خواطر عن الفن التشكيلي والحرب
نشر بواسطة: mod1
الإثنين 23-04-2018
 
   
علي النجار - المدى

(إننا «لا نستطيع أن نتخيل كم أن الحرب مخيفة ومرعبة، وكيف تصبح شيئًا عاديًّا. لا يمكننا أن نفهم، لا نستطيع التخيُّل.)

«سوزان سونتاغ»

فعلا لا نستطيع أن نتخيل، فقد عشناها زمن الحرب العراقية الإيرانية لثمانية أعوام مراوغة. كان خلالها القتل المجاني على امتداد خطوط الجبهة على قدم وساق، وكانت الحياة المدنية التي بدت على منأى من كل ذلك، إلا في فترات معينة تسير عجلتها أو عطالتها، وكأن شيئا لم يكن، سوى علامات الحزن السوداء التي تعمر كل زقاق من أزقتها. حيث كان الموت جملة وتقسيطاً يمر عبر طقوسها، أو حتى بدونها أحياناً لمجانيته. كان للموت أيضاً أثمانه المادية التي تكفلت الدولة بدفعها بضاعة ونقدا. ثمانية أعوام، ثماني مرارات كبرى عامة تركت ندوبها على الجسد العراقي، ولا تزال آثارها شاخصة.

على مستوى الفن، كانت حرب الثمانية أعوام حربا صوتية بامتياز للحد الذي اضطرت فيه الدولة لاستحداث مديرية عامة في وزارة الثقافة أطلق عليها أسم(مديرية الأغنية الجماهيرية) أدارها ملحن عراقي معروف في الوسط الجماهيري، أو عرف لاحقاً. أصوات عالية نبرتها متحولة من مارش الحرب الى الأهزوجة بمفرداتها الشعبية وايقاعاتها الارتجالية المعروفة منها والمدوزنة. كان الصوت دوياً هو الذي طغى على أيام أعوام المعركة.

ضمن هذا الإيقاع الصاخب، لم يكن للفن التشكيلي من نصيب مؤثر يذكر. فقد كانت للصورة الفوتوغرافية ولمصوري مراسلي الجبهة الحربية الذين يلتقطوا سقط متاع المعارك حضور قوي، طغى على ما عداه. كيف لا وقد كانت تتساقط فوق رؤوسنا هبات فواجعها كل ليلة، أشلاء معروضة على الشاشة الصغيرة لدمار الروح والذات. وكان معظم الفنانين التشكيليين جنوداً، إن لم يجندوا للتوجيه العسكري حيث المساحة جاهزة لصور الرئيس وانتصاراته، آلة حربية مضافة. وحتى في المعارض السنوية المخصصة للمعركة، لم تكن هناك معركة، كما عرفناها في الفن التشكيلي الأوروبي(مثلاً) أثناء الحرب الكونية الأولى أو الثانية ضمن كلا المعسكرين. فما هي العلة يا ترى!.

لم يخلو التشكيلي العراقي من شواهد لمأساة الحرب. وان كان ثمة شاهدة، وكانت للفنان المرحوم(كاظم حيدر) أمتعض منها صدام حسين وهو يفتتح مركز الفنون الجديد. لقد صدم الرئيس بمنظر هياكل ما تبقى من القتلى، بالوقت الذي كان فيه ينتظر تمجيد الانتصار قبل أوانه، وليس اشهار ضحاياه. ليتم إزالة هذا العمل، وليكن توجيها أيديولوجيا عن الحرب المفترضة وليست الواقعية. بعيدا عن كاظم حيدر، وقبل هذه الواقعة، كانت الأيدولوجيا حاضرة في حرب(محمود صبري) وبعض من مجايليه. لكنها تبقى تجارب فردية، لم تأخذ مداها في أعمال تشكيليين آخرين، الا ما ندر.

يحضرني هنا عمل المرحوم(شاكر حسن ال سعيد) عن معركة الفاو. فهل كان العمل، وهو هرم انشائي محبوك بمفردات الفنان نفسها التي اشتغلها في أعماله الحروفية الأخرى. لقد استعاض آل سعيد بالعلامة المدونة والمحفورة والمعفرة على حيطان المدينة، عن الجسد والروح. وكان مثالاً لغيره من الأصغر عمراً والأقل تجربة في ذلك. لكن لم يكن تأثيره الا حفراً لأعوام سابقة في تربة مراوغة. ولتترحل علامات الحرب القاسية وخسائرها النفسية المبرحة من علامات الجسد الإنساني الى شواهد ثانوية أقل عنفاً وتعبيراً، وليخسر التشكيل العراقي أرشيفا صورياً فنياً كما(التعبيرية الألمانية)، أو أعمال الإنكليزي(هنري مور) عن ملاجئ الحرب مثلا. ولتبقى شواهدنا التشكيلية لتلك الفترة الزمنية شواخص بحاجة الى فك الغازها.

ماذا فعلت الدولة، كان لنا نصب في باب المعظم لأكداس من الجند والأسلحة. وكان لنا مجموعة تماثيل لعساكر قتلوا في الحرب رافعين أياديهم بحركة إدانة باتجاه الجانب الآخر من شط العرب، و(المجد والخلود للشهداء المختارين)، لكن ما هي ثمرة الشهادة ونتائجها. أعتقد هنا تكمن عقدة السؤال الذي أعاق الكثير من الجهد الإبداعي للتعبير عن عمق المأساة التي تجرعناها بالتقسيط على مدى ثمانية أعوام حفرت في التاريخ العراقي عميقاً في نتائجها الكارثية اللاحقة.

تذكرني هذه الحرب الطويلة الأمد بخط (ماجينو) الدفاعي الفرنسي الذي لم يصمد أمام الزحف الألماني في الحرب الثانية. وكان لنا أكثر من خط ماجينو، لكنها لم تمنع من زهق أرواح أناسنا الجنود ومن جندوا معهم. كما لم تحمي الخطوط الإيرانية بالجانب الاخر أرواحهم أيضاً. من كل قصص خطوط السواتر هذه، لم يبق إلا النزر اليسير، وذهبت فواجعها أدراج الرياح بدون أن نشاهد أي عمل تشكيلي يشير اليها. لم تكن تقنيات الفوتو شوب موجودة بعد. لكنها كانت في( أم المعارك) والمعارك اللاحقة. وحيث(توني بلير) فرحاً وهو يلتقط(سلفي) لما احدثته طائراتهم من زوابع في بغداد. ولتدخل هوليود على الخط بأفعالها الفنية غير البريئة أيضاً. فان كانت لدينا(صور من المعركة). فقد استحدثوا معاركهم على مقاسهم، بدل المعارك، أو الغزوات الحقيقية. إنه الفن والوثيقة والخيال مجتمعاً. سلاح ذو حدين.

حينما يمتلك المستثمر العالمي بئراً نفطية، يبني جنبه "بنكاً". بالوقت الذي حينما يمتلك فيه الحاكم العربي حقلا نفطياً هو الآخر، يشتري سلاحا. نحن بأيديوجيتنا العروبية كنا معبأين بشتى الأسلحة الفائضة التي وجدت لها عبر الحدود متنفساً ولنسلم مقاليد حقولنا النفطية لمن كان متربصاً بها من داخل وخارج البلد. ولم يكن الإعلام العالمي غائباً عن حقل أو برميل النفط مطلقا. لقد قتلتنا حقولنا النفطية ما مستثمر منها وما هو في طريقه للاستثمار. والغريب أن معظم الألوان التي يرسم بها الفنان هي من مشتقات النفط نفسه. لكن أين كل ذلك من مساحة التشكيل العراقي.

في كل الحروب تنشط الدعاية والدعاية المضادة والتحشيد بالمنشورات ومنها البوسترات المرسومة والمصورة. فهل كانت مثل هذه الوسيلة الفنية حاضرة هنا. ما عدى الصراخ المجاني والدعاوى العنصرية، ومنها انتاج فلم القادسية، لم تكن حربنا مع إيران رغم مصادرتها لحياة نصف مليون من البشر، كما طبيعة حروب الحدود أو الحروب العالمية. لقد كانت حربا مفتعلة وحسب، وكل ما صاحبها، اعتقدها أفعالا مفتعلة لا أكثر. لذلك لم تخلف وثائق فنية تشكيلية مهمة، ما عدى بعض الأعمال السريالية. التي تحتوي تلميحاً باهتاً لفعل الحرب ونتائجه. والسريالية، كما تاريخها هي أيضا من أفعال الحرب الغامضة.

أعتقد أنه كان للحصار الأممي دور تخريبي مواز لدور ايديولوجيا الدولة القامعة. فقد جرد الفنان التشكيلي من رزقه، مثلما جرده من مواد الرسم. وكان القمع هنا ناعماً. مندسّاً ما بين هم إيجاد وسيلة للعيش، وهم التعبير عن خسارته المعنوية كفاعل جمالي ومؤرخ فن لمرحلة من أحرج المراحل التي يمر بها بلده وأعسرها. وكانت الهجرة الاضطرارية هروبا من حالة الذهول التي أصابت مجتمعاً بكامله، فكيف بالضلع الأضعف منه، الفنان والمثقف برأسمالهم الافتراضي ونوايا أفعالهم الجمالية. لقد أفرغ الحصار الأغرب في التاريخ المعاصر النفوس من طموحها المشروع، لينبت حالة اليأس وانسداد الأفق. وما أنتج من أعمال تشكيلية كانت غالبيتها للكسب المادي بمستوياته الأدنى، حتى في هجراتهم الموقتة أو الدائمة في عاصمة الأردن(عمان) التي كانت المنفذ الأقرب للهروب، ويكاد الوحيد، كانت الكثير من الأعمال التشكيلية المهمة تتسرب من قبل أشخاص معروفين تجارة رابحة لا أكثر، وحد أدنى لعيش الفنان. للحد الذي تسرب فيه نتاج أهم تشكيلينا لمجموعات شخصية ومتاحف عربية معروفة. بل جرى أيضا تهريب بعض الأعمال المتحفية الرسمية ضمن ضرف الفوضى والاستباحة المهينة التي أهينت فيها رموز الثقافة والفن بمجانية لا مثيل لها، وحتى قبل سرقة وتدمير محتويات مركز الفنون.

هل ثمة سعادة في الحرب، غير السعادة الموهومة بالتضحية، ولمن. والتضحية وهي مفردة مراوغة يتداولها كلا الخصمين. فان كانت السعادة أرواحا رحلت للسماء، فمن بتبعاتها الدنوية. إن أصبح الانسان مشروع تنمية في الدول التي تعطي للتنمية البشرية حقها. فهو وضمن مهاترات الإيديولوجيا القبلية وقادتها الأميين مشروع للفناء(التضحية، أو بالأصح الأضاحي) لا أكثر، ولا يهم النتائج. وها هي النتائج تطيح بنا الى آخر السلم الحضاري. وليصبح الحديث عن الثقافة والفن التشكيلي أثناء فترة احتلال الكويت، حديث خرافة لا أكثر.

ضمن مفهوم الفوضى الخلاقة، وبعد فعلتها في حروب الخليج. كان يبدو أن الكل خلاقين. ما دامت الوسائل متوفرة، والرعاة أحيانا متوفرون. وكانت الحرب ساحة تشكيلية تديرها جهات، هي أصلا كانت مساهمة فيها بشكل من الأشكال. كانت لندن جاهزة، وبعض دول الخليج. وكأن الحرب والحصار كان مشروعا جاهزاً للعرض والطلب. نعم كانت الأعمال غالباً بمستوى الحدث، لكن من وظفها، ولمن. وهل هي مجرد وثائق فنية تسجل لمرحلة عاصفة. وأين بغداد وهي مركز الحدث من كل ذلك. لقد أوكلنا أمورنا لرعاة من خارج البلد، وعند الطلب. وتبعثر حتى نتاجنا التشكيلي المهم بين عواصم اشتغلت بكل جهدها لضمه الى خزائنها المتحفية. ليفتقر المتحف التشكيلي العراقي لحده الأدنى، بالوقت الذي كان فيه يوماً متحفاً مهماً. ولتبقى مقاطعة التشكيلي العراقي المغترب لمؤسسته علامة أو لغزاً فارقاً ولا في النية اجلاء غموضه، أو إيجاد حل له، ما دامت السياسة العامة للدولة الجديدة، لا تحمل من الجدّة ولا فقه الفن شيئاً.

بعد انهيار الدكتاتورية الدراماتيكي وانتهاء سلطتها الرقابية، أعتقد من هنا بدأ اكتشاف التعبيرية الفنية كأسلوب مناسب للعديد من التشكيليين العراقيين الذين لم يخوضوا غمارها سابقا. للحد الذي حاول بعض ممن تأثروا بأداءات شاكر حسن الحروفية والمحيطية(كما نعتها) وهي اسلبه تجريدية. خوض غمارها أحيانا. فمقابل حالات التفجير والاغتيالات وانهيار البنية التحتية لبلد كان مرشح لنهضة عمرانية ان للم نقل ثقافية. أمام موجة هائلة من العنف الدموي، لم تعد الحروفية والتجريدية الاشاراتية نافعة للتعبير عن كل ذلك. ليبدأ موسم تشريح الجسد فنيا للعثور على منابع التعبير بكل فجاجتها البدائية. ولم يكن الأمر مقتصرا على التشكيليين العراقيين، بل تعداهم لنتاج العديد من التشكيليين السوريين، بعد ما جرى لسوريا ما جرى. لقد تعدت الأداءات العمل المسندي الى الأداء الجسدي والأعمال التنصيبية والفيديو آرت. وأصبح للتشكيليين العراقيين مساهامتهم المعاصرة المنوه عنها في عدد من المحافل الفنية العربية والعالمية. فان كانت الدولة هي الراعية الوحيدة سابقا، الفنان الآن بات هو المسوق لعمله وبالتعاون غالباً مع جهات متعددة داعمة. وإن لم يكن الأمر هيناً.

موجة أو عاصفة السيارات المفجرة التي ضربت بغداد ومدن العراق الأخرى في فترة ما بعد الاحتلال والى الآن، أين شواهدها الفنية، آثارها النصبية، لا شيء. بالوقت الذي ينصب فنان تشكيلي سوري مجموعة منها أمام بوابة برلين. أو يأخذ الإنكليزي(جيرمي ) أنقاض أحداها(التي ضربت شارع المكتبات، المتنبي) في جولة استعراضية في قاعات عرض الولايات المتحدة، ولتستقر في نهايتها في المتحف الحربي في لندن. في مقترح لي لوزارة الثقافة(نشر في جريدة المدى البغدادية) قبل أعوام، نوهت واقترحت الى أن تصار فعالية نصبية متكاملة من حطام بعض هذه السيارات أمام وزارة الثقافة، وتفاصيل عرض أخرى. لكن من يسمع ومن يستوعب ومن ينفذ. فنحن أساتذة الضياع.

أخيراً إننا نحتاج الى موسوعة لاحتواء تفاصيل تداعيات الحروب والحصار الأممي على الثقافة والفن التشكيلي العراقي. وهل يوجد فن تشكيلي عراقي متكامل، بعد كل هذه الهجرات وتشتت الفعل التشكيلي للفنانين العراقيين عبر دول العالم، بمستوياته المتعددة. وهل ما تبقى في العراق من هذا الإنتاج من الممكن أن يمثل منجز التشكيل الحالي الأفضل، وحتى الماضي بعد فقدان الكثير منه. من لنا بجمع شتات التشكيليين العراقيين المغتربين، ولو مختارات من أعمالهم. ومن لنا بإعادة مؤسسة مهنية وفاعلة للم شمل التشكيل العراقي بأفضل نتاجه ونتائجه. سؤال سوف يبقى عالقاً لزمن لا ندري ما هو مداه.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced