيف وأين سيحاسبهم الملاكان منكر ونكير..؟. وماذا عن المسيحيين الذين يؤمنون بأن السيد المسيح هو مخلصهم وهو الذي تحمّل ذنوب البشر كلها..وأنه بآلامه قد اشترى خلاصهم..؟
كان يجلس لفترات طويلة مفكرا في البشر، وكيف هم يسمون هذا الكوكب بكوكب الأرض، بينما الأرض لا تشكل سوى ربعه؟ فالبحار والمحيطات هي التي تحتله، أي أنه كوكب الماء.
كان يفكر في هذه الأرض التي هي أصغر من حبة رمل صغيرة في هذا الكون المترامي الأنحاء، الذي يزدحم بعشرات المجرات الهائلة ومليارات المليارات من الكواكب والنجوم.. أحقا أن هذا الكون كله خلق من أجل الإنسان كما تدعي الأديان..؟ أمن أجل هذه الكتلة من السوائل الكريهة والبول والبراز والفضلات النتنة خُلقت مليارات المجرات والكواكب والنجوم والشموس..؟ أمن أجل هذه الكتلة من الغرائز والرغبات خُلقت كواكب وشموس أكبر من الأرض بمئات المرات.. ومجرات تبدو الأرض بينها كحبة رمل..؟ أيُعقل هذا..أم هناك الكثير من العوالم التي لا نعرفها والأسرار التي أعمق وأكبر من أن نفكر فيها.. ؟
ثم.. لِمَ يعتقد الإنسان أنه سيد الأرض؟ بينما عدد الأشجار على سطحها يفوق عدد البشر مئات المرات..؟ ويا تُرى أيهما أجمل وجودا، الأشجار أم الإنسان..؟ الأزهار أم الإنسان..؟ أين هي يا ترى تلك الأفكار العظيمة والتأملات الفلسفية الهائلة حول الإنسان والحياة والمصير البشري..؟ أين صارت شطحات الصوفيين..؟ وأين هو عالم النور الذي غنى له الشعراء والمصلحون ..؟ أين الأفكار العظيمة التي عذبت المفكرين، وقتلوا، وصلبوا، وأعدموا، من أجلها..؟ هل جثث الفلاسفة والمفكرين..والعظماء من العلماء والمخترعين.. والفنانين..تختلف عن جثث عامة الناس..؟ أين هي الحقيقة يا تُرى..؟ وما هو سر الجمال..؟ أين هو الخلاص..؟
وبالرغم من أن الحارس آدم يعمل في المشرحة منذ حوالي سنة وثلاثة أشهر، إلا أن هذه الأفكار والتحولات النفسية والفكرية التي تعرض لها وعاشها، ويعيشها يومياً، كانت نتيجة تعامله المستمر مع الجثث البشرية في أبشع صورها.
كان آدم يفكر في البشر الأحياء من خلال حقيقة موتهم، ونهاية دورهم في الحياة اليومية التي تضج خارج المشرحة، كانت الحياة هنا داخل المشرحة هي الحياة بالنسبة له..ومنها كان يستمد تأملاته الفكرية، لذا ارتعب حينما شاهد الفيلم عن ذبح الشاب آدم المهدي في حوض الحمام في بيت أحد الأعضاء المهمين في الدولة.
كان الحارس آدم مؤمنا بأن ثمة حاجزاً خفياً بين الحياة والموت،ولم يكن هذا مجرد فكر يؤمن به، وإنما هو شعور صار يلازمه، بل تعود عليه أن تمر به لحظات يجد نفسه يشعر مثل الأطباء ومساعديهم، ذلك الشعور الذي يتلخص في أن الجثة ليست بشرا، ولا يمكن التعامل معها على هذا الأساس. هي جسد ميت بلا روح. كتلة من اللحم والعظام المغطاة بالجلد. ذبيحة يمكن التعامل معها بلا أية شعور بالذنب أو الإحساس بالتعاطف. لكنه سرعان ما كان يقاوم هذا الشعور..لأنه يعذبه..فهو لم يكن يستطيع أن لا يقرن الجثة بشخصية صاحبها، أو لا يفكر فيها بأنها كانت تنبض بالحياة، وكانت لها مشاعرها وأحلامها وأحقادها وتأملاتها الفكرية والعقائدية، مثلما يتأمل هو الآن.. هذا الإحساس كان يعذبه ويتركه في حالة تناقض وصراع نفسي مستمر.
من روايتـي (مشــرحـة بـغـــداد)
مقطع من الفصل الثالث (تأملات من قاعة التشريح)