بينما توقع الرئيس الأميركي، يوم الثلاثين من حزيران الماضي، أن يواجه العراق أياماً صعبة في المرحلة التي تعقب الانسحاب، دون إشارة الى دور سياسة واشنطن المتخبطة في مجيء هذه الأيام الصعبة، توقع وزير دفاعه، في اليوم ذاته، استمرار أعمال العنف، واستغلال بعض الأطراف انسحاب القوات الأميركية لتنفيذ هجماتها، معتبراً ان "الوضع ما يزال خطيراً". وفي غضون ذلك وجه الجنرال أوديرنو اتهامات لـ "الجيران" الذين "ما زالوا يدعمون ويمولون ويدربون عملاءهم في العراق".
غير أن القضية الأكثر إثارة للانتباه تتمثل في اعلان البيت الأبيض، الثلاثاء الماضي، بأن أوباما كلف نائبه جون بايدن بـ "الاشراف" على جهود المصالحة السياسية في العراق، بالتشاور مع سفير بلاده في بغداد كريستوفر هيل وقائد القوات الأميركية الجنرال راي أوديرنو.
وأكد البيت الأبيض أن بايدن "أهل تماماً للقيام بدور الاشراف على المصالحة السياسية نظراً لمعرفته بالعراق". غير أن محللين مطلعين يرتابون بمثل هذه المعرفة، مذكّرين بخطته السابقة الداعية الى تقسيم العراق الى ثلاث مناطق، والتي كانت، هي الأخرى، تجلياً لجهل العم سام بواقع وثقافة البلاد التي "حررها"، وهو جهل مرتبط بالتخبط المريع للسياسة الأميركية، وما أدى اليه من عواقب وخيمة على سائر الصعد.
ورغم تعقيب الحكومة بأن "جهود المصالحة الوطنية شأن داخلي" وتلميحها الى عدم التجاوب مع العرض الامريكي، فإن إثارة معضلة المصالحة الوطنية مجدداً، وبآلية "الاشراف" الجديدة هذه المرة، تأتي في ظل أجواء صراع الامتيازات المحتدم على أكثر من صعيد، وتفاقم مشاعر التوجس والارتياب بين القوى السياسية، واستمرار "المقررين" على البقاء في خنادقهم أو خلف متاريسهم، بينما "تضيع" فرص الحوار الحقيقي، ويغيب وضوح الآفاق والتوجه لاجراءات عملية بشأن قضايا عديدة خطيرة الأهمية، بينها الاصلاح السياسي والتعديلات الدستورية والقوانين المختلفة.
ويأتي هذا، وغيره من المظاهر المعقدة في اللوحة السياسية، في ظل منهجية المحاصصات، التي هي أساس الشلل والعجز عن حل المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يستثمره سائر الساعين الى اجهاض العملية السياسية، على نحو بشع، وبينهم بعثيون صداميون وإرهابيون ومتطرفو مليشيات وعصابات جريمة منظمة.
وإذا كانت قضية المصالحة الوطنية قد طرحت في سياق ضغوط على "المقررين" من أطراف خارجية تسعى الى أن تتخذ المصالحة مساراً يلبي مصالحها، فان الحديث، اليوم، يجري عن "إشراف" أميركي لابد أنه يسعى الى دفع الأمور لا في إطار منهجية الشيعة والسنة والأكراد حسب، وانما في إطار مساومات مع قوى تناهض العملية السياسية بطرق غير سلمية، وهي مساومات يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة على مآل العملية السياسية ووجهة تطور البلاد.
ولعل ما يمكن رؤيته من سمات مرتبطة بقضية المصالحة يتمثل، بايجاز، في غياب منهجية واضحة وسياسة متكاملة في هذه القضية خطيرة الشأن والتأثير. وقد ارتبط هذا الغياب بحقائق سلبية بينها أجواء التوتر بين الأطراف السياسية وبطء وتلكؤ العملية وسوء إدارتها، وانعدام الشفافية في ما يتعلق بمفاوضات داخل البلاد وخارجها مع جهات بعثية وسواها، وعلى نحو يكشف عن تجاهل للقوى السياسية وتغييب لإرادة الشعب.
ومن نافل القول إن التوجه الحقيقي الى مصالحة سياسية حقيقية يتطلب، من بين أمور أخرى، وفضلاً عما أشرنا اليه في السياق، تطبيعاً للعلاقات بين الأطراف السياسية، وتهدئة لأجواء التوتر والصراع، ورغبة جادة في تعاون سائر المعنيين بعملية المصالحة.
وفي سياق وضوح المنهجية وسلامة الاجراءات لابد من لفت الانتباه، مجدداً، الى أن الخضوع لضغوط خارجية ترمي الى إعادة كل العسكريين السابقين دون ضوابط ومعايير مدروسة وسليمة يمكن أن يسهم في مراكمة الاشكالات لا في حلها. وهكذا الحال مع مناهضي العملية السياسية من مرتكبي الجرائم في عهد النظام السابق ومقترفي أعمال الارهاب بعد سقوطه، وهم من غير المستعدين للتخلي عن مواقفهم والاعتذار للشعب عما ارتكبوه من فظائع. أما الموقف من "اجتثاث" البعث فقد جرى فيه حديث كثير، الجوهري فيه ضرورة التمييز بين أغلبية أرغمت على الانتماء للحزب الحاكم ولابد من خلق أجواء تساعدها على التخلص من إرث الفاشية والعودة الى الحياة الطبيعية، وأقلية من رموز البعث الصدامي وجلادي الشعب ممن تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء وينبغي انزال القصاص العادل بهم.
* * *
بدون وضوح في المفاهيم والمنهجية، وسلامة في الاجراءات العملية، وتخلٍ عن "التسييس" ومنهجية المحاصصات، يصبح كل حديث عن مصالحة سياسية مجرد أوهام واستعراضات لفظية.
ولكن هل نحن أمام جولة جديدة من التخبط الأميركاني يقودها المستر بايدن هذه المرة، وقد دشن جولته في بغداد بالتهديد بـ "تراجع واشنطن عن التزاماتها السياسية اذا ما استؤنف العنف الطائفي أو الاثني في العراق" ؟
هل تحتاج المصالحة الوطنية، وهي قضية عراقية، الى "إشراف أميركي" ؟ أهذه هي السيادة الوطنية التي بها يتبجحون ؟ وكيف لا تتجرأ واشنطن على تدخلات فظة مادام سياسيو محاصصات صامتين، وبرلمانيو "تسييس" عاجزين عن الرد حتى ولو بتصريح يذر الرماد في العيون !؟
طريق الشعب - 7/7/ 2009
كتب بتأريخ : الثلاثاء 07-07-2009
عدد القراء : 2995
عدد التعليقات : 0