إن ما دفع الباحثة إلى تحرير الأفكار التي يحتويها هذا البحث القصير هو شعورها الكبير بالمسئولية تجاه دينها ووطنها، هذا الشعور الذي يدفعها إلى الغيرة الشديدة على دينها ممن يهزأون بعقول العباد باسم الدين والدين منهم براء، وكذلك إلى رغبتها في المشاركة في القضاء على القوى الظلامية التي تعيث في أرض مصر فسادا وإفسادا بالدعوة نفسها ... الدين.
وليست الباحثة متخصصة في العلوم الدينية ولا متبحرة في الفقه ولا في الشريعة، ولكن تكوينها كباحثة يدفعها تلقائيا إلى القراءة والتحليل ثم إعادة الإنتاج بصورة تختلط بوجهة نظرها فيما بحثت فيه وقرأت وتمعنت، وهو أمر ليس بالتأكيد حكرا على أحد.
وهذا البحث ليس للمتخصصين، بل للعامة، تخاطب به الباحثة أصحاب العقول الناضجة من غير المتخصصين في علوم الدين، ممن يهمهم - مثلما يهمها - أمر هذا الدين العظيم، وممن يحرصون - مثلما تحرص - على ألا يتلاعب به أحد وعلى ألا يحوله أحد إلى وسيلة يسيرة ومضمونة للثراء أو إلى طريق ممهد وميسَّر للسلطة.
والله والوطن من وراء القصد...،،،
توضيح الخلط بين الشريعة والفقه
يحدث خلط دائم بين الشريعة والفقه، ويوحد الكثيرون بينهما على اعتبار أنهما كيان واحد لا يجوز نقضه ولا نقده، وربما لا يعرف هؤلاء أن الفرق بين الشريعة والفقه هو ذاته الفرق بين السماء والأرض، بالمعنى الحرفي للكلمة.
إن الشريعة من الله والفقه من الناس، الشارع الأعظم يضع الإطار والقانون السامي والناس تحاول توظيف ذلك، كلٌّ وفق علمه وثقافته ومعطيات عصره. ولا عجب في إطار ذلك أن نجد أن الآيات التي تحوي أحكاما تشريعية في القرآن الكريم لا تزيد على ثمانين آية من آياته الكريمات اللائي يتعدى عددهن ستة آلاف آية. ناهيك عن أن القرآن قد جدد نفسه بنفسه عندما نُسخت (توقف العمل بها) آيات منه تحمل أحكاما وأُحلت محلها آيات جديدة تحمل أحكامًا جديدة، إن هذا لمما يؤكد على أن هذا الكتاب السماوي في الأساس كتاب هداية وتقويم وإنارة طريق، وليس دستورا ولا لائحة قوانين، وأنه جاء لنجدة الإنسان وليس لوأده، أضف إلى ذلك أنه كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "حمَّال أوجه"، كما قال عنه أيضا "القرآن بين دفتيّ كتاب لا ينطق بلسان". وهذا الوعي المبكر بحساسية التعامل مع هذا النص المقدس هي التي تحدد في البداية العلاقة بين ما يقوله الله وما يفسره الناس، بين الشريعة وبين الفقه.
ولفظة الشريعة في اللغة العربية تعني في معناها الأصلي مورد الماء أو الطريق الذي يؤدي إلى الماء، "والشريعة في كلام العرب: مشرعة الماء وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منه (...) والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عَدًّا لا انقطاع له"[1]. وهي تعني من هنا منبع الحياة المحفز على استمرارها، فالشريعة في الأساس هي مجموعة أطر وأنظمة وضعها الله لكي يعيش عباده على نهجها وينظمون حياتهم وفق أحكامها وبالتالي يفيدون مجتمعاتهم ويعمرون الكون الذي أمرهم بإعماره ودعاهم إلى اكتشاف أسراره وسبر أغواره.
ولا يمكن في ضوء ذلك كله أن تُختزل الشريعة في نص، أو في مجموعة من الكلمات المتراصة التي يدعي البعض فرضها في كل زمان ومكان وعلى كل الأحوال والأشخاص على اختلافهم، لأنها بهذه الطريقة لا تكون محفزا على الحياة بل دافعا إلى الجمود والموت، وذلك لأن النصوص ثابتة أما الأحوال فمتغيرة، فلا يمكن أن يعلو النص على الواقع بعد أن نزل في الأساس استجابة لمطالب الواقع، ولا يمكن أن يُفضَّل النص على مصلحة الإنسان بعد أن أوحي به أساسا خدمة للإنسان، إن الله هو الحق والعدل وليس الله هو النصوص والألفاظ، ولا يمكن أن نسترضي الله بظلم عباده مدعين أن أحكامه هي التي فرضت هذا الأمر أو ذاك، فقد أوحى سبحانه بشريعته لأسباب معينة وجبت دراستها والوعي بها قبل إطلاقها ترهيبا للناس وتلويحا في وجوههم بسيوف الكفر والمروق إذا لم ينفذوها.
ويجب أن نعي منذ البداية أن القرآن الكريم قد أُوحي بآياته على مدى ثلاث وعشرين سنة هي كل العمر الذي قضاه الرسول r في الدعوة إلى الإسلام قبل أن يتوفاه الله، وكان نزول القرآن منجَّما (أي على مراحل) على النبي r أعظم رابط بين السماء والأرض، وأوضح دليل على مدى استجابة السماء لمطالب الأرض، فإن الكثير من آياته نزل يحمل إجابات عن أسئلة أو حلا لمواقف قائمة أو ردا على أمور حادثة، ومن هنا كان شكل ارتباط المسلمين الأوائل بآيات القرآن الكريم يختلف اختلافا جذريا عن شكل ارتباط المسلمين الحاليين به، فقد تلقى المسلمون الأوائل القرآن منجَّما كما قلنا، وحضروا في أغلب الأحيان أسباب نزول آياته وارتبطت الآيات عندهم بالحوادث والأشخاص مما نمى وعيهم بدور هذا الكتاب العظيم في ترقية أحوال البشر وتقويمها، وارتبطت ألفاظه في أذهانهم بأحوالهم ومشكلاتهم وأسئلتهم وقضاياهم مما سهل استيعابهم له وحفظهم لنصوصه وتذكرهم لسبب نزول كل آية، ودعاهم أيضا إلى تفهم روح الشريعة والعمل على إحيائها حتى لو اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال.
ومن هذا الفهم لا يجب أن نندهش مما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلا عندما صار أميرا للمؤمنين وذلك عندما أوقف تطبيق حد السرقة في عام الرمادة الذي عانى المسلمون فيه من شح الأمطار ومن الجفاف، فقد فهم بإدراكه السليم والعميق لروح الشريعة أنه لا يمكن أن يتم تطبيق حد قطع اليد على السارق والناس جوعى ويعيشون في أزمة، وأنه لابد من أن يقر العدل والأمن أولا ثم يُنظَر في تطبيق الحد. كما أوقف عمر بن الخطاب العمل بالنص القرآني الواضح وضوح الشمس عن نصيب المؤلفة قلوبهم في أموال الصدقات، لأنه فهم بذات الإدراك أن هذه الآية قد نزلت والإسلام بعدُ ضعيف، أما وقد أعز الله الإسلام فلا حاجة به لدفع أموال للناس لكي يعتنقوه. هذه هي روح الشريعة التي استوعبها عمر بن الخطاب نتيجة لاكتسابه سلوك النص القرآني من واقع معايشته للرسول r وحضوره للوحي، ويمكننا القول إن هذا الفقه العُمَريّ ظهر قبل علم الفقه الحالي بمئات السنين ليقدم لنا درسا عن كيفية التعامل مع النصوص الدينية، واستيعاب الفرق بين ما يشرعه الله وما يشرحه الناس ويطبقونه لصالح حياتهم.
وبعد وفاة الرسول r وانقضاء عهد الخلفاء الراشدين، اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وأصبحت في عهد الأمويين امبراطورية مترامية الأطراف وتحولت الخلافة إلى ملك وإمارة وأضحت وراثية، واعتنق الإسلام الناس من كل بلد ولغة وثقافة، واختلف شكل الحياة كليا عن ما كانت عليه أيام النبي r، ومع هذا التغيير ظهرت معاملات ومشكلات جديدة وتعانقت العقيدة الإسلامية الفطرية مع مختلف الثقافات والأفكار، فظهرت إسهامات فكرية جديدة، وكان من وجوه هذه الجدَّة العلم الذي ابتكره الإمