صباح مرعي.. حياة سعرها متواضع
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 28-07-2015
 
   
رياض رمزي

" لنا أن نشكك في عدالة النسبة بين الخير والشر، في الطبيعة شيء كثير ضدنا" روبرت فروست.

كان بيته مقرا للأصدقاء، لا تشعر أنك ضيف فيه وعليه. كان متمسكا بالحياة تمسك حلزون بحري بصخرة. عندما أصيب بالسرطان وتعسّر عليه التنفس، شعر أنه مرض جدي وليس توعكا لأنه ألزمه المبيت خارج منزله فكان مثل رب عائلة يفضّل بيته بهوائه الحامض على قصر الضيافة. حينما رأيته آخر مرة، يومين قبل وفاته، وكان جالسا على الكرسي رقبته متيبسة وعلاقته بالحياة تتحدد من خلال أنبوب مطاطي، أشبه بحمامة جناحها مهيض، ما أن تشرع بالسير جارّة جناحها حتى تدرك أن لا سلطة على ملكية جسدها برغم أنه مسجّل باسمها منذ الولادة. فكرت كيف لا يرتعش قلب من يجلس سحابة أيامه لشهور على كرسي بدون تذمّر وبإذعان. فلو وقف شخص ما ساعة مستندا على جدار لارتعش قلبه من حالة مفروضة عليه، حالة نُزعت عنها الرحمة. لم يكن وجهه الشمعي اللون مشغولا بإخفاء عجزه الجلي. لم يكن أبدا كآدم الذي قام الرب باقتطاع ضلع قرب خاصرته ليصنع منه المرأة، فجلس على كرسي تحت شجرة سدر يتحسس خائفا مكان جرح الضلع. ربما كان آدم قد حصل على ضمانات تقول له أن الحياة مسرح ولكن فترة صلاحيتها ستستمر طويلا كما أسرّ الخالق في أذنه. وبرغم أن صباح لم يتوفر على ضمانات كتلك، فلم يكن كلامه وسلوكه يشيان أنه، بسبب غياب تلك الضمانات، قد ملّ عشرة الحياة. كان يسحب خرطوم الأوكسجين كي يلقي جملة كمن يلوك طعاما. كانت لديه الجرأة لقول كلام واع برغم تساقطه من فمه كفتات خبز. لم أشعر أنه كلام شخص قلق يرى أيامه تتآكل فراح يتصرف كمن يدرك أن فرصا أكيدة ما فتئت تتساقط من بين يديه. كان يجاهر في كلامه و ايماءاته كي يقول أنه ليس من ذلك الصنف الذي بردت همته في الحياة، و ذلك عندما أسمعني رأيه في محاضرتي الأخيرة. كان مزاجه ما زال مزاج من هو مؤهل للعيش زمنا طويلا. فبرغم قامته التي كانت تنوء تحت ثقل أنبوب الأوكسجين وجو المستشفى الذي أضاف بطئا وثقلا عليه، هو الذي كانت الحياة تدب في بيته كل صباح، فإن الشيء الوحيد الذي ما كان يحتمله هو غياب الحركة، الحوار مع الأصدقاء، مثل صاحب مقهى يرش في الصباح الباكر مدخل مقهاه منتظرا قدوم القصّاد إليه كي يناقش و يستمع لآراء في غاية الخطورة. عندما شاهدني رفع إبهامه إلى الأعلى شاكرا مجيئي. جملة قالها بصوت مشحوط و لكنه ليس صوت امرأة ستبدأ فترة حدادها قريبا. أجبته هذا أقل ما أستطيع فعله لك. أراد في تلك اللحظة أن يجعلني أستمتع بإبداء كرمه في طريقته المعهودة في الترفع عن اللوم، كي لا أفقد الرغبة في الكلام. كان كعادته لا يسعى لإرتكاب خطأ يعطي شكلا يشبه ذلك الذي يعتور مريضا يقول لزائريه مشيرا بيده إشارة التوقف "اسكتوا لقد وصلت طلائع الآلام إلى الرقبة".

لم يستمر اللقاء بيننا لأكثر من ثلاثين دقيقة. داهمتني صور كثيرة وأنا أتأمل فترة معرفتي به منذ حمسة وعشرين عاما، حيث استرعت انتباهي مذ رأيته أول مرة، ديناميكيته الموجهه ضد جسده المثقل بالعلل، و كأن الحياة متاحة له بالطول و العرض.

