تقول الحكاية أن «اكتشاف» العالم الإنكليزي إسحاق نيوتن قانون الجاذبية، بدأ حين كان جالساً في حديقته يتأمل، تحت أشجار التفاح، في أحوال العلم والعالم، فإذا بتفاحة تسقط من على غصن شجرة. ولمع ذهن العالم الشاب مع سقوطها. قال في نفسه متسائلاً: لماذا سقطت التفاحة الى أسفل، وليس إلى أعلى أو إلى أي جهة أخرى. وهكذا أعمل الرجل فكره وراح يمعن درساً وحساباً حتى توصل الى ذلك القانون الذي سيجعل منه «اكتشافه» واحداً من أكبر العلماء في تاريخ البشرية. وتقول الحكاية الثانية إن نيوتن نفسه، إذ كان ذات يوم شتائي صحو، يتأمل قوس قزح الذي رسمته رطوبة الجو، أدرك بعد تفكير عميق ونظرة تجريبية، أن «اختلاط ألوان قوس قزح بعضها في بعض هو الذي يولد اللون الأبيض»، وهنا أيضاً أوصله ذلك الى استنباط قانون تشتت اللون، خصوصاًعد أن صنع تلك الأسطوانة الملونة التي راح يديرها بسرعة فإذا بألوانها تختلط منتجة لوناً أبيض. وهذه الأسطوانة عرفت على مدى التاريخ باسم «أسطوانة نيوتن».
> واضح أن ثمة قدراً كبيراً من الخيال، وقد نقول الخيال الشعبي، يقف في خلفية هاتين الحكايتين كما الحال بالنسبة الى الكثير من المكتشفات العلمية واللحظات الأساسية في تاريخ تعرّف الإنسان إلى الكون المحيط به. وفي إطار هذه الرؤية تلعب المصادفة على الدوام دوراً لا بأس به. غير أن هذا الكلام لا ينبغي بالتأكيد أن ينسينا أن ثمة حقاً دوراً تلعبه الصدفة في لحظات استثنائية معينة، وأنه لا يجب علينا دائماً أن نسارع إلى رفض الحكايات المتناقلة من حول تلك اللحظات، وعلى الأقل من من مطلق القول المأثور: لا دخان بلا نار. مهما يكن، علينا أن نلاحظ هنا كيف أن الخيال والتعقّد العلمي يمتزجان في هاتين الحكايتين. ولكن حتى ولو كانت الغلبة السببية للخيال والنتيجة مرتبطة على العكس من هذا بالتعقّد العلمي، علينا ألا ننسى أن الخيال الذي استُنبط لدعم الحكاية، لا يتعارض بالطبع مع حقيقة أن إسحاق نيوتن تمكن عبر عمل دؤوب وجهد خارق، من العثور على بعض أهم القوانين العلمية في المجالات الكثيرة التي خاضها، مثل مجال دراسة الضوء والجاذبية والعلاقة بين الكواكب والأجرام والدينامية... وغير ذلك من أمور خاض فيها، ذاك الذي يمكن اليوم زائر جامعة كامبريدج أن يجد عبارة محفورة على تمثاله تقول إنه «تجاوز النوع البشري بقوة فكره».
> في اختصار يمكن القول إن إسحق نيوتن خاض في كثير من الشؤون العلمية، كما نعرف، وأكد مراراً وتكراراً مركزية الإنسان في الكون ودائماً على الضد من المقولات الكنسية، ما عرّضه لعداء أوساطها له ولأفكاره، كما انه عارض الفيلسوف الفرني رينيه ديكارت في بعض أهم نظرياته، وأكمل عمل كبلر وغاليليو. ووضع الكثير من الكتب والدراسات. ولكن يبقى كتابه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» أهم إنجازاته الفكرية، لأنه تمكن من أن يلخص في أجزائه الثلاثة أفكاره وتجاربه الكثيرة، ويثبت الكثير من القوانين والقواعد. صحيح أن معظم هذه كانت معروفة ومدروسة منذ الإغريق حيث كانت تعتبر أحياناً من المسلّمات التي تقف خارج النقاش، وأن عصر النهضة عاد وطورها معقلناً إياها، غير أن جهد نيوتن كان إضافة مهمة إليها، وقوننة لها. ولعلنا لا نكون مبالغين إن قلنا إن واحداً من أهم مساهمات نيوتن كان تبسيط تلك القوانين التي كانت قلة في زمنه والأزمان السابقة عليه قادرة على فهمها. وبالتالي كان المجتمع كلاً عاجزاً عن تصور حقيقتها. والعالم هيغنز نفسه، الذي عاصر نيوتن وكان من ألمع الأذهان في زمنه، كان لا يفتأ، قبل شروحات نيوتن، يقول إن نظرية الجاذبية ليست أكثر من هراء.
> وضع إسحاق نيوتن كتابه «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» منتصف ثمانينات القرن السابع عشر، ونشره في لندن في العام 1687، ليعتبر منذ ذلك الحين «واحداً من أكثر الأعمال العلمية عبقرية في التاريخ الإنساني». والكتاب، كما أشرنا، يتألف من ثلاثة أجزاء تسبقها مقدمة للمؤلف، يشن فيها هجوماً عنيفاً ضد خواء الدراسات الأكاديمية، مقترحاً أنه في كتابه سيطبق الحسابات الرياضية على دراسة الظواهر الطبيعية. وفي الجزأين الأول والثاني من الكتاب راح، وفق ما يعرض ج. د. برنال صاحب كتاب «العلم في التاريخ»، يمعن في تحليل الكثير من الأمور والظواهر والقوانين، إلى جانب دراسته المعمقة لقوانين حركة الكواكب. وكان «هدفه الأساس»، وفق برنال «إثبات أو شرح كيف أن الجاذبية الأرضية تستطيع المحافظة على نظام الكون» وهو «أراد أن يوضح ذلك ليس من طريق الفلسفة القديمة ولكن بطريقته الكمية الفيزيائية الجديدة». ويرى برنال أنه كان على نيوتن للوصول الى ذلك، أن ينجز واجبين: أولهما «هدم جميع الأفكار الفلسفية القديمة والحديثة»، وثانيهما «إقرار أفكاره ليس فقط لصحتها ولكن لأنها الأكثر موثوقية للتحقق من الظواهر المختلفة. ويؤكد برنال هنا أن «نظرية الجاذبية الأرضية» التي «اكتشفها» نيوتن و «إنجازاته الأخرى في العلوم الفلكية، تمثل آخر الحلقات في سيرورة إظهار الصورة التي رسمها أرسطو للكون، تلك السيرورة التي بدأ كوبرنيكوس رسمها. وهكذا، بعدما كانت الصورة الأولية تحدِّثنا أن الكواكب تتحرك بفضل «المحرك الأول أو بالملائكة بأمر من الخالق»، صارت الصورة الجديدة صورة سيرورة «ميكانيكية تصل تبعاً لقوانين طبيعية لا تحتاج إلى قوى دائمة ولكن تحتاج إلى العناية الإلهية لخلقها ودورانها في أفلاكها». وهكذا تمكن نيوتن في التفاف ذكي من أن يترك «الباب مفتوحاً لضرورة وجود العناية الإلهية من أجل استقرار النظام الفلكي». ومن الملاحظ أن ذلك الفكر «التصالحي» -وفق بعض الدارسين- جاء في وقت انتهت «المرحلة الهدامة لعصري النهضة والإصلاح، وبدأت مرحلة وفاق وتراض بين الدين والعلم». هذا بالنسبة إلى الفكر الذي يسيطر على الجزأين الأولين من الكتاب، أما في الجزء الثالث فإن نيوتن يتوصل الى الاستنتاجات الفلسفية، ومن هنا يسمي الجزء «أنظمة العالم». وفيه يجدد المبادئ الفلسفية الأربعة التي ينبغي أن يستلهمها -في رأيه- كل بحث وعمل في مجال العلوم الفيزيائية. وهكذا نجده هنا يطبق على نظام العالم المبادئ الفلسفية التي حددها في مقدمة الجزء الأول. وهذا ما يجعل مؤرخي العلم يقولون إنه «على رغم أن أعظم اكتشافات نيوتن هو اكتشافه قوانين الجاذبية الأرضية، انطلاقاً من دراسة ديناميكية حركة الكواكب، إلا أن اثره الأكبر على العلم هو في إيجاده الطرق العملية التي استخدمها لتحقيق نتائج»، فـ «حساب التفاضل والتكامل، الذي أوصله الى ذروته، أعطى العالم طريقة عملية للانتقال من التغير الكمي للأشياء الى الكم نفسه والعكس بالعكس، كما قدم الطرق الرياضية الدقيقة الموصلة الى حل المسائل الفيزيائية. وهو إذ وضع قوانين الحركة التي لم تربط الحركة بالقوة فقط، بل ربطت القوة بتغير الحركة أيضا، قضى نهائياً على البديهيات القديمة التي كانت تعتقد أن القوة ضرورية لاستمرار الحركة من دون اعتبار لدور الاحتكاك» (برنال).
> ولد اإسحاق نيوتن العام 1642 في وولستورب ببريطانيا، ومات العام 1727 في كنزنغتون. تحدر من عائلة بورجوازية ريفية، لكنه عاش يتيم الأب، إذ إن أباه مات قبل ولادته. وفي صباه أُرسل إلى كامبريدج للدراسة. غير أن الانعطافة الأكبر في حياته كانت في لقائه أستاذ الرياضيات إسحاق بارو الذي احتضنه مقدّراً مواهبه ومكّنه من الارتقاء في السلك الجامعي. وداخل ذلك السلك، راح يخوض أولاً علم البصريات، ثم الفيزياء، في وقت وقع تحت تأثير جماعة «هراطقة» قادته الى التعمق في دراسة الفلسفة. وهذا ما جعله يمزج العلم بالفلسفة، ويقرأ كثيراً. ودرس أعمال غاليليو خصوصاً، ومكّنه ذلك من الإمعان في دراسة الجاذبية لترسيخ قوانينها. وهو إذ عارض الكثير من نظريات ديكارت، دخلت التاريخ تلك المساجلات التي كان همها معرفة أي من نيوتن أو ليبنتز كان الأول في الوصول الى استعمال قانون التفاضل والتكامل.