البنغلادشي سعد حسين يروي أسراراً من جحيم بغداد
نشر بواسطة: iwladmins
الأحد 26-11-2017
 
   
باريس - أنطوان جوكي - الحياة

حين صدرت رواية الكاتب البنغلادشي سعد حسين، «الهروب من بغداد»، في لوس أنجليس قبل عامين، لم يتوقف أي من النقاد العرب عندها. لكن ترجمتها الفرنسية الصادرة حديثاً عن دار «أغولو» الباريسية ستتيح أمامها المجال لأن تقرأ، خصوصاً أن قارئها سيجد نفسه أمام تجربة روائية فريدة من نوعها سواء بقصّتها الغنية بالحوادث والتطوّرات المشوّقة، أو بطريقة سردها المشبعة بالفكاهة السوداء، أو بالرسائل الكثيرة المسيَّرة فيها والمعطيات التاريخية والعلمية والباطنية المثيرة التي تثري حبكتها المُحكَمة.

لتلخيص القصة التي يرويها حسين في هذه الرواية الضخمة (400 صفحة)، لا بد من التوقف أولاً عند تاريخَين: 1258، أي العام الذي اجتاح المغول فيه بغداد وقتلوا معظم أبنائها ودمّروا مكتباتها وجامعاتها، ما وضع حداً لعصر الخيميائيين الذهبي فيها ودفع بكثير من علمائها إلى الانتحار غرقاً في نهر دجلة؛ و2003، أي العام الذي لعب الأميركيون فيه دور المغول الجدد بغزوهم بغداد وتحويلها من جديد إلى حطام.

وفي قلب هذا الحطام، نتعرّف إلى دغر، وهو أستاذ سابق لمادة الرياضيات تأقلم مع متطلبات الحياة في أتون الحرب، وإلى صديقه كينزة الذي ترعرع في الشارع قبل اندلاع هذه الحرب. ثنائي فريد من نوعه إذاً ينشط بين الجثث والمعارك في بيع الأدوية المسروقة والمخدرات والأسلحة لمن يملك الإمكانات المادية لشرائها، أياً كان انتماؤه. دغر فقد زوجته وابنته الصغيرة أمام عينيه، إثر وقوع قذيفة عليهما حوّلتهما إلى أشلاء. كينزة هو غضبٌ كاسحٌ يسير على قدمين. في مطلع الرواية، نراهما يتناقشان في مصير الكولونيل حميد، وهو جلاد شهير خلال حكم صدام حسين، بعدما وقع في قبضتهما. وبين رغبة كينزة في قتله فوراً ورفض دغر التماثل بالسلوك السابق لرهينتهما، يعرض حميد عليهما الإبقاء على حياته ومساعدته على بلوغ الموصل مقابل أن يكشف لهما المكان الذي خبّأ طارق عزيز فيه ثروته، فيقبلان عرضه.

جميع الأطراف المتصارعة في بغداد تريد وضع يدها على حميد: القيادة العسكرية الأميركية، «جيش المهدي»، أجهزة استخبارات الدولة التي يتحكّم بها في السرّ رجل تحوّل إلى أسطورة في فنّ التواري، ويتبيّن لاحقاً أنه العالم والفيلسوف ابن سينا، من دون أن ننسى الإمام الدموي والذهاني، حسن سلامي، المصمم على الانتقام لابنه الذي قتله كينزة. لكن الخروج من بغداد ليس مسألة سهلة، حتى بمساعدة الجندي الأميركي هوفمان الذي يبدو أبلهَ في ظاهره، لكنه يملك التصاريح والأموال والعلاقات الضرورية للتنقل والتصرّف كما يشاء داخل المدينة. فبغداد في حالة حصار والميليشيات والقوات الأميركية والقتلة المأجورون يتصارعون داخلها محوّلين إياها إلى سديمٍ قاتل لا يوفّر أحداً.

وحين يتورّط الثلاثي دغر وكينزة وحميد في ملاحقة رجلٍ غامض يملك قوة مذهلة ويبدو، على رغم لحيته البيضاء، شاباً خرج تواً من حديقة عدن، يرمي بحثهم المجنون بهم في إعصارٍ من العنف لم يتوقّعوه، لجهلهم أن هذا الرجل يقود صراعاً عمره أكثر من ألف عام ومصدره أسطورة درزية قديمة أسرارها مخبّأة بين عجلات ساعة غريبة لا تحدِّد الزمن. لكن لا مفاجأة في هذا الإعصار، ففي زمنٍ يحوم شبح الموت فيه بحرّية في كل مكان، مَن لا يرغب في وضع يده على سرّ الخلود الذي يبدو أن هذا الرجل ينعم به، تماماً مثل عدوّه اللدود ابن سينا؟

ولسبر غور هذا السر وكشف مَن يقف خلفه، يعود بنا حسين في روايته إلى القرن الثامن، وإلى المنطقة الجغرافية نفسها، لتسليط الضوء على أحد أكبر المشاريع العلمية في تاريخ البشرية وأكثرها جنوناً وإثارةً، ونقصد البحث الذي قاده العالم والخيميائي الشهير جابر بن حيان (721 - 815) تحت عنوان «التكوين» وهدف إلى ليس أقل من اكتشاف إكسير الحياة. بحث شغل الخيميائيين منذ مصر القديمة ويستعين الكاتب بمعطياته الحقيقية والخرافية لإثراء حبكته الروائية، مستحضراً في هذا السياق نشاط بعض الجمعيات الباطنية والصوفية للمحافظة على أسراره، وكاشفاً تورّط أجهزة حكومية سرّية ومخابراتية في متابعته، ورابطاً بالتالي أبرز الحروب والصراعات الدموية التي عرفها تاريخنا به، وآخرها الحرب الأخيرة التي دارت في العراق.

بين خرافة علمية وكوميديا سوداء ورواية مغامرات، يحبك حسين رواية مدهشة تقارع بجنون قصّتها سيناريوات أفلام كوينتين تارانتينو أو الأخوين كوهين، وتشكّل بالتالي ركيزة مثالية لكشف أهوال الحرب على العراق ونقد عبثيّتها التي تتجلى بطرائق مختلفة لعل أبرزها متابعتنا بحث الجيش الأميركي الدؤوب فيها عن أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها. ولخطّها، استعان الكاتب بنبرة فكاهية قارصة تسمح بأفضل طريقة ممكنة بفضح شذوذ نظامٍ ديكتاتوري سينهار بسرعة على وقع مواجهات عسكرية عنيفة ومتعاقبة مصوَّرة في الرواية بواقعية شديدة.

وبفضل الجهد التوثيقي الواضح الذي استبق فعل الكتابة، ينجح حسين أيضاً في وصف عن قرب مختلف الميليشيات والمجموعات المسلحة التي كانت تحتل بغداد إثر سقوط صدام حسين، مسلّطاً الضوء في طريقه على متاهة شوارعها وأزقتها التي تبدو في تشابكها وتفرّعاتها كبيت عنكبوت يحاصر جميع شخصيات الرواية. وسواء كانت عراقية أو أميركية، تتقابل هذه الشخصيات وتتعارك بوتيرة تمنح عملية السرد إيقاعاً سريعاً يخطف الأنفاس. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يستحضر الكاتب أيضاً، على خلفية تصويره جحيم بغداد خلال الحرب، جميع الجوانب الثقافية والباطنية التي تخفيها آثار هذه المدينة القديمة، من طريق توظيفه الحاذق الأسطورةَ الدرزية في قصّته.

باختصار، رواية تغوص بنا في مناخٍ محموم وشديد التوتّر نتآلف داخله قدر الإمكان مع أقدار شخصيات غنيّة بالألوان تحمل في داخلها تناقضات المكان الذي تعيش فيه، وتنسج، للبقاء على قيد الحياة، تحالفات «سوريالية» متحرّكة تتحدّى المنطق. ولا عجب في ذلك، فالسردية ذاتها تفتقد أي عقلانية وترتكز على مبالغات كثيرة متعمَّدة. وفي هذا السياق، تتجاور الانفعالات القصوى مع الدعابة القارصة داخلها، وتنبثق التأملات الفلسفية من قلب المعارك والظروف الأكثر جنوناً.

وباستثماره إلى أقصى حد مهاراته السردية الجليّة ومخيّلته الجموح والمعجونة بالعلوم والأساطير، يتمكّن حسين من تشييد صرحٍ روائي فريد من نوعه يسمح له بتسيير رسائل كثيرة في نصّه، لعل أبرزها أن الإنسان هو كائن يتعذّر السيطرة عليه ولجم غريزتَي الحياة والموت فيه، كما يتجلى ذلك في سلوك جميع شخصيات «الهروب من بغداد»، خصوصاً كينزة ودغر اللذين لن يحول إدراكهما عدم إمكانية الخروج حيّين من هذه المدينة»، من العيش على هواهما والمحافظة على إرادتهما الحرة بقوة الجنون الذي يتحليان به.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكاتب الذي لن يمنعه إمعانه في تصوير العنف القاتل، من الهزل على طول الرواية، من منطلق أن الضحك لم يقتل يوماً أحداً، حتى لو كان اليأس مصدره.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced