«رجل لكل العصور» لروبرت بولت: المفكر الإنساني على الخشبة
نشر بواسطة: mod1
الأحد 19-04-2015
 
   
ابراهيم العريس

مرة كل سنوات عدة، يأتي فيلم أميركي أو إنكليزي ليدفع إلى واجهة الأحداث الفنية والذكريات التاريخية بواحدة من شخصيات الماضي البريطاني: هنري الثامن. وهنري الثامن هذا هو الملك المزواج، الذي اشتهر في التاريخ بكونه الحاكم الذي شق الكنيسة الإنكليزية عن سلطة البابا في روما خلال الربع الثاني من القرن السابع عشر. والحقيقة أن المرء ما إن تستعاد هذه الذكرى أمامه، حتى يجد نفسه منقباً في تاريخ الفن والأدب لكي يطلّ على الأعمال الإبداعية التي غرفت من حياة ذلك الملك ومواقفه وسياساته، بخاصة من زيجاته. وعلى رغم كثرة هذه الأعمال، قديماً وحديثاً، في المسرح والسينما والأدب والفن التشكيلي وحتى في الغناء الشعبي، يظل العمل الأكثر بروزاً، مسرحية روبرت بولت «رجل لكل العصور» (أو «لكل الفصول» في ترجمة حرفية). وبولت معروف في طول أوروبا وعرضها بصفته الكاتب المسرحي الإنكليزي الاشتراكي والتقدمي الذي اشتهر، إلى هذه المسرحية، بكتابته السيناريو لفيلمي «لورانس العرب» و «دكتور جيفاغو» الشهيرين والذين يعتبران قمة ما حققه للسينما المخرج الإنكليزي الكبير دافيد لين. علماً أن بولت حوّل هذه المسرحية أيضاً، بعد سنتين من تقديمها على خشبات برودواي ولندن، إلى فيلم سينمائي قام بالدور الأول فيه، الممثل الكبير بول سكوفيلد، الذي كان هو من قام بالدور نفسه في العروض المسرحية. وبالنسبة إلى مسرحية روبرت بولت، التي أخرجها فرد زينمان للسينما، حين نقول الدور الأول، فإننا نعني دور توماس مور، مستشار التاج البريطاني في زمن هنري الثامن، لا هذا الأخير. فالواقع أنه إذا كان الملك هو الشخصية المحورية في معظم الأعمال التي تناولت تاريخه وحكايته، منذ شكسبير، وحتى الفيلم الأخير الذي عرض قبل نحو عشر سنوات من الآن تحت عنوان «ابنة آل بولين الأخرى» لتبحث عن واحدة من زوجات الملك هنري الثامن وشقيقتها التي أُغرم بها أيضاً، فإن روبرت بولت آثر في عمله أن يجعل الأحداث والأفكار والمواقف تدور حول ذلك المفكر الكبير، الذي كان صديقاً للنهضوي الهولندي إرازموس، وصاحب فكر مشع، مع أنه، في القضية التي نتصدى لها هنا - وتصدت لها المسرحية - وقف إلى جانب بابا روما، ضد إرادة ملكه وولي نعمته، في الصراع الذي نشب بين هذين الأخيرين.

> إذًا، بالنسبة إلى «رجل لكل العصور» الحضور الأساس هو لتوماس مور (الذي يغيب تماماً عن فيلم «ابنة آل بولين الأخرى»، من دون أن يترك أثراً). والصراع الأساس، على خلفية الصراع بين روما والبلاط الإنكليزي، هو الصراع بين الملك ومستشاره. أما القضية فقضية طلاق وزواج. أو هكذا - على الأقل - نقلها إلينا التاريخ. والحكاية كما بتنا نعرفها منذ زمن بعيد، هي أن هنري الثامن الذي كان يقارب الأربعين من عمره في ذلك الحين، أراد من الكنيسة أن توافقه على إبطال زواجه من كاثرين داراغون، زوجته الأولى والتي كانت تكبره سناً، وكان زواجه منها، أصلاً، بترتيب من روما بغية المقاربة بين العرشين الإنكليزي والإسباني - فهي كانت أخت الإمبراطور الإسباني شارل - لكن كاثرين وبعد سنوات زواج طويلة لم تنجب وريثاً للعرش. فاستغل هنري الثامن الحكاية، كما استغل كونها في الأصل زوجة أخيه الراحل آرثر، ليطلب عقد محكمة تبطل زواجهما. يومذاك وقف النبلاء والأعيان والقضاة - بمن فيهم كرومويل الذي كانت له، هو، غايات إضافية كما سيبين التاريخ لاحقاً - مع هنري الثامن، لكن توماس مور وقف وحده وقال: لا، لا للطلاق، ثم لا لزواج الملك بأخرى، ستكون زوجته الثانية آن بولين، شقيقة إحدى عشيقاته في القصر ماري بولين. وبالطبع، في رأي توماس مور، لا لخصام طويل مع البابوية في روما، سيؤدي إلى الانشقاق الذي حدث بالفعل.

> هذه الحكاية التاريخية هي، إذاً، الخلفية التي صيغت حولها معظم - إن لم يكن كل - الأعمال الإبداعية التي تناولت ذلك الفصل من حياة هنري الثامن ومن حياة بريطانيا في ذلك الحين. ويقول لنا التاريخ، طبعاً، أن هنري الثامن، نجح في ما أراد، لا سيما بعد أن تخلص من «مستشاره» المزعج، برميه سجيناً في برج لندن، قبل أن يأمر بإعدامه. وتوماس مور انصاع للأمر، من دون أن يقدّم أدنى تنازل عن موقفه، ما جعل منه أسطورة في عالم الفكر وقديساً.

> من ناحية مبدئية، وفي شكل تجريدي، كان يتعين على كاتب مثل روبرت بولت، أن يكون أكثر ميلاً، في موقفه، في اتجاه التصرف ذي المظهر «التقدمي» الذي تبعه الملك، سواء من ناحية التجديد الذي نتج من فعلته، في الإيمان المسيحي في ذلك الحين - على الضد من الموقف «الرجعي» للكنيسة - ومن ناحية ثانية في مجال الأحوال الشخصية، إذ في أعراف الحداثة أن ما رغب فيه الملك، كان أمراً منطقياً وواقعياً، على الضد من التحجّر الذي حاربه. غير أن المسائل، ليست على مثل هذه السهولة. ذلك أن للأمر أبعاده التاريخية المعقدة التي تتداخل فيها النزوات الشخصية مع مصالح الدول، ومصائر الأفراد مع صراعات الكبار. ولعل أهم ما في مسرحية روبرت بولت، هو وعيه هذا الجانب، ما أوصله إلى غاية الموضوعية، وجعل مسرحيته عملاً سياسياً فكرياً بامتياز، إذ في طول المسرحية وعرضها، وبالتوازي مع المشاهد والفقرات التي تسبغ البطولة الفكرية على توماس مور، لا يتوقف الكاتب عن التحليل والدخول في دهاليز السياسة وصناعتها. ويتجلى هذا خصوصاً في حوارات توماس مور، مع الكاردينال توماس دولسي، كما مع توماس غرانر وريتشارد ريش، الذين وكل منهم لغاية خاصة به تمليها تطلعاته السياسية، أكثر ممّا تمليها قناعاته الشخصية، أرادوا أن يثنوا مور عن مواقفه. ولعل هذه الحوارات أغنى ما في العمل. وفي مثل هذا المناخ الفكري - والذي يصل إلى ذروته في حوارات توماس مور مع الملك نفسه - يبدو لافتاً أن روبرت بولت، لم يجعل الحيز الذي تحتله آن بولين، أو حتى كاثرين داراغون، كبيراً، طالما أن عملاً فكرياً من هذا النوع، يتعدى الحكايات العائلية والأهواء الشخصية. وهذا ما يبدو متناقضاً تماماً، مع ما ذهب إليه بيتر مورغان، كاتب سيناريو الفيلم الجديد «ابنة آل بولين الأخرى»، إذ ألغى وجود توماس مور جاعلاً من كرومويل ودولسي وغرانر، مجرد شخصيات شديدة الثانوية. وهذا الأمر يضعنا هنا أمام تفسيرين للتاريخ الواحد، لكل منهما منطقه وحيثياته. ولئن كان بولت قلّل كثيراً من حضور النساء في مسرحيته، ثم في الفيلم المقتبس منها، فإنه، في المقابل، جعل حيزاً كبيراً للرأي العام ممثلاً بالمواطن العادي الذي نجده في بعض الأحيان كأنه هو راوية الأحداث. ولئن كان هذا الراوي واحداً فرداً في المسرحية، فإن روبرت بولت جعله متعددا في الفيلم الذي حققه زينمان، وذلك لضرورات تقنية: بغية تنويع المشاهد والأمكنة وبالتالي وجهات النظر، انطلاقاً من قدرة السينما على تنويع في الأمكنة، يفتقر إليه المسرح.

> بقي أن نذكر أن الفيلم أتى، عدا عن هذه التبديلات الطفيفة، وفياً للمسرحية - تماماً كما سيأتي فيلم «ابنة آل بولين الأخرى»، وفياً تماماً للرواية التي اقتبس منها - وبه ثبت روبرت بولت مكانته التي كانت تنتقل في ذلك الحين من مكانة الكاتب المسرحي الكلاسيكي - في زمن كان الطليعيون يجهزون على الكلاسيكية المسرحية - إلى مكانة كاتب السيناريو لأفلام قد تكون عميقة تحليلية فكرية، لكنها في الوقت نفسه مشغولة بحبكة ودرامية وبمقدار كبير من الأناقة. وهذا ما جعل الفيلم يفوز بأوسكارات كثيرة. منها أحسن سيناريو (لروبرت بولت) وأفضل فيلم وأفضل مخرج وكذلك أفضل ممثل لبول سكوفيلد الذي رحل عن عالمنا قبل سنوات قليلة بالتزامن مع عروض «ابنة آل بولين الأخرى». أما المسرحية فقد واصلت عروضها منذ ذلك الحين من دون هوادة حتى صارت جزءاً أساسياً من ريبرتوار المسرح العالمي.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced