يبدو أن بلاد الرافدين مولعة، من بين أهواء أخرى، بمسلسلات غريبة. وآخر هذه المسلسلات يحمل عنوان "تناقض التصريحات"، ومثاله الساطع ما جرى بشأن زيارة بايدن الأخيرة الى العراق.
فقد وقعت الحكومة في تناقضات فاضحة بشأن "إشراف" نائب الرئيس الأميركي على مشروع المصالحة الوطنية، وتدخله في شؤون عراقية. ولسنا بحاجة هنا الى تكرار ما جاء في هذه التصريحات من تناقضات كشفتها مختلف وسائل الاعلام المحلية والأجنبية.
غير أننا سنحاول أن نلقي بعض ضوء على أسباب ودلالات تناقض التصريحات، وبعض ضوء آخر على المسألة الجوهرية، وهي زيارة بايدن.
أما تناقضات التصريحات فتعكس، من ناحية، مخاوف بعض الأطراف السياسية من فقدان امتيازات عبر التسويات المرتقبة في ضوء التدخلات الأميركية تحت غطاء الوساطات و"الاشرافات" والحرص على عدم تدهور الوضع والتقدم على صعيد "المصالحة الوطنية".
ومن ناحية ثانية بوسعنا أن نرى في جانب من تلك التصريحات ازدواجية المواقف التي تبدو ظاهرياً، أحياناً، كأنها متشددة في الموقف من التدخل الخارجي في الشأن العراقي، لكنها، في الواقع، عكس ذلك تماماً.
وهي تعكس، في خاتمة المطاف، وفي سياق التجارب مع الضغوط الخارجية، استمرار التعويل على العامل الخارجي في حل الأزمات الداخلية، ارتباطاً بغياب أو ضعف الارادة السياسية الوطنية المستقلة.
ويرتبط هذا بدوره، وعلى نحو وثيق، بقضية استعادة السيادة والاستقلال، لا بمعنى تأمين انسحاب القوات الأجنبية حسب، وإنما أيضاً التخلص من قيود التبعية، وضمان استقلالية القرار السياسي.
وهذا يفسر عجز النخب المتنفذة والحاكمة، حتى الآن، وبعد ما يزيد على ست سنوات، عن التوصل الى حلول للمعضلات الكبرى التي تعترض سبيل إقامة الدولة العراقية، بما في ذلك ما يتعلق بتوزيع السلطات بين المركز والأقاليم، وتوزيع الثروة الوطنية، وإعادة بناء المؤسسات الأمنية، ناهيكم عن غياب المشروع الوطني، على الرغم من تكرار الحديث عن هذا المشروع وتأكيد تبنيه في التصريحات المعلنة لمعظم هذه النخب.
وإذا كان من الصحيح القول إن الفترة الأخيرة شهدت إحياء لقاءات الكتل السياسية والتشاور بينها مما تمخض عن بعض الخطوات الايجابية، فان هذا يبقى قاصراً عن وضع حلول جذرية للأزمات التي تعاني منها البلاد. وبالتالي فان الباب يبقى مفتوحاً للقبول بوساطات خارجية تتمسك بأجنداتها الخاصة وفق مصالحها ومنظورها الستراتيجي.
ومن المعلوم أنه عقدت، خلال السنوات المنصرمة، لقاءات خارج البلاد في إطار جهود مصالحة أو تسوية، وخرجت باتفاقات أو نقاط اتفاق ايجابية على الأقل، كما جرى في هلسنكي وطوكيو وسواهما، غير أنه لم يتمخض عن ذلك شيء على أرض الواقع، وبقيت النخب المهيمنة متمسكة بنهج المحاصصة الطائفية والقومية للحفاظ على مواقعها تحت ستار "التوازن" في مؤسسات الدولة وأجهزتها.
هناك تاريخ طويل لتعويل بعض القوى السياسية على العامل الخارجي، الدولي والاقليمي، يمتد الى مرحلة ما قبل الحرب والاحتلال والتغيير، في فترة أوائل التسعينات تحديداً، وهو ما أدى، في النهاية، الى كارثة الاحتلال وتكريسه. ويدفع شعبنا حتى الآن الثمن الباهظ للرضوخ لسياسات المحتلين وعدم الاعتماد على الشعب وتعبئته في المعارك الوطنية.
وأما عن زيارة بايدن، التي تتسم بأبعاد ليست واضحة للعيان تماماً، فيمكن القول إنها تدشن مرحلة جديدة في سياسة واشنطن تجاه العراق بعد تولي أوباما الادارة الأميركية.
وتنطوي هذه الزيارة على مسعى جدي للتحرك بمسار سياسي بموازاة عملية خفض الوجود العسكري المباشر، وتنفيذ مراحل اتفاقية الانسحاب على نحو يضمن الحفاظ على المصالح الأميركية والهيمنة على مقدرات البلاد في المرحلة المقبلة. وهذا يتطلب التدخل المباشر والضغط بقوة لفرض تسويات بين القوى السياسية العراقية لتحقيق "التوازن" الذي يضمن مواصلة التحكم بأطراف اللعبة السياسية.
ويندرج في هذا الاطار، وتحت غطاء "المصالحة"، السعي الى استيعاب أنصار النظام السابق في مؤسسات الدولة والعملية السياسية. كما يقترن بالتلويح بأن ينفض "المحررون" أيديهم إذا ما عاد العنف الطائفي حسب تعبيرهم، بما يعني استخدام الأزمات المتفاقمة ورقة ضغط من أجل انتزاع التنازلات المطلوبة. وفي هذا السياق يمكن فهم التصريحات المتناقضة لمسؤولين عسكريين أميركان في الأسابيع الماضية حول إرجاء الانسحاب وإعادة النظر في بقاء القوات في حال تدهور الأمن.
* * *
نسمع التصريحات المتناقضة من كل حدب وصوب، كأن الجميع مخوّلون بأن يصرحوا، ولا يعرف المرء من الذي خولهم بممارسة هذا النطق في بلاد يستهان فيها بذكاء الناس، وتشَلُّ فيها إرادتهم، وتنتشر فيها نخب المصرّحين من المستعرضات والمستعرضين، وتغيب فيها ثقافة الديمقراطية ودولة المؤسسات ..
جوهر الطبخة الراهنة هو مفاقمة الضغوط لفرض الارادة والهيمنة وفقاً للمرامي المرسومة أصلاً لعملية التغيير عبر الحرب والاحتلال ..
أمام القوى السياسية العراقية تحدٍ كبير وحاسم. فإما الرضوخ لضغوط العامل الخارجي، الدولي والاقليمي، مجدداً، أو تعزيز الارادة الوطنية والاعتماد على الامكانات الذاتية للتوصل الى حلول وطنية عاجلة للأزمات الكبرى، والتقدم بخطوات واثقة لاستعادة السيادة كاملة، وإرساء دعائم العراق الديمقراطي الجديد حقاً ..
ما من خيار ثالث !
طريق الشعب - 14/7/ 2009
كتب بتأريخ : الثلاثاء 14-07-2009
عدد القراء : 2830
عدد التعليقات : 0