خاضت المرأة العراقية نضالا مريرا للحصول على حقها الطبيعي في المساواة مع الرجل في مختلف الأصعدة والمجالات،وشكلت أولى المنظمات النسوية عام 1924،وشاركت المرأة بفاعلية في النضال ألمطلبي للشعب العراقي،وشكلت بعد ذلك جمعيات نسائية لعبت دورا واضحا في هذا المجال،ولكن الحرب العالمية الثانية وإفرازاتها عمق من نضال الناشطات النسويات فشكلت جمعية تحرير المرأة لكن السلطة الملكية امتنعت عن منحها الشرعية فعملت سرا،إلى أن توج نضال المرأة العراقية بتأسيس رابطة الدفاع عن حقوق المرأة عام 1952 ضمت في صفوفها النساء الديمقراطيات بمختلف اتجاهاتهن السياسية والقومية والاجتماعية،فكان للرابطة دورها المؤثر في تنشيط العمل النسوي وامتدادها إلى المحافظات العراقية،وشكلت علامة بارزة في النضال الوطني،واعترفت الاتحادات العالمية بشرعيتها رغم سرية عملها والعقبات التي وضعت في طريقها،وبرزت إلى الوجود قوة جبارة بعد ثورة الرابع عشر من تموز1958 لتفرض وجودها في الشارع العراقي وتجمع تحت خيمتها الكبيرة النسوة العراقيات لتقود النضال النسوي وتحقق الكثير من الانجازات للمرأة العراقية،وتمكنت من انتزاع الكثير من الحقوق للمرأة العراقية،وكان من نتائجها قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي يعد الأكثر تقدما في دساتير المنطقة وأثار عاصفة من الاعتراضات من رجال الدين المحافظين الذين وجدوا في القانون المذكور ضياعا لمكاسبهم المادية ،وتحجيما لدورهم الاجتماعي،ونزعا للسلطة الزمنية التي كانوا يتمتعون بها،إلى جانب تشريعات أخرى تصب في مصلحة المرأة.
وحاولت الحكومات القومية والبعثية التي أعقبت ثورة الرابع عشر من تموز تمييع هذه القرارات والالتفاف عليها إلا أن قوة الحركة النسوية ونمائها حجم من تأثير قوى الردة الجديدة،وأخيرا تعرضت مكتسبات المرأة إلى هزة قوية بعد هيمنة العصابات الصدامية وأفقدت المرأة الكثير مما حصلت عليه بفعل القرارات العبثية للبعث التي أعادت المجتمع العراقي إلى الوراء،وبدء النظام حملاته القذرة لإخماد الجذوة النضالية للمرأة بفعل حروبه الكارثية،وقراراته التعسفية،وحملاته الإيمانية المزعومة،التي أعادت المرأة إلى عهود التخلف والانحطاط،بعد أن هيمنت على مقدرات الحركة الناشطات البعثيات بزعامة الآلوسية منال التي كانت تنح بنضال المرأة منحى آخر يعرفه الجميع،مما جعل المرأة العراقية في آخر السرب قياسا لنظيرتها في الدول الأخرى،فزرع في الأوساط الشعبية بذور التخلف عندما أفسح في المجال للتيارات السلفية الوافدة من الخارج من وهابيين وأصوليين ليأخذ فكرهم المريض امتداداته لأذهان البسطاء والسذج،وأدى بسياسته الخرقاء الى فتح الباب على مصراعيه أمام الفكر الترهي ألظلامي ليأخذ مكانه في الساحة العراقية،بما يمهد أمساكه بزمام السلطة وتثبيت وجوده بعد أن جعل الإنسان العراقي يستمطر الغيب في الخلاص من سطوته،وخلف تداعيات خطيرة لا زالت آثارها تتحكم بالتفكير الجمعي للإنسان العراقي.
وبعد الزلزال الكبير في 2003 تنفست السلفية الأصولية الصعداء بعد أن خلا لها الجو للانفراد بالساحة العراقية،وسعت لتطبيق أجندتها الإجرامية في إشاعة الفكر الترهي،والعودة بالمرأة الى عصور التخلف والضياع،فانكمشت الحركة النسوية بفعل الغياب الحقيقي للمرأة العراقية،ولم تستطع القوى النسائية الساعية الى التغيير أثبات وجودها على الأرض،مما جعلها تتهاوى أمام الضربات القوية للتيارات السلفية ،بعد أن أخذ الصراع أبعاده المسلحة،وهيمنت العصابات الإجرامية على الشارع العراقي لتطبيق أجنداتها في أعادة عقارب الساعة الى الوراء،بفضل الدعم الكبير الذي تحضا به هذه الجماعات،وما لديها من إمكانيات مالية وإعلامية هائلة لا يمكن للأطراف الأخرى الحصول على جزء يسير منها.
واليوم لا نجد في الساحة العراقية أي تأثير للمنظمات النسوية الديمقراطية،حيث أخذ مدها بالانحسار وأصبح من العسير عليها العمل في الأجواء السائدة،لعدم توفر الكفاآت القادرة على العمل ،وطهور بعض المنظمات غير الجادة التي تمثل عقلية لا توائم المرحلة بما تطرح من رؤى عقيمة لا يمكن لها أن تأخذ طريقها الى الأذهان،وشيوع البيروقراطية في العمل الميداني،وافتقار الناشطات الى الكفاءة في إيصال المنظمات لأهدافها التي وجدت من أجلها،مما جعل المنظمات الأخرى تفرض وجودها في الوسط النسوي،وتهيمن بشكل كامل على جميع الفعاليات النسوية،بما توفر لها من إمكانات هائلة ليس بوسع القوى الأخرى مجاراتها،فيما أنحصر النشاط المهني للمنظمات الديمقراطية النسوية على أقامة الندوات والمهرجانات التي أصبحت بمرور الأيام تجمعات لنساء معدودات يمثلن النخب النسوية،دون أن يكون لهن الامتداد الجماهيري،والقاعدة الواسعة في الأوساط النسوية،ولم تتمكن هذه التجمعات من كسب وجوه شبابية جديدة لها القابلية على العمل الميداني لإعادة بناء ما تهدم،مما يعني المستقبل القاتم للحركة النسوية وانحلالها إذا لم يأخذ عملها صفته الجماهيرية المؤثرة،ورفده بدماء جديدة قادرة على الإبداع والابتكار.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام أن النضال الوطني أخذ هذه الأيام أبعاد غير مألوفة في طرائقه،حيث انزوى خيرة المناضلين خلف المكاتب،وعزفوا عن العمل الميداني في تصور باهت بأن الكلام المنمق والبلاغة لوحدها قادرة على أحداث التغيير المطلوب،وتحريك الجماهير،ناسين أو متناسين أن الشارع هو الفيصل في تحديد المسارات، مما يتطلب العمل المثابر المدروس لإعادة الترميم وبناء الأسس الصلدة لحركة نسوية فاعلة،لها تأثيرها على المستويين الشعبي والرسمي،بغض النظر عن الماضي الذي لا يمتلك التأثير على الحاضر الجديد،وابتكار طرائق جديدة للعمل الميداني في الأوساط الشعبية،لخلق التأثير المطلوب،وحسر الامتداد السلفي وتحجيمه،مما يتطلب توحيد الحركة النسوية الديمقراطية تحت واجهة واحدة،بعيدا عن الحزبية الضيقة والفئوية المقيتة،لتتمكن من تحقيق امتدادها وتثبيت دعائمها،ووضع خطط عمل متكاملة،تأخذ بالحسبان طبيعة المجتمع والمرحلة وما أستجد من عادات وتقاليد أخذت بالتجذر بفعل الغياب الواضح للقوى الحقيقية القادرة على التغيير.
لقد أنتج ضعف الحركة النسوية الديمقراطية تداعيات خطيرة دفعت بالقوى الهامشية والطفيلية أن تأخذ موقع الصدارة،وأصبح لها تأثيرها الواضح في التشريع وتقنين القوانين بما يخدم توجهاتها وديمومة بقائها،بالاعتماد على قوى متمرسة من النظام السابق بعد أن غيرت جلدها وارتدت لبوس النظام الجديد،مما يستدعي جهدا مكثفا على المستويين الداخلي والخارجي لتغيير الواقع،وحرفه عن مسيرته الخاطئة،والتركيز على تبني النضال ألمطلبي للمرأة بآليات جديدة تواكب المرحلة،استنادا للخبرة المتراكمة للحركات النسوية التي كان لها تأثيرها الجماهيري المعروف،وأن عقد مؤتمر واسع لتوحيد هذه المنظمات،هو الطريق الأفضل للنجاح والتقدم،وبدونه لا يمكن أحداث التغيير المطلوب وإعادة العجلة لمسارها الصحيح،بعد أن عملت بعض الأطراف على تدجين فكر المرأة بما يخدم توجهاتها ويصب بمصلحتها،بما لا يختلف عن التدجين البعثي الذي أدى الى هذه النتائج.
كتب بتأريخ : الأربعاء 04-02-2009
عدد القراء : 3490
عدد التعليقات : 0