أعرف أن هناك من قال انه عندما تفكر بالكتابة عن شخص دع مزاياه تأتي إليك. حسنا ما هي أهم خصلة لديه؟. أنه التبذير. كي تعرف شخصا ما عليك معرفة ما الذي يحرص على عدم الاحتفاظ به. هي النقود لدى صباح. فقدانها لا يحزنه. فلسفته يمكن اختصارها بما يلي: إن جرّدتَ الحياة من النقود فستعيش وفقا لطبيعتك. غياب النقود لدى صباح تطهير للنفس. أنه يقول أن الإنسان أكبر من النقود لأنه صانعها، ومن الصعب أن تصنع شيئا ويعود ليصنعك. قلت كيف يا صباح؟. قال لأن وجودها يظل جاثما عليك، فتنتهي حياتك بأن تكون مثل بائع ملابس لا يلق بالا لنوعية ملابسه، بل ينتهي أن يكون مروّضا من ورق ومعدن، إن استعبدا الإنسان لا يستطيع تعديل تأثيرهما عليه. قلت له عداؤك إذن للنقود نابع من الخوف من الخضوع لها. قال نعم الكرم ليس فعلا غير واع، بل هو موقف معاد للاكتناز. قلت له هذه الإجابة تفترض سؤالا. ما هو قال؟. قلت الاكتناز سلوك رأسمالي و أنت ضد الرأسمالية أليس كذلك؟. قال أنه ليس عداء بل هو دعوة للكرم. قلت حسنا هل الكرم يتوافق مع المبادئ الشيوعية التي تحملها؟ قال نعم جعل النقود إلها يضعف عطاء الشخص و يوقف قدرة البذل وذلك هو جوهر نضال الحزب الذي أنتمي إليه.

أتساءل الآن بعد رحيل صباح : إن كان الله يحاسب عباده حسب ما في صدورهم، فما هو شكل الحساب الذي ستجريه الملائكة مع صباح سواء في القبر أم في ثلاجة المستشفى وما هي نتائجه؟. قلت لنفسي أن الملائكة التي ستتجشم وعثاء السفر من بلاد الرافدين حتى لندن ستدخله الجنة حتى وإن كان قد خسر جزءا من نقوده في كازينو فكتوريا للعب القمار. بوسعي الآن قراءة جزء من تقرير الملائكة عنه" تقرير سري مرفوع من الملائكة إلى السيد الخالق. إن لزمنا جانب الإنصاف وكما هو الحال مع كل الشيوعيين فقد عاش الموما إليه عيشة نزيهة، لا توجد لديه خطايا جدية تشكل مصدر اتهام جدي له، هذا إذا لم تكن الطيبة خطيئة تستحق لديكم العقاب عليها، وبرغم أنه ارتكب خطأ الزواج من أجنبية أحكمت قبضتهها عليه حتى مماته، فكان يعاني من خطر غياب المحبة. فهي جاءت في أواخر أيام حياته كي لا يكون شيئا من أسلابه بعيدا عن متناول يديها، مدركة أنه في حالة انعدام التكافؤ فأن من يحصل على أكثر الغنائم هو ذلك الذي يرابط في موقعه جيدا. نترك تقدير الأمر لكم إن كنتم تعدون ذلك ضعفا، سذاجة أم طيبة، أم أنكم أنتم من قررتم أن تزرعوا فيه استعدادا فطريا للتضحية، ككل أفراد فصيلته. أخيرا فأن المتوفى صباح مرعي ليس بالسوء الذي يتم وصم الشيوعيين به، وهي تهم تحاول الأحزاب التي تدعي الإنتماء إلينا إلصاقها بهم. حُرّر المحضر في ثلاجة مستشفى الجامعة في لندن صباح اليوم الموافق التاسع و العشرين من رمضان عام 1436 هجرية".

هذه هي المرة الأولى التي أتمنى أن يكون التقرير صحيحا وأن يكون السيد ربي صادقا في جمعنا في جنته. سنلتقي هناك كما نفعل الآن في أيام حياتنا على الأرض، وسوف لن نستثني أحدا حتى لو كان سعدي عبد اللطيف.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced