هذه الدمية الخشبية التي تضحك الأجيال بأنفها الطويل، ضمن رواية «بينوكيو» للكاتب الإيطالي كارلو كولودي بينوكيو، رفعها النقاد عالياً «أيقونة الثقافة الحديثة»، واعتمدتها منظمة اليونيسكو قاعدة لنشر الثقافة في العالم. ولعل الرواية، الوحيدة التي تُرجمت إلى250 لغة وأنشأت صرحا ثقافيا خاصا بها في 241 لغة. هذه الدمية المضحكة التي حملت الرسائل التربوية والتعليمية، حملت أيضا قصة حب شفاف. وأي حب؟ إنه الحب الذي أنجب بينوكيو!
جيبيتو وليونا
كانا يلعبان والكون يلعب معهما، وفي أحد الأيام حفر جيبيتو وليونا اسميهما في جذع شجرة الصنوبر في الوادي، وتعاهدا على الحب والوفاء. ثم انهمك جيبيتو في العمل في الغابة وانشغل عن ليونا.. فانتهز أخوه الخبيث الفرصة وملأ خيالها بالأحلام وتزوجها. مرت الأيام، وبينما كان جيبيتو يقطع الوادي، هبت عاصفة كسرت أغصان الأشجار بينها غصن من شجرة الصنوبر..
فحمله معه إلى المنزل وحار ماذا يفعل به، فهو من الشجرة التي باركت حبهما وتحمل اسميهما. تصور ليونا أمامه.. فغمره الحب وتحركت أنامله، وصنع منه دمية أحبها كأنها ابنته وابنة ليونا. تمنى لو تدب فيها الحياة. وإذا بها تتحرك ومعها تتحرك شفتاه هامسة: بينوكيو (حبة القمح)!
مغامرات
تبدأ رواية بينوكيو بالنجار انطونيو الذي استعصى عليه أن يصنع شيئا من خشبة من الصنوبر. فأعطاها لجاره حفار الخشب جيبيتو الذي صنع منها دمية سماها بينوكيو. أحب جيبيتو الدمية وتضرع إلى الله أن ينفخ فيها الحياة. فتحقق طلبه ونال المكافأة من ابنه الذي رفسه برجله وهرب من البيت. ينصحه جيمني، صرصار الليل، بطاعة والده..
فيضربه بينوكيو ويقتله. كان بينوكيو كثير الحركة ولا يهدأ، يحب اللعب ويذهب معه حيثما يذهب ويحط حيثما يحط. الأمر الذي أرهق والده وورطه في مشاكل لا نهاية لها. أخيرا أقنعه بالذهاب إلى المدرسة، وباع معطفه ليشتري له كتاب القراءة.
وفي الطريق إلى المدرسة، سمع صوت الموسيقى الراقصة. سار إليها ووجد جمعا أمام مسرح الدمى المتحركة. فباع الكتاب واشترى تذكرة ثم رقص مع الدمى حتى نهاية العرض. أعجب رقصه مدير المسرح ورأى أن يستفيد منه في العرض الختامي وأعطاه خمس قطع ذهبية.
الجنية ذات الشعر الأزرق (ليونا): لا تكذب
ركض بينوكيو فرحاً إلى والده، فلحق به المحتالان: الثعلب فلوب والقطة فلينت، لسرقة القطع الذهبية. تنكرا مثل قاطعي الطرق وكمنا له.. فهرب بينوكيو إلى الغابة ولجأ إلى كوخ الجنية ذات الشعر الأزرق. وعندما أمسك به المحتالان، ابتلع بينوكيو القطع الذهبية، فانتقما منه بشنقه على شجرة السنديان. تنقذه الجنية وترسل الصقر ليقطع الحبل وكلبها ميدورو ليحضره في عربتها.
سألته عن القطع الذهبية، فأجاب بأنه أضاعها. وإذا بأنفه يكبر ويكبر ولم يعد باستطاعته الخروج من الكوخ. فاستدعت الجنية ألفاً من الطيور النقارة للخشب، لترجع أنفه إلى حجمه الطبيعي. ثم حذرته من الكذب وأرسلته كي يحضر والده ليسكن معهما.
في حقل العجائب: لا تثق بالغرباء
يعترضه الثعلب والقطة وقد تظاهرا بالمسكنة، وينصحانه بزرع القطع الذهبية في حقل العجائب خارج المدينة. يظهر له طيف صرصار الليل ويحذره من الثقة بالغرباء، لكنه لا يكترث. يزرع القطع الذهبية الخمس في حقل العجائب ويأخذ غفوة وهو يحلم بالأشجار التي تثمر ذهباً. وعندما يستيقظ لا يجد المحتالين ولا القطع الذهبية.
يركض إلى المحكمة ويشتكي، فيحكم عليه القاضي بالسجن أربعة شهور لأنه ارتكب جناية الحماقة. يخرج من السجن بالعفو الامبراطوري في العيد الوطني، ويذهب إلى كوخ الجنية، فيجدها ميتة. يبكي عليها بكاء حاراً. فتشفق عليه حمامة وتحمله إلى الشاطئ حيث يصنع والده قارباً ليبحث عنه.
في المدرسة وجزيرة النحل: العلم والعمل أساس النجاح
يرى بينوكيو والده يبحر بالقارب، فيسبح إليه. تهب عاصفة ويختفي القارب وتجرفه الأمواج إلى «جزيرة النحل العامل»، التي لا يستطيع الإنسان أن يحصل فيها على الطعام والماء إذا لم يعمل. يساعد بينيكيو سيدة ويحمل لها الوعاء الفخاري الكبير إلى منزلها، ثم يكتشف أنها الجنية الزرقاء. تخبره بأنها سترعاه مثل أمه وتحقق له حلمه بأن يصبح طفلا طبيعيا إذا ذهب إلى المدرسة ونجح بتفوق. يجتهد بينوكيو ويبز بقية التلاميذ..
فيغارون منه ويدفعونه إلى القتال مع يوجين. فيهرب من المدرسة. تلومه الجنية وتعطيه فرصة أخرى. فيعود إلى المدرسة وينجح بدرجة الشرف. تفرح الجنية وتقيم حفلة وتخبره بأنه سيصبح بعد الحفلة صبيا حقيقيا. يدعو بينوكيو رفاق الصف إلى الحفلة..
وإذا بالصبي لامبويك يلعب بعقله ويدعوه إلى مرافقته إلى «أرض الألعاب»، حيث يأكل الإنسان ويلعب طوال اليوم ولا يعمل. يذهب بينوكيو معه ويلهوان هناك خمسة شهور، ثم يستيقظان وقد نبتت في رأسيهما آذان الحمير. يخبرهما السنجاب أن الصبيان الذين يلعبون ولا يعملون يتحولون في أرض الألعاب إلى حمير. وفي وقت قصير، يتغير شكل بينوكيو ولامبويك إلى حمارين.
البر بالوالدين
يشتريه مدرب الحلقة في السيرك ويدربه بعنف، فيلتوي مفصل قدمه ويسقط. يبيعه المدرب إلى رجل يريد جلده ليصنع طبلاً. يرميه ذلك الرجل من فوق المنحدر الصخري ليغرق ويسلخ جلده. وحالما يمس جسمه ماء البحر، يعود بينوكيو إلى شكله السابق ويسبح بعيداً. وإذا بكلب البحر الضخم يبتلعه، وفي معدته يجد والده جيبيتو. عندئذ يستخدم بينوكيو عقله ويكذب ويصيح:
أنا أكره والدي.. أنا لا أريد أن أراه. فيكبر أنفه ويكبر حتى يشق بطن الحوت. ينجو ويعود مع والده إلى المنزل، ثم يضطر إلى العمل ليعيل والده المريض. فيعمل في النهار في مزرعة ويدرس في الليل.
وبعد شهور يوفر أربعين بنساً ويذهب إلى السوق ليشتري بذلة، فيصادف الحلزون الذي يخبره أن الجنية مريضة وتحتاج إلى النقود لأجل الدواء، فيعطيه بينوكيو ما معه. في تلك الليلة تزوره الجنية وهو نائم وتقبله. وعندما يستيقظ يجد أن حلمه تحقق وأصبح صبيا حقيقيا، ويجد أن الجنية تركت له بذلة وأربعين قطعة ذهبية.
1881
ويجدر الذكر أن كولودي نشر القسم الأول الذي ينتهي بشنق بينوكيو على حلقات في صحيفة في روما سنة1881-1882، وأنهى القسم الثاني سنة 1883. في القسم الأول يلعب جيبيتو الدور الرئيسي، دور الأب. وفي القسم الثاني تلعب الجنية الدور الرئيسي، دور الأم.
بينوكيو منارة في الأدب العالمي
دخلت هذه الرواية الملكية الإنسانية العامة وتعامل معها الأدباء والفنانون كنتاج محلي في 241 لغة. فأعطوا شخصياتها أسماء محلية وكسوها بالعادات المحلية وعدّلوا التفاصيل بما يحقق الأغراض التي يريدونها.
ومن عشرات الأمثلة نذكر أحدثها: قدمت فرقة أوبرا بكين الصينية عروضا عالمية لهذه الرواية ولاقت ترحيبا حارا على مسرح المؤتمرات في لندن في فبراير 2014. وقدم التلفزيون الكوري دراما تلفزيونية رائعة، بدأ عرضها في نوفمبر 2014 وانتهى في يناير 2015.
هناك 24 فيلما باللغات الانجليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية والروسية واليابانية والبلجيكية والصينية. وأكثر من 16 مسلسلا تلفزيونيا وأوبرا ومسرحية موسيقية والمئات من الروايات المصورة والمبسطة للأطفال. بعضها حافظ على الرواية، كما كتبها كولودي.. وبعضها تصرف بها بحرية. يضاف إلى ذلك، أنها ألهمت الأدباء والفنانين في إبداعات جديدة تحاكيها.
وخير ما نذكر رواية «المفتاح الذهبي الصغير أو مغامرات بوراتينو» للأديب لروسي الشهير تولستوي. أخيرا لابد من الإشارة إلى أن أنف بينوكيو أصبح رمزا ومصطلحا فنيا للدلالة على الكذب. وشاع هذا المصطلح أيام فضيحة ووتر غيت، وظهر الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، وهو يدلي بالتصريحات في الرسوم الكاريكاتورية وأنفه الطويل يقول إن ما يقوله كذب.
1940
تؤشر مضامين الرواية ودلالاتها، بقوة، إلى وجود قصة حب في حياة مبدع العمل. ومع ذلك، يهمل بعض الكتب والأعمال الفنية اللاحقة قصة الحب لأنها تؤدي إلى انحسار الفكاهة، ويركز على الجانب المضحك والهدف التعليمي. ومثال ذلك: فيلم «بينوكيو» (1940)، من إنتاج ديزني. غير ان فيلم «بينوكيو» - 1996 الذي شاركت في إنتاجه أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، يعطي الأهمية للهدف الأخلاقي.
شجرة الصنوبر
ربما لأنه لم يرزق بولد، تحرك الخيال بكاتب العمل، ليخلق واحدا. ربما كانت هناك في مقتبل شبابه، فتاة أحبها وأحبته، ثم سارت في دربها وسار في دربه، ولا تزال تحتل ركنا دافئا في قلبه. والشاهد الوحيد الباقي على حبهما هو شجرة الصنوبر، ومن شجرة الصنوبر صنع خياله بينوكيو. وبهذا يعطي الكاتب الإيطالي كارلو كولودي بينوكيو الانتماء إلى عالم البشر، ويوضح أن وجوده ليس اعتباطيا وإنما تلبية لحاجة. فهو ثمرة الحب العذري ووليد اتحاد اثنين بالروح.