تعتبر الحال الصحية التي تسبق ظهور المرض فترة مثالية للتدخل الطبي ومنع الإصابة بالمرض أو الوقاية منه فعلياً. ومن المهم جداً الانتباه إلى هذه المرحلة الفارقة لأنها تؤثر في شكل جذري في الملف الصحي للشخص المعرّض للمرض وتمنحه فرصة ذهبية للهرب منه قبل أن يحل ضيفاً ثقيلاً عليه.
تشهد مرحلة ما قبل المرض تغيرات بطيئة في خلايا الجسم ربما تمتد على مدى سنوات قبل أن تظهر العوارض السريرية التي تؤكد وجود المرض، لذا فإن اكتشاف هذه المرحلة يعطي أملاً كبيراً في جعل مسار الداء يصب لمصلحة المريض لا لمصلحة الداء. وكي نفهم تماماً ماهية مرحلة ما قبل المرض نسوق هنا عدداً من الأمثلة التي تبين المقصود من هذه العبارة:
- مرحلة ما قبل ارتفاع ضغط الدم، معظمنا سمع بالرقمين 150 ميلليمتراً زئبقياً و90 ميلليمتراً زئبقياً. فهذا الرقمان يشيران إلى الحد الفاصل الذي يقال عنده أن الشخص مصاب أو غير مصاب بارتفاع ضغط الدم. إذا وصل رقم الضغط الانقباضي إلى 150 أو أكثر، أو إذا بلغ الرقم الانبساطي 90 أو أكثر، وإذا كان الرقمان مرتفعين سوية فعندها يكون الشخص يعاني ارتفاعاً في ضغط الدم، ما يستدعي العلاج تفادياً للمشاكل الصحية وهي كثيرة، مثل مرض الشريان التاجي، والداء السكري، ومرض الكلى المزمن وغيرها.
لكن ماذا إذا كانت أرقام الضغط في المنطقة الرمادية؟ أي أعلى من الحدود الطبيعية (120 إلى 80) لكنها لا تتجاوز الرقمين المشار إليهما أعلاه؟
تشير المعطيات الطبية إلى أن شخصاً واحداً من أصل ثلاثة تقع أرقام الضغط عندهم في المنطقة الرمادية لكن لا يتم اتخاذ قرار العلاج بالأدوية إلا إذا كانت هناك متاعب صحية تشكل خطراً على الحياة. وهناك توجهات طبية باعتبار أرقام الضغط الواقعة في المنطقة الرمادية بأنها مرحلة ما قبل ارتفاع الضغط وأنه من الضروري جداً إحداث تغييرات في أسلوب الحياة من أجل منع ارتفاع الضغط الحقيقي.
ويتضمن أسلوب الحياة الصحي، في مرحلة ما قبل ارتفاع ضغط الدم، الحصول على الوزن المثالي، وتخفيف استعمال الملح أكلاً وطبخاً، والابتعاد قدر الإمكان عن المأكولات الجاهزة الغنية بالصوديوم، والإقلاع عن التدخين، والسير على هدى حميات غذائية أثبتت جدارتها في السيطرة على أرقام ضغط الدم، ومن أشهرها حمية داش وحمية البحر الأبيض المتوسط.
- مرحلة ما قبل الداء السكري النوع الثاني، عندما يتأرجح مستوى السكر فــــي الدم ما بين الحد الطبيعي وبين نسبة أعلى قليلاً لا تسمح بتشخيص الإصابة في شكل صريح، فإن هناك شكوكاً قوية باحتمال الإصابة قريباً بمرض السكري.
إن مرحلة ما قبل السكري هي مرحلة صامتة تمر من دون عوارض يشكو منها المصاب، وهي ستقود إلى مرض الداء السكري النوع الثاني وما ينطوي عليه من اختلاطات تطاول القلب والشرايين والدماغ والعين والكلى والعيون، من هنا يجب التدخل في مرحلة ما قبل السكري من أجل تأخير أو حتى منع حدوث مرض السكري الصريح وما يحمله من مضاعفات.
ويمكن التعرّف إلى وجود مرحلة ما قبل السكري بعد قياس مستوى السكر الصباحي على الريق، أو بعد إجراء اختبار تحمّل السكر النهاري بعد صيام ليلة طويلة، أو عقب القيام باختبار تحمّل السكر إثر تناول وجبة طعامية غنية بالنشويات. وإذا أثبتت النتائج أن مستوى السكر في الدم أعلى من حد معين يوصي الطبيب باتباع برنامج صحي يهدف إلى إرجاع مستوى السكر في الدم إلى حدوده الطبيعية لقطع الطريق على المرض الصريح وللوقاية من اختلاطاته الفعلية من خلال تخفيف الوزن، وممارسة نشاط رياضي يومي لمدة 30 دقيقة، وتناول وجبات صحية من الطعام، فهذه النصائح البسيطة تساهم بدرجة كبيرة في منع الإصابة بمرض السكري.
- مرحلة ما قبل سرطان القولون والمستقيم، إن غالبية حالات الإصابة بسرطان القولون والمستقيم تبدأ بنشوء لحميات ورمية غدية تحتاج إلى مدة طويلة قبل أن تنتهي بالإصابة بالسرطان، وفي كثير من الحالات تكون هناك أرضية وراثية لنشوء اللحميات الغدية.
إن اكتشاف اللحميات الغدية في القولون والمستقيم بصورة مبكرة ومن ثم العمل على استئصالها يعتبر خطوة في غاية الأهمية من أجل منع تحوّلها إلى ورم خبيث يعيث فساداً في الجسم. إن ظهور الدم في البراز، ووجود سوابق عائلية بالإصابة بسرطان القولون والمستقيم، والمتابعة الدورية، خصوصاً الفحص بالمنظار، تساعد جداً في كشف مرحلة ما قبل الإصابة بسرطان القولون.
ختاماً، إن اكتشاف مرحلة ما قبل المرض تشكل تحدياً طبياً كبيراً، لكنها تمثل استراتيجية مهمة جداً لقطع الطريق على المرض أو على الأقل تأخير استحقاق وقوعه، وتكون هذه المرحلة قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأمد في أمراض أخرى، ولعل الأهم في كل هذا هو رصدها قبل فوات الأوان.