جميل بشير عميد الموسيقى العراقية الحديثة
نشر بواسطة: mod1
الإثنين 28-08-2017
 
   
د. حسين الهنداوي - المدى

مر الفن الموسيقي العراقي، منذ نحو أربعة عقود من الزمن، في واحدة من انضب المراحل التي عرفها في تاريخه الطويل على صعيد العطاء النوعي.

وهذا الحال يعكس مفارقة مزدوجة، حيث اقترن حصوله مع تزايد اهتمام الأمم بفن الموسيقى بشكل لم يعرف مثيل له من قبل بينما كان العراق سباقاً قبلئذ في انشاء المعاهد وإغداق الاهتمام بالفنون الموسيقية من جهة، ومع واقع أن هذا الفن كان قد عرف، في النصف الثاني من الستينات الماضية تحديداً، نهوضاً واعداً وأصيلاً تجسد في ظهور حركة تجديد شبه شاملة تظافرت على خلقها جهود نخبة من الملحنين الشباب آنذاك (محمد جواد اموري، طالب القرغولي، كوكب حمزة، كمال السيد والعديد غيرهم) والأصوات الحميمة (حسين نعمة، فاضل عواد، أنوار عبد الوهاب، ياس خضر وسواهم) والنصوص الشعرية الشعبية الجميلة (لا سيما قصائد مظفر النواب ونصوص أخرى لعريان السيد خلف وزهير الدجيلي وطارق ياسين وزامل سعيد فتاح وأبو ضاري بين غيرهم..).

لكن هذه الحركة سرعان ما اجهضت إثر وصول حزب البعث الى السلطة. فقد سارع الى تنفيذ سياسة جديدة سميت بـ «لامكان للحزن في عهد الثورة»، وهدفت منها السلطة البعثية في الواقع الى فرض رقابتها على الفن الموسيقي لاستخدامه في ستراتيجية احكام سيطرتها على المجتمع بعد أن سيطرت على اجهزة الدولة. وهذه السياسة التي ركزت على مصادرة اللحظات الوجدانية للفرد العراقي، تدرجت من جهة التنفيذ على عدّة مراحل. تمثلت الأولى في حظر بث الاغاني «الركيكة» بالفعل. تلا ذلك منع بث الاغاني ذات البعد النقدي كنصوص الفنان الكبير عزيز علي، وحتّى بعض افضل الاغاني الوجدانية التي قد توحي ببعد سياسي (روحي، البنفسج..) ثم جاءت رحلة التركيز على الاناشيد الشعاراتية والأغاني التعبوية وتبعيث الأغنية عموماً وهي عملية بلغت أوجها، في مرحلة لاحقة، في ارغام الفنانين على تلحين الاغاني التي تجمّل فظاظة النظام وفجاجة قائده ورموزه.

وهكذا، عبر هذه المراحل وبفضل تواطؤ جماعات انتهازية تعاونت معها نجحت السلطة في احلال نفسها وبشكل مطلق وسيطاً ورقيباً وقيّماً أوحد على الموسيقى العراقية التي دخلت منذ مطلع السبعينات في فترة مظلمة بكل معنى الكلمة إلا نادراً.. فقد تعرضت علاقة الفنان بالناس، التي هي منهله الأساس في الابداع، الى نوع من القطيعة وبالتالي الى تدهور جمالية وخصب النتاج الموسيقي العراقي الذي تحول في قسمه الأعظم الى مجرد ملحق بإعلام حكومي مبتذل وبليد باستثناء النتاجات النادرة لأولئك الذين اختاروا الانسحاب اضطراراً لحماية كرامتهم الفنية مع كل ما ينطوي عليه ذلك من ألم صامت يشبه النزيف.

بعد انهيار النظام البعثي اثر الاحتلال الامريكي في نيسان 2003، ازداد عداء الدولة للموسيقى وغدا اكثر شراسة وفجاجة. بيد أن سلطتها على الفنانين والجمهور انهارت بحكم انهيار الدولة الفاشية السابقة وحلول دولة المحاصصة الرثة فيما اتجه معظم فناني الموسيقى والغناء الى الهجرة وبالتالي الى نوع من القطيعة مع الهوية الموسيقية العراقية مستبدلين إياها بهوية خليجية أو عربية والى هذا الحد أو ذاك من النجاح.

بمواجهة هذا الحال، كان طبيعياً أن تظل الموسيقى العراقية لفترة ما قبل انقلاب 1968، حاضرة بقوة وبكل عبقها وحميمتها ملاذاً بالنسبة للروح العراقية الجريحة. ولقد عزز ذلك إن تلك الموسيقى كانت قد استفادت من عطاء ظل يتواصل لأكثر من نصف قرن دون قطيعة تقريباً، ومن تراكم لم يكف عن التطور النوعي بفضل المثابرة الطيبة لثلاثة اجيال من الموسيقيين، تشابكت فيما بينها، وقدمت لنا عدداً من الفنانين الخالدين أبرزهم صالح الكويتي من الجيل الأول ومحي الدين حيدر من الجيل الثاني وجميل بشير من الجيل الأخير. لكن واذا كان الأولان قد نجحا فعلاً في بلورة اتجاه خاص بكل منهما، فإن جميل بشير برز كوريث نموذجي الجدارة والوفاء من جهة وكمبدع اصيل من جهة أخرى. من هنا يأتي اجماع النقاد على اعتباره الممثل الاهم للموسيقى العراقية في القرن العشرين أو النصف الثاني منه في الاقل، دون أن يعني هذا قطعاً نسيان الفنانين الآخرين الكبار الذين زامنوه وساهموا بشكل مستقل عنه في بناء مجد هذه الموسيقى ونذكر منهم بوجه خاص رضا علي وعباس جميل وعبد الوهاب بلال وروحي الخماش وسالم حسين وسلمان شكر وناظم نعيم وسمير بغدادي وسواهم..

ولد جميل بشير في عام 1921 في مدينة الموصل الحدباء. ومنذ طفولته وحتى وفاته في لندن في 27 ايلول 1977 ظلت الموسيقى بمثابة مبرر وجوده الأساسي. تتلمذ في البداية على يد والده الذي كان صانعاً ماهراً لألة العود وعازفاً مبدعاً تعرفه الموصل التي كانت مركزاً رئيساً للموسيقى في الشرق الاوسط. اذ كانت ساحة لقاء وتفاعل بين الموسيقى العراقية وتيارات واساليب الموسيقى التركية والعربية والكردية والايرانية. وعندما غادر جميل بشير مدينته للدراسة في بغداد كان قد غادرها عازفاً ماهراً اصلاً. لكن انتقاله الى العاصمة العراقية لعب دوراً حاسماً في تطوره الكبير اللاحق. فقد تعلم الكثير من الدراسة في معهد الفنون الجميلة ببغداد واستفاد بشكل واضح من أستاذه الموسيقار الشريف محي الدين حيدر مؤسس ومدير المعهد، وظل يحفظ له اعترافاً بالفضل حتى عندما اصبح جميل بشير الموسيقار العراقي الأكثر شهرة، وعبّر عن امتنانه هذا من خلال نشره عدة تآليف موسيقية مجهولة لأستاذه، الذي بلور لديه نزوع المغامرة مع الالحان الصعبة والحرص على ايلاء الجانب التقني والعلمي اهمية خاصة في العزف كما أخذ عنه ضرورة تدوين النوتات الموسيقية لكل ما يقع بين يديه من ألحان تراثية اضافة الى ألحانه المبتكرة. وكان هذا الجانب يقصى عادة من حساب الموسيقين العراقيين قبلئذ بسبب غرابته أو صعوبته.

وفي معهد الفنون الجميلة أيضاً استفاد جميل بشير كثيراً من الموسيقار التركي الكبير مسعود جميل الذي عمل لزمن في المعهد رئيساً لفرع الموسيقى، وظل كتاب «سماعي هماوند» الذي ألفه مرجعاً ثميناً لجيل من الموسيقيين العراقيين. فقد درس جميل بشير ست سنوات في معهد الفنون الجميلة. إلا أن شهرته الموسيقية لم تنتظر تخرجه من المعهد إنما ذاعت بين الناس وهو طالب بعد. ومن الطريف أن نشير هنا الى ما كتبه الشاعر السوري فخري البارودي عندما زار بغداد في 1943 حيث يذكر بأنه حضر امسية موسيقية تكريماً له أقامها طلاب معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعندما سمع عزفهم اثار اعجابه بشكل خاص طالب في الصف السادس يدعى جميل بشير قدم معزوفة اسمها «سماعي ديوان» أثارت دهشته لجمالها وعمق ادائها الى درجة أن البارودي وقف بعد العزف وارتجل أبياتاً من الشعر تكريماً للطالب جاء في مطلعها:

جميل بشير انك سوف تغدو        بشير الانس بالفن الجميل

قليل في البلاد إذا عددنا

عباقرة الفنون بكل جيل

وبغض النظر عن بساطة هذا الشعر، فإن ما توقعه البارودي حصل بالفعل. فبعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة عمل جميل بشير مراقباً للأناشيد المدرسية في وزارة المعارف. وبصفته هذه قام بوضع عشرات الألحان المخصصة للأطفال والتلاميذ ما لبثت إن عممت على مدارس البلاد وانتشرت بسرعة لما تتميز به من اصالة موسيقية وروحية جديدة. وقد جمعها مع النوته فيما بعد ونشرها في كتاب بعنوان «مجموعة اناشيد المدرسة الحديثة»، صدر في 1949 عن مطبعة التفيض ببغداد. بموازاة ذلك واصل جميل بشير التألق في العزف على العود والكمان (وعلى البيانو فيما بعد). وحينما جرى تأسيس الفرقة الموسيقية العراقية الجديدة في العام 1948 اختير ليكون أهم عناصر هذه الفرقة التي ضمّت أيضاً خضر الياس، عازف الناي الكبير، وعدداً من العازفين الآخرين. وقد سمحت له تجربته الطويلة في الفرقة بتطوير مهارة الارتجال الموسيقي لديه واهلته للقيادة الموسيقية حيث كان يضطلع بنفسه بوضع نوتات الالحان التي تؤديها الفرقة ويحرص على تدريب زملائه على تنفيذها بدقة بعد أن كان يقوم بتحفيظها لمن لا يجيدون قراءة النوتة منهم، كما سمحت له بتعميق معرفته بالتراث الموسيقي العراقي ليصبح أحد ابرز الذين ساهموا في حمايته من الضياع وتطويره، اذ قام بتدوين أصعب الألحان القديمة لاسيما في مجال المقامات، من بينها مقام الراست الذي دونه من أوله الى آخره وقدمه لأول مرة انطلاقاً من النوتة المدونة في احدى حفلات معهد الفنون في أواخر الخمسينات.

ومن جانب آخر عمل جميل بشير على اضافة مقدمات موسيقية من تأليفه لعدد كبير من الاغاني الشعبية لتغدو اليوم جزءاً لا يتجزأ منها. كما رفد الموسيقى العراقية بعدد من الألحان الجديدة والمبتكرة والمحافظة في نفس الوقت على الطابع العراقي. والى جانب دوره في الفرقة وفي مجال الانتاج الموسيقي، عمل جميل بشير استاذاً للموسيقى، ولتدريس العود خاصة، في معهد الفنون الجميلة طوال فترة تجاوزت العشرين عاماً ساهم خلالها في تدريب وتكوين نخبة من الموسيقيين الذين لمعوا فيما بعد. وكتب عدداً من البحوث والدراسات الموسيقية التطبيقية اشهرها كتاب بجزئين عنوانه «العود وطريقة تدريسه» نشره في عام 1961 وضمنه العديد من نوتات المقامات العراقية ومازال لغاية الآن من بين اهم المراجع في هذا الصدد. ولقد تفرغ جميل بشير في العقد الاخير من حياته الى الكتابة الموسيقية في بيته الذي حوله الى «ورشة عمل» لتسجيل الاغاني العراقية.

 الورقة التي قدمها الكاتب في مهرجان الموصل بلندن

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced