العنوان وطرفا (المعادلة) التقليدية
يبدو فيصل لعيبي وكأنه على قناعة راسخة بأنه قد أتمَّ اكتشاف قارته الجديدة؛ فلم تعد تلزمه إلا بعض الإزاحات البسيطة التي تتيح له بعد انجازها ان يقيم معرضا جديدا في كل مرة، مكتفيا بالإضافات الأسلوبية التي يجريها في كل معرض يقيمه، وبشكل لا يمس جوهر أسلوبه في الرسم حيث قضى سنوات طويلة في تشكيله وترسيخه وهو ما فعله في معرضه الأخير الذي أقامه في قاعة الأورفلي بعمان (20 أيار - 3 حزيران 2009)، فما زالت تهيمن على تجربة فيصل لعيبي، ومنذ بواكيرها، ذات المهيمنة التي كانت تهيمن على أطروحات جماعة بغداد للفن الحديث، فجاء عنوان (كلاسيك عراقي) منسجما مع عناوين معارضه السابقة ليشكل مزاوجة بين:
كلاسيك. ...
أولا، (كلاسيك) باعتباره نمط الفن الممكن، او الأقدر على التعبير عن الروح المحلية وهو مقترح اقترحه رسامون واقعيون متأثرون بتجربة الرسم السوفيتية، وفن الجاريات المكسيكي، ومنهم: عفيفة لعيبي، وماهود احمد، ومحمد عارف، ووسماء الأغا إضافة إلى فيصل لعيبي، وقد قدم هؤلاء مقترحهم كما قدم الآخرون: الانطباعيون الذين خرجوا من معطف فائق حسن فاعتبروا ان رسم المناظر الخلوية عن الطبيعة العراقية وهو ما كرسته الجماعة البدائية او جماعة الرواد هو روح التعبير المحلي، بينما اقترح (الفولكلوريون) الذين كانت الروح المحلية بالنسبة لهم كل ما هو شعبي من الموضوعات المرسومة بطريق تعبيرية ذات مسحة شعبية والمطعمة بأشكال من فنون الحضارات الرافدينية القديمة هي جوهر الروح المحلية العراقية ومن هؤلاء: جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وكاظم حيدر وضياء العزاوي ومحمد مظلوم وحسن عبد علوان وجمهرة واسعة كتب لها ان تتسيد المشهد التشكيلي الداعي إلى التعبير عن (الروح المحلية) واستطاع هذا الأسلوب ان يزيح الأساليب الأخرى إلى هامش دعوة التعبير عن الروح المحلية ذاتها.
عراقي ...
وثانيا، (عراقي) والتي تعني عند فيصل لعيبي، كما كانت تعني عند جواد سليم ومشاكليه، الموضوعات العراقية ذات السمات الفولكلورية: كالأماكن والمهن كالمقاهي والحلاقين وبائعي الفرارات والمصورين الفوتوغرافيين الشمسيين المنقرضين وغيرها من الموضوعات.
ان الموضوعات الفولكلورية أي التعبير عن الروح المحلية وفق مقترح فيصل لعيبي الذي طوره سنوات طويلة، تأخذ المتلقين بعيدا عن جوهر تجربة الرسام فيصل لعيبي، وذلك برأينا نموذج صارخ إلى ان "الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي إلى تدخل كل أنواع الأهواء والتحيزات التي لا صلة لها بالأمر" كما يقرر (هربرت ريد) في كتابه (معنى الفن / دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد 19 , ط1 , ص 79)، وهو ما يفعله غالبية المتلقين الذين ينشغلون بما يفعله الحلاق او بدلالة الشرطي الأعور الذي يجلس بين آخرين على دكة المقهى، فمثلما هيمن الخطاب النثري المحايث للتجربة البصرية ذلك الذي أنتجه الناقد شاكر حسن آل سعيد على منجزه بالرسم فقدم بذلك موجهات قرائية قبلية قد تكون خدمت آل سعيد معظم الوقت, خضعت تجربة الرسام فيصل لعيبي لهيمنة مماثلة فرضتها سطوة (الموضوع) كموجه قرائي سيطر، هو الآخر، على ما كُتب عن هذا الرسام من مقالات بدت جلها أسيرة هيمنة ذلك (الموضوع) ونعني به هنا (الروح الفلكلورية العراقية) أو هو (التعبير عن الروح المحلية) وفق منطلقات جماعة بغداد للفن الحديث والخطاب المحايث لها فعند الكثيرين ممن كتبوا عن الرسام "ظل فيصل مخلصاً لتقاليد الرسم العراقي التي أرسى قواعدها الرواد الأوائل وخاصة الفنانون فائق حسن و جواد سليم ومحمود صبري ، وهو يحاول ان يهتدي بأفكار جماعة بغداد للفن الحديث وبما تحقق من إبداع على الصعيد العالمي، وشغلت المقهى مساحة واسعة من أعماله منذ ثمانينيات القرن الماضي، وما تزال من مواضيعه الأثيرة ، حيث يرى فيصل فيها المجتمع العراقي بكل طبقاته وأطيافه وما يدور فيه من تناقضات ، وهو في أعماله هذه يحاول أن يخرج عن تقاليد الرسم واتجاهات المدارس التي ظهرت في القرن العشرين دون أن يتخلى عما استفاد منها من حلول لمشاكل اللوحة المرسومة" كما يؤكد عبد جعفر في كتابته عن المعرض الأخير لفيصل لعيبي، فكان هذا الموجه القرائي لا يخدم المنجز البصري لفيصل لعيبي بالضرورة, بل يساهم في تعمية المحاولات الجادة لإضاءة منجزه, واسهم, ربما دون وعي أولئك الكتاب, في تغييب الجوانب البصَرية (الشيئية) فيه، وهي الجوانب التي تشكل برأينا جوهر هذه التجربة.
القوانين الشكلية لنسقين
لقد قدمنا مداخلة نقدية في اتحاد أدباء وكتّاب البصرة اعتقدنا فيها، وما زلنا نعتقد، ان الانجاز الحقيقي لفيصل لعيبي كان انجازا شكليا بلاستيكيا في جوهره، تمثل بالمزاوجة (الأسلوبية) بين القوانين الشكلية لنسقين أسلوبيين مختلفين: نسق الرسم الكلاسيكي القائم على قانونين وعلمين صارمين هما: قوانين التشريح (الاناتومي) ووهم البعد الثالث (المنظور)، وبين نسق الرسم الإسلامي المسطح الذي مثل ارفع مستوياته الانجازية الرسام يحيى بن محمود الواسطي، ولم تتشكل فيه قوانين للمنظور كتلك التي تشكلت في الرسم الأوربي قبل وخلال وبعد عصر النهضة الأوربية الحديثة، والذي لم تتطور فيه قوانين تشريح ونسب للكائنات الحية لتكون اقرب ما تكون إلى الواقع، فالمساهمة الأهم بالنسبة لفيصل لعيبي لم تكن في تناوله الموضوعات الفولكلورية العراقية بل كانت في قدرته على مشاكلة أسلوبَيْ رسمٍ يبدوان متناقضين هما الرسم الكلاسيكي وقوانينه المدرسية والرسم الإسلامي.
لقد اتخذ فيصل لعيبي إجراءين شكليين في تحقيق قدر من التشويه هما: أولا، تشويه قواعد المنظور، وتعدد زوايا النظر, وثانيا، تشويه نسب الجسم البشري، وتشريحه، واتخاذ كل جزء فيه وضعه الأمثل. لقد انطلق فيصل لعيبي في تشويهه لقواعد المنظور من تتبع خطى محاولات عدد من الرسامين الذين كانوا يخلطون عن عمد بين عدد من زوايا النظر, فإذا استثنينا التجربة التكعيبية التي اختلطت فيها كل وجهات النظر في لوحة واحدة, فقد كان أول هؤلاء الرسامين الذين لا يحسبون من التكعيبية، وأشدهم تطرفاً في ذلك، الرسام الفرنسي هنري ماتيس الذي تحضرني هنا لوحته (راحة الموديل) حيث تختلط فيها زوايا نظر متعددة في لقطة واحدة أهمها: وضع المنضدة، ومنظور وفضاء الغرفة، وهو الأمر الذي ركز عليه فيصل لعيبي بشكل جوهري في إحداث زحزحة في (زاوية النظر), فلم تكن الحلول التي تم تقديمها سابقا لموضوعة (الروح المحلية) تقنع فيصل لعيبي، فعاد لطرفي المعادلة في محاولة لتطويع طرف لآخر وإيجاد أرضية مشتركة بينهما، فدرس فن الرسم الإسلامي والفن الرافديني القديم واستعار تأثيرات بنيوية جوهرية هي:
إعادة النظر بقواعد المنظور
أولا، إعادة النظر بقواعد المنظور من خلال حلول تقنية فلم يتقيد فيصل لعيبي بقواعد (المنظور) المعروفة، إلا انه استطاع ابتكار حلول تقنية تعبر عن فعل هذا النمط من المنظور، كما ان تلك الحلول التقنية التي كانت تتجه نحو توظيف المنجز الرافديني القديم والإسلامي في عمله، مع الإبقاء على وهم البعد الثالث، وهو مستعار من الرسم الأوربي، الذي يمنح الأشكال امتلاءها، كانت تراكيبه معقدة ومتنوعة، بينما كانت رسوم سلفه الواسطي مسطحة، فكانت حلوله تبدو كافية لحل مشكلة تمثيل الأشكال والإيحاء بأوضاعها، وأبعادها، وأحجامها، وان الخلط بين تلك التقنيات الشكلية المتعارضة جعلت الأمر معقدا، فقد قام بخلق فضاء غامض ومضغوط بقصدية، فكان يحاول (تركيب) أسلوب منظوري وهمي متعدد الزوايا (اتجاهات النظر).
الوضع الأمثل
ثانيا، قد اتجه فيصل لعيبي، في قضية التشريح ونسب أعضاء الجسم الإنساني، إلى نمط من التشويه (الايجابي) في تحويره أشكال المشخصات، وهو ما يعرف (بالوضع الأمثل), الذي تتخذ فيه المشخصات أوضاعها الأكثر مثالية، من الناحية الشكلية، حيث تُظهر أهم خصائصها الشكلية, وهو إجراء طبقته فنون حضارات عديدة منها الفن الفرعوني والفن الرافديني القديم والفن الإسلامي, فالعين والأكتاف كانتا تتخذان الوضع الأمامي، بينما يتخذ الوجه والأقدام الوضع الجانبي دائما..
التشريح ونسب أعضاء الجسم
ثالثا ، خرق قوانين التشريح ونسب الجسم الإنساني كجزء من تحقيق (الوضع الأمثل).
يثبت فيصل لعيبي إذن, إن (التعبير عن الروح المحلية), ذلك (القانون) الذي هيمن على الفن، والنقد التشكيلي خلال الفترة التي سبقت ستينات القرن الماضي، مازال مقترحاً يمكن اغناؤه بالمزيد من التجارب، ومنها مقترحه بإعادة تطويع الرسم الأكاديمي لقوانين الرسم الإسلامي والرفديني القديم، وجعله قادراً على التعبير عن تلك الروح العراقية التي بدا فيصل لعيبي مأخوذاً بها بشدة, أو قل هي متاعه في غربته التي استغرقت عقوداً، وإن منجز فيصل لعيبي الذي يبدو رسوما (بسيطة) لا تحتاج مؤهلات قرائية قبلية، و لا تفعل في المتلقي سوى إثارة المزيد من الذكريات مع إكسسوارات اللوحة التي يبثها بشكل باذخ ومتوازن، بدت لنا تجربة مليئة بالحلول البصرية الجريئة والمتفردة، ومقترحا يشكل إضافة جادة في معالجة الفضاء التي تبقي سمات الفن المسطح العراقي القديم والإسلامي، مضافا له المعالجة بالأشكال الأكاديمية التي تبقي على البعد الثالث حيثما كان ذلك ضروريا.
تقليدية المادة
لم تشكل تقليدية المادة التي يشتغل بها همّا لفيصل لعيبي فمازالت أدواته ومواده التي يستخدمه للرسم هي ذاتها التي درج الرسامون عليها منذ ظهور اللوحة المسندية، ومنذ اكتشاف علب اللون الزيتية الجاهزة، فاعتبرها فيصل لعيبي مصيرا نهائيا لأدوات ومواد الرسم.
مرات القراءة: 2969 - التعليقات: 0
نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ،
يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث
المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ
المعرض الشخصي الخامس عشر للرسام فيصل لعيبي
