العُقد النفسية في الشخصية العراقية
نشر بواسطة: Adminstrator
السبت 30-06-2012
 
   
نقصد بالعقد النفسية هنا،حالة عصابية من خصائصها :شعور صاحبها ،بالقلق  والخوف من الآخر،والضعف أو العجز، وسوء التوافق مع نفسه ومع  الآخرين،واللاواقعية في تقييم الأمور ،وصعوبة إيجاد حلول عقلانية  لمشكلاته،والميل إلى الاستمرار على هذا السلوك برغم  إدراكه أنه يتعبه.

وهنالك رأيان في سبب أو مصدر هذه العقد ،الأول يرى أنها بيولوجية يرثها الأبناء عن الآباء،والثاني يرى أنها مكتسبة من أساليب التنشئة الأسرية ومن طبيعة الناس والأحداث التي يعيشها.غير أن هنالك نظرية حديثة نسبيا في الشخصية تسمى النظرية التطورية  Evolutionary  ترى أن المورّثات " الجينات" السلوكية تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي فتعمل – عبر التاريخ التطوري للإنسان -على تقوية مورّثات "جينات" سلوكية معينة وإضعاف مورّثات أخرى (مقارب لقانون دارون :البقاء للأصلح). وهذا يعني أن الأحداث التي عاشها الإنسان عبر تاريخه التطوري تدخلت في عمل المورّثات "الجينات "  بثلاث صيغ : تقوية مورّثات معينة ، وإضعاف أخرى ، ودثر أخرى .
  وتأسيساً على ذلك فإننا – أبناء هذا الجيل من العراقيين – لسنا فقط نتاج تكويننا البيولوجي الخالص،إنما أيضا نتاج ما صنعته الأحداث من تأثير في مورّثات " جينات " أسلافنا العراقيين . ولك أن تقول : إن " جيناتنا "الحالية مشفّرة أو مسجّل عليها الأحداث التي عاشها أجدادنا ، وأننا نقرأ عناوين هذه الأحداث ونرى صورا منها عبر سلوكنا وتصرفاتنا. 
ولكي  لا يساء الفهم أو يستنتج من قولي هذا أنني أميل إلى تغليب العوامل البيولوجية في تكوين الشخصية  ، فأنني أعدّ الموروث الثقافي من أهم عوامل تكوين الشخصية .وأعني بالثقافة : القيم  بأنواعها الستة "السياسية،الاقتصادية،الاجتماعية،النظرية،الدينية،والجمالية"،والاتجاهات والمعتقدات والمعايير والفنون والآداب والعلوم ..وكل ما ينتجه المجتمع وينتقل عبر أجياله . وأزعم أن الثقافة - بالمفهوم أعلاه – تعمل على تكوين " مركز سيطرة" داخل الفرد يقوم بتوجيه سلوكه نحو أهداف محددة ، وأن الاختلاف بين الأفراد ، في سلوكهم وتعاملهم مع الناس والأحداث ، يعود في واحد من أهم أسبابه إلى مركز السيطرة الثقافي هذا . هنالك سبع عقد نفسية في الشخصية العراقية..لنبدأ بأخطرها،التي تعدّ أحد أسباب أزماتنا السياسية..هي العناد العصابي
العناد العصابي
كان لديّ شك يتاخم اليقين أن الشخصية العراقية أكثر ميلا إلى الخلاف مع الآخر منه إلى الاتفاق. وتحول هذا الشك إلى يقين بعد أحداث السنوات التي تلت عام 2003 ، فرحت أبحث عن أسبابه فوجدت أن هذه الصفة ليست من صنع حاضر قريب أو بعيد ، إنما تعود إلى تاريخ يمتد آلاف السنين ، وأنها ليست ناجمة عن سبب بعينه ( القول إن العراقيين جبلوا على هذه الصورة مثلا ) إنما عن شبكة معقدة من الأسباب تفاعلت في ما بينها فأنتجت الشخصية العراقية بهذه الصورة .
    ويبدو لي، في الأقل ،أن العناد العصابي في الشخصية العراقية،أو عقدة الخلاف مع الآخر يعود إلى أن العراق ينفرد عن بلدان المنطقة بأمور وأحداث لها تاريخ يمتد آلاف السنين يتمثل أهمها بالآتي :
إنه البلد الذي تؤخذ فيه السلطة بالقوة المصحوبة بالبطش بمن كانت بيده .
وأنه البلد الذي سفكت على أرضه أغزر دماء المحاربين من العراقيين والعرب والأجانب، لاسيما : المغول والأتراك والفرس والإنجليز...وأخيرا ، الأمريكان .
وأنه البلد الذي نشأت فيه حضارات متنوعة ومتعاقبة ، انهارت أو أسقطت بفعل صراع داخلي أو غزو أجنبي .
وأنه البلد الذي تنوعت فيه الأعراق والأديان والمذاهب ، في مساحة مسكونة صغيرة نسبياً.
وأنه البلد الذي كان مركز الشرق الإسلامي حتى الهند والسند ، وحيث عاصمته كانت مدينة الخلافة الإسلامية .

2 . عقدة البارانويا .
  تعني البارانويا : أسلوبا مضطربا من التفكير يسيطر عليه نوع غير منطقي " أو غير عقلاني " من الشك وعدم الثقة بالناس ، ونزعة دائمة نحو تفسير أفعال الآخرين على أنها تآمر أو تهديد مقصود أو مهين .
  وقد نجمت هذه العقدة عن تواتر الاستيلاء على السلطة في العراق بالثورات والانقلابات الدموية والانتقامية ، فأصيب بها كل من أخذ السلطة ،وسيطرت على أغلبهم حالة هوسية من التآمر عليهم والشك بالآخر حتى لو كان بريئا.
  وبالمقابل ، تولّد لدى الناس اقتران شرطي بين السلطة والظلم ، ناجم عن  تكرار السلطات المتعاقبة لممارسة الظلم على الناس .
  ومن هذه العلّة النفسية تحديدا (عقدة اليأس من مجيء سلطة عادلة ) نشأت فكرة " المخلّص المنتظر " الذي سيأتي ويملأ الأرض عدلا ، والتي يؤمن بها معظم العراقيين بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والمستوى الثقافي سواء كان أميّاً أم حامل الدكتوراه .

  3. عقدة الاستهداف .
إن تكرار غزو العراق من قوى أجنبية ( لخيراته وموقعه الاستراتيجي ) ولّد لدى الفرد العراقي حالتين نفسيتين ، الأولى : يقينه أن العراق سيبقى مستهدفا وأنه " الضحية " في كل غزو. وإدراكه بالتجربة المتكررة أن كل غزو يحصل يشطر العراقيين إلى ثلاثة أقسام : متعاونون مع الغزاة ، ومحايدون أو من جماعة " الياخذ أمّي يصير عمّي " ، ومعارضون ..يحكمهم جميعا : الخلاف مع الآخر .
  والثانية : كره العراقي للحكومة وتعمّق الهوة النفسية بينهما ، الناجمة عن اعتقاده بأن أية حكومة تتولى السلطة لابد أن تكون مسنودة من قوة أجنبية ، وأنها تخدم مصالح الأجنبي أكثر مما تخدم مصالحه ، الأمر الذي أدى إلى أن تكون نظرة العراقي للأمور في حال يشبه فيه حصان العربة : النظر باتجاه واحد هو الخلاف مع السلطة والعمل على إسقاطها .

4 . عقدة أخذ الثأر.
إن جسامة ما وقع من أحداث وبطش الآخر بالآخر ، سواء بسبب الصراع على السلطة أو بسبب معتقد أو مذهب أو فكرة ، عملت على توريث عقدة ( أخذ الثأر أو الحيف ) من الآخر ، وتحكّمت بسلوك العراقي في أزمات الحاضر ، بانفعالية تعطّل التفكير العقلاني بأسباب هذه الأزمات أو بمن يخلقها .

5 . عقدة التعصّب لــ" الهوية ".
سكنت العراق أقوام متعددة : عرب ، كرد ، تركمان ، كلدان ، آشوريون ، يزيديون ، شبك..ونشأت فيه أديان ومذاهب متنوعة : إسلام ،مسيح ، يهود ،صابئة ،مجوس..،شافعي ، جعفري ، حنفي ، مالكي ، حنبلي .
  وتفيد الاحداث أن هذه الأقوام والأديان والمذاهب تعايش أهلها بسلام حيثما كانت السلطة بعيدة عن التدخل في شؤون خصوصياتهم ، وأن الصراعات تنشأ في ما بينها ، حدّ إبادة الآخر ، حين تكون السلطة أو قوة غازية محرّضا بشكل علني أو خفي .
  ولأن الإنسان به حاجة نفسية إلى (هوية ) فإنه يضطر إلى الدفاع عن هويته حين تتعرض إلى الخطر . ولأن كل ( هويات ) الجماعات العراقية لحقها أذى وتعرضت إلى هذا القدر أو ذاك من الخطر ، فإنه نجم عن ذلك تغليب الانتماء إلى الهوية الخصوصية (بدافع الحماية والأمن ) على الانتماء إلى الهوية الوطنية ، مصحوبة بحالات من التطرف أو التعصب العرقي أوالديني أوالمذهبي .

6- الزهو بالذات والتباهي بالماضي .
  يشعر الفرد العراقي بأنه سليل حضارات ، وأنه ابن بلد " الأوائل " : أول من اخترع الكتابة ، أول من اخترع العجلة ، أول من بنى المدن ، أول من سن القوانين ،أول من ابتكر آلة موسيقية ،أول من زرع الأرض وابتكر نظام الري ، أول البلدان في عدد الأنبياء ... الأمر الذي نجم عنه نزوع سلوكي إلى عدّ الخلاف مع الآخر من صفات الذي يريد أن يكون " الأول " أو من صفات التي تليق بابن " الأوائل " .
  ويتداول العراقيون مقولة ( ارفع راسك انت عراقي ) . ومع أنها حالة إيجابية حين تشكل موقفا" ضد الإذلال والنيل من الكرامة وعزّة النفس ، إلا أنها تتضمن معنى " التباهي " بالماضي ، وتشير ضمنا" إلى بؤس الحاضر ، وحالة من عدم التوازن النفسي لدى الفرد تفضي بالنتيجة إلى ميله نحو الخلاف مع الآخر .

7. التصلّب الثقافي .
  يوصف العراق بأنه بلد التنوع الثقافي والعقائد العجيبة ، وفيه نشأت مدارس فلسفية وفكرية وفقهية وأيديولوجيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار  ، اعتمدت في أطوار من مسيرتها أسلوب الاختلاف مع الآخر في الرأي ، نجم عنه ازدهار ثقافي ونزوع نفسي نحو الإبداع المعرفي الذي من خصائصه الإتيان بما هو جديد ومخالف لما هو موجود .
غير أن السلطة تدخلت ، في أطوار أخرى من مسيرة هذا التنوع الثقافي ، فحولت الاختلاف مع الآخر على مستوى الرأي إلى خلاف معه على مستوى الفعل ، اعتمد أساليب  العداء والاضطهاد بأنواعه وانتهى بالعنف الذي يستهدف القضاء على " ثقافة " الآخر سواء بالسجن أو بدس السم أو الإعدام أو الحرق علنا بتهم الكفر والإلحاد والزندقة .
  ما يعنينا هنا أن ذلك الواقع أفرز حالة سيكولوجية بأن شطر المفكرين والمثقفين إلى قسمين متضادين يتحكم في كل منهما أسلوب النظر إلى الأمور بثنائية " إما أسود وإما أبيض " وهو أسلوب معرفي متصلّب يفضي إلى عدم الاتفاق مع الآخر في مواقف الصح والخطأ على السواء .
ومن مفارقات التنوع الثقافي الذي انفرد به العراق ، أنه أنتج نوعين متضادين من التفكير:  علمي ، انتشر بشكل محدود بين النخب الثقافية ، وخرافي انتشر بين العامة من الناس وبين من يعدّون أنفسهم مثقفين . فحين دخل القطار إلى العراق بدايات القرن الماضي ، أعلن أحد رجال الدين المؤثرين تحريم استخدام القطار قائلا : " أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر؟ ".
  إن هذه العقدة والعناد العصابي علّتان نفسيتان  مصابة بهما الشخصية العراقية ، وقد لا أستثني أحداً منهما لاسيما الذين صارت أمور البلاد والعباد بأيديهم ، وأنهما فعلتا بنا ما فعلته ثارات الجاهلية بأجدادنا،فيما تتوزع العقد النفسية الأخرى بين العراقيين بنسب مختلفة تبعا لنوع القيم التي تتحكم فيهم،فهي تكون أقوى لدى الذين تتحكم بهم القيم السياسية ،فيما تكون أضعف لدى الذين تتحكم بهم القيم الجمالية .
  وتبقى هنالك صفات سلبية أخرى تقابلها صفات إيجابية تمتاز بها الشخصية العراقية . وأرى أن موضوع ( الشخصية العراقية ) ينبغي أن يشكل مشروعا ثقافيا وطنيا . وعليه نقترح أن تتبنى هذا المشروع وزارات الثقافة وحقوق الإنسان في كل من بغداد وأربيل ،ومؤسستا المدى والصباح ، ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمواقع الالكترونية العراقية المهتمة بالثقافة . فالمكاشفة العلنية بما في شخصياتنا من عقد وعلل نفسية ، وفق برنامج علمي سيكوسوسيولوجي ، وسيلة أكثر نفعا في إصلاح الحال من مؤتمرات تدعو للمصالحة الوطنية لم تثمر حتى عن تصالح الإنسان مع ذاته .


المدى/أ.د.قاسم حسين صالح - رئيس الجمعية النفسية العراقية

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





المهرجان العربي والكلداني
 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced