بغداد.. بلا بغداد (3): أسوار خراسانية حولت بغداد إلى سجن كبير وزنازين ضيقة
نشر بواسطة: Adminstrator
الإثنين 28-06-2010
 
   
معد فياض / الشرق الاوسط
ماذا بقى في بغداد مِن بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها. لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها ببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت. . وحتى خربت. «الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان، بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
* أسوار وراء أسوار، كتل من الخراسانة المسلحة الكالحة اللون تغلف بغداد، حولها، وفي داخلها، وبين أحيائها. ما من مكان تتجه إليه إلا وتصطدم بجدار عازل، ما من خطوة تمشيها إلا وتقودك إلى كتلة صلدة من الإسمنت المحشو بالحديد والحصى. الأحياء البغدادية معلبة بكتل الخراسانة، محاطة من كل الاتجاهات والجوانب. أحياء بأكملها معزولة عن أحياء أخرى، بل إن بعض الأحياء مقسمة في داخلها إلى مجمعات محاطة بالأسوار. أهالي بغداد الذين ما عرفوا سوى الانفتاح على الهواء والفضاء والأنهر والبساتين، وعلى بعضهم، حاصرتهم الجدران الخراسانية وضغطت على حياتهم وأحلامهم وهواجسهم وأعصابهم «كأن هذه الجدران تجثم على قلبي، كلما أراها ازداد حزنا وتعبا» تقول كريمة، دكتوراه في الفنون التشكيلية من جامعة بغداد، مستطردة «أنها تقطع أفق النظر، وبالتالي تقطع أفق أحلامنا وأمنياتنا؛ فتزيد من عتمة معاناتنا، وتحيلنا إلى سجناء داخل زنازين على الرغم منا، حتى إن لون هذه الأسوار الإسمنتية يشكل إيقاعا حزينا في ذاكرتنا البصرية».
لماذا سجنوا بغداد؟ حولوها إلى سجن كبير مقسم حسب تسميات الأحياء، فما من منطقة أو حي تدخله، سواء كان في كرخ بغداد أم في رصافتها إلا وجدته مسوَّرا بالجدران الخراسانية المسلحة، بل حتى شوارع وأسواق العاصمة العراقية مؤثثة بهذه الأسوار. يطلق سائق سيارة الأجرة التي أقلتنا من حي القادسية، جهة الكرخ، المسور هو الآخر بالخراسانة المسلحة، إلى حي الجادرية في الكرادة، جهة الرصافة، تسمية «الكرنتينة» على بغداد، يقول: «لقد صارت كرنتينة كبيرة»، و«الكرنتينة» مفردة تركية تعني العزل، فقد كانوا يعزلون في السابق الموبوئين بالكوليرا أو الجذام، وما بين منطقتي الباب المعظم والوزيرية بجانب الرصافة كانت هناك «كرنتينة» لعزل الجنود الأتراك، ومنعهم من الاختلاط بالناس، وجمل الحي القريب من هذا المكان اسم الكرنتينة.
جامعة بغداد هي الأخرى اختفت معالمها وراء الجدران الإسمنتية العالية، طلبة الجامعة يتحركون بحذر خلف هذه الأسوار من دون أن يتفاعلوا مع مدينتهم وبيئتهم الحاضنة. وبسؤال سائق سيارة الأجرة «إلى أين سينقلون هذه الأسوار عندما تعود الأوضاع إلى طبيعتها» ضحك وعلق ساخرا: «خلي (دع) الأمور تعود إلى طبيعتها، عند ذاك لن نحتار في نقل هذه الكتل الخراسانية»، وعقب متسائلا هو الآخر: «لكن كيف ومتى تعود الأمور إلى طبيعتها، وترجع بغداد مثلما كانت، عروسا جميلة وزاهية، ثم ما معنى أن تعود الأمور إلى طبيعتها؟ لقد نسينا كيف هي طبيعة الأمور، لقد كان النظام السابق ديكتاتوريا، وقلنا الأمور ستعود إلى طبيعتها برحيل النظام، لكن النظام رحل والأمور صارت أكثر تعقيدا، المشاكل ازدادت، وما لم يكن موجودا في ظل النظام الديكتاتوري، مثل هذه الجدران الخراسانية، عرفناه بعد تغيير النظام».
هذا السائق بحد ذاته مفاجأة من مفاجآت بغداد ما بعد 2003، فهو كردي تنحدر عائلته من خانقين، على الرغم من أنه من مواليد بغداد، يحمل شهادة بكالوريوس في الفلسفة من جامعة بغداد، ويقود سيارته الخاصة الحديثة التي يعمل فيها لسد احتياجاته الذاتية، يقول: «أنهيت دراستي الإعدادية عام 2006، وكنت أتمنى أن أدرس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، لكن معدلي الدراسي قادني إلى قسم الفلسفة، وكان علي أن اقبل بذلك أو أن التحق بالخدمة العسكرية الإلزامية، والغريب أني أحببت الفلسفة في العام الثاني من دراستي، وأستعد الآن لأتقدم لدراسة الماجستير»، وليس غريبا اليوم أن تجد في بغداد سائق سيارة أجرة يتحدث عن (نيتشه) و(ابن خلدون)، وينتقد فلسفة (أنجلز)، فهناك عمال في مطاعم يحملون شهادات جامعية في الحقوق والاقتصاد، بينما «هناك مستشارون ومديرون في الحكومة، وأعضاء في البرلمان يحملون شهادات إعدادية مزورة» حسبما يؤكد السائق كاميران، منبها إلى أن «الدولة خربت مثلما بغداد، فالانتماءات السياسية، والطائفية صارت بالنسبة لنا أقوى وأعلى من هذه الجدران الخراسانية، من أجل الحصول على وظيفة مناسبة»، مختتما حديثه بسؤاله «لا ندري هل أقامت الحكومة هذه الجدران العازلة خوفا علينا، أم خوفا منا».
بغداد اليوم تعد أكبر مدينة عشوائية، مدينة تتسع وتكبر بلا أي تخطيط مديني، فمن حق أي متمكن أن يبني أينما يريد، وكيفما يريد، وفي الوقت الذي تحاسب فيه الحكومة المواطنين البسطاء الذين أقاموا بيوتا عشوائية في كل مكان من بغداد تقريبا، فان هناك قيادات سياسية بنت بيوتا فوق أراض مملوكة للدولة. فعلى هامش حوار كانت قد أجرته «الشرق الأوسط» مع مسؤول بارز في الحكومة العراقية السابقة، والمقيم في إحدى الأبنية التي أنشأها الرئيس العراقي السابق صدام حسين في منطقة كرادة مريم، التي كان النظام السابق قد استملكها بعد أن اشترى بيوتها وأراضيها من مالكيها بأسعار عالية وقتذاك، التي تحولت أبنيتها إلى حصن منيع يسمى بالمنطقة الخضراء، ويستخدم قصوره ومكاتبه الحكام الجدد، قال هذا المسؤول إن «المكتب الذي استخدمه ضيق وصغير؛ لهذا بنيت خلفه ثلاث غرف لأغراض السكن»، ومن المؤكد أن هذا البناء جاء بعيدا عن التخطيط الحضري لبغداد، بل غير متناسب مع الهندسة المعمارية للمنشأ الأصلي.
والمنطقة الخضراء التي تحمل اسما رسميا هو «المنطقة الدولية» بحد ذاتها مجموعة من القلاع الخراسانية المتداخلة والمتقاطعة والمتشابكة بواسطة أسوار عالية وحصينة من الخراسانة، فالأبنية كلها محاطة بهذه الأسوار، والشوارع بينها بدت ضيقة ومجهزة بنقاط تفتيش وحراسات مشددة. وإذا تركنا أكبر هذه القلاع، وهي بناية السفارة الأميركية التي لا تتمتع بأي جماليات معمارية، المسورة بجدران حصينة مجهزة بأبراج وكاميرات مراقبة، فإننا سندخل في شبكة من الجدران الخراسانية.

حتى عام 2005 كانت المنطقة الخضراء مفتوحة على بعضها، باستثناء بعض الحواجز حول بناية السفارتين الأميركية «القديمة» والبريطانية، لكنها (المنطقة الخضراء) تبدو اليوم وكأنها غابة من الأسوار الخراسانية، وكانت هناك بركة من الماء الصافي الذي تسبح فيه أسماك زينة ملونة يتمكن الزائر من مشاهدتها، وإوزات بيضاء تعوم فيها، و تزودها بالماء نافورات جميلة، هناك كان صدام حسين يستقبل بعض زواره، لكن هذه المنطقة صارت محرمة حتى على السكان القريبين منها، ومحاطة بأسوار من الخراسانة المسلحة المزودة ببوابات حديدية ونقاط تفتيش تحمل لافتة «ممنوع الاقتراب. . قوة مميتة»، كل ذلك بسبب اتخاذها مقرا للمسؤولين في الحكومة العراقية ومساكن لهم ولأولادهم، وأزواج بناتهم، وأقاربهم فتحولت إلى مقاطعات مفصولة عن بعضها بقوة الجدران الخراسانية، حتى إن بركة المياه تم تقاسمها وفصلها بين المسؤول الحكومة السابق والحالي، بواسطة الجدران العازلة.
والمنطقة الخضراء هي خير مثال على عشوائية الأبنية واستغلال هذه الأبنية واستملاكها. يعلق أحد القضاة الساكنين في المنطقة الخضراء، قائلا: «صرنا نخجل من الآخرين عندما نقول إننا من سكنة المنطقة الخضراء، فنحن في عزلة تامة عن بغداد وعن الناس»، منوها بأن «أهالي بغداد ينظرون إلينا وكأننا نعيش في أبراج خراسانية، ونحن نعتبر أنفسنا سجناء هذه المنطقة، ولكم أن تتخيلوا أننا لا نملك حرية الحركة في هذه المنطقة المعزولة أو المنعزلة». ويتساءل هذا القاضي قائلا: «إذا كان القادة السياسيون، وكذلك نحن، وغالبية أعضاء مجلس النواب نخاف من الاختلاط مع المواطنين، فكيف لنا أن نتفهمهم أو نعرف معاناتهم، أو نحكمهم، وكيف للمواطنين أن يلتقوا بقادتهم أو بمن انتخبوهم لتمثيلهم في البرلمان.. عيب، والله عيب علينا».
المهندس المدني (غ. بطرس) حاصل على شهادة الماجستير في تخطيط المدن، يؤكد أن «بغداد لم تعد مدينة، يمكن لكم أن تسموها أي شيء، أي مصطلح، إلا مدينة، فهي قرية كبيرة، أو بقايا مدينة، كل شيء يجري فيها بلا تخطيط». وبسؤال المهندس بطرس عن أثر جدران الخراسانة المسلحة على جماليات بغداد وهويتها المعمارية، غطى عينيه بكلتا كفيه، وقال: «هذه أم الكوارث، نحن نعرف في التاريخ الحديث أن النازيين في ألمانيا عزلوا اليهود في أحياء صغيرة وضيقة بواسطة جدران من الطابوق الذي كانت هناك إمكانية لخرقه، وكذلك الجدار العازل بين الألمانيتين، الشرقية والغربية، الذي تم تهديمه، وإسرائيل أقامت جدارها العازل بين المدن الإسرائيلية والفلسطينية، وهذا مثار غضب كل الفلسطينيين والعرب وأنصار حقوق الإنسان، لكن أن نرى جدران خراسانية عازلة تحيط الأعظمية ومدينة الثورة والبياع، وأجزاء من الكاظمية، والمنصور والحارثية والقادسية، وتقسم أحياء في الكرادة، وتحجب الجسور والجامعات، وغيرها، فهذه حقيقة كارثة غير مسبوقة في التاريخ ولا في العالم»، موضحا إلى أن «هذه الجدران لا تقف في وجه قذائف قنابل الهاون أو الصواريخ، ولن تصمد في وجه السيارات المفخخة بأوزان عالية من المواد المتفجرة، وفي اعتقادي أن أهداف هذه الجدران سياسية ولعزل بناء المدينة عن بعضهم، وهي جزء من الحرب النفسية ضد أهالي بغداد، ولا يخلو الموضوع من أهداف اقتصادية تتعلق بتقديم رشاوى من قبل المستفيدين للنافذين في الحكومة»، منوها في هذا الموضوع بقوله «إذا عرفنا أن سعر قطعة الخراسانة المسلحة الواحدة، التي يبلغ عرضها مترين أو أقل، وارتفاعها ثلاثة أمتار، يبلغ 1200 دولار أميركي، وبعملية حسابية بسيطة سوف ندرك كم هي الأرباح الهائلة المتحققة من جراء تسوير كل العراق بهذه القطع، والأمر لا يخلو من فساد مالي كبير».

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced