من ذكريات طفولتي في الحبانية، بداية مرحلة جديدة من حياتي، عندما بدأت وانا في السادسة والنصف من عمري أول يوم لي في مدرستي (الهدى) الابتدائية للبنات، فقد غادرت مرحلة اللا التزام من الطفولة إلى مرحلة جديدة. قالت لي معلمتي بعد إن جمعتنا في ساحة المدرسة المكسوة باللون الأخضر، تتخللها ممرات مخصصة للسير والتنقل حفاظا على الزهور والزرع، ومزينة بلوحات استطعت قراءتها بعد مرور ثلاث سنوات من وجودي في المدرسة نفسها، (ازرع لا تقطع) قالت: سنقول مع بعضنا صباح الخير ولكن باللغة العربية! ونرد مع بعضنا، صباح النور وبالعربية أيضا وبصوت عالٍ!
لماذا بالعربية؟ وانا التي تتحدث معي معلمتي دائما بلغتي (السريانية) واغلب التلميذات معي هن صديقاتي وجاراتي ولنا لغة نتحدث بها ببساطة قالت عندما سألتها: لأنها اللغة الرسمية للعراق ويجب إن تتعلميها لتتحدثي بها وتقرئي القصص وتكتبي الواجبات! وأيضا لتنشدي الأناشيد، وعندما تكبرين وتذهبين إلى بغداد يجب إن تتحدثي بلغة أهل بغداد وهي اللغة العربية.
وهذا ما حدث فعلا، فقد عملت بنصيحة معلمتي، ولم أتحدث إلا بالعربية حتى مع بنات وأبناء قوميتي ممن لم يجيدوا ويتقنوا إلا اللغة السريانية أو الارمنية، من اجل تعلم الأبجدية العربية وأصول الحديث والإعراب والمذكر والمؤنث التي لاقيت صعوبة في البداية للتفريق بينهما والمثنى والجمع والغائب والحاضر ونون النسوة و.. و.. الخ من خفايا وإسرار اللغة العربية التي مازلنا إلى الآن نغرق في بحارها. وبمرور الوقت وبعد عبورنا إلى مراحل متقدمة في الدراسة الابتدائية، وتحديدا في الصف الخامس نجحنا في كتابة الخواطر وبعض الجمل المفيدة وحفظنا قصائد لشعراء عراقيين وعرب من مصر وسوريا وفلسطين ولبنان.
وكانت حصة اللغة العربية من أجمل ساعات الدروس، كما كانت معلمة اللغة العربية في نظري من أجمل النساء وتعلمت وسمعت منها اغرب وأجمل الكلام، قادتني إلى جبران خليل جبران والى ملائكته. كانت تطلب منا إن نكتب ما نشاهده في الطريق من البيت إلى المدرسة ونكتب ما نحلم به وما نريده، ونكتب ونكتب. كنا أحيانا نملُّ ونتمرد ولكنها لا تعاقبنا بل تطلب منا إن نكتب تمردنا بكلمات ونناقشها، وبعد كل مناقشة نقتنع إن ما تطلبه منا هو الصحيح ويجب إن نستمر في الكتابة.
راودتني فكرة الكتابة عن هذا الموضوع، لأني أكثر من مرة عندما التقي بطلبة جامعة، لا بل خريجو كليات علمية وإنسانية وهم حاصلون على الشهادات العليا، ماجستير ودكتوراه وذوو مواقع رسمية في الدولة العراقية الجديدة، التي ما زالت اللغة الرسمية فيها هي العربية، اجد انهم لا يجيدونها!
كتب بتأريخ : الإثنين 26-12-2011
عدد القراء : 2091
عدد التعليقات : 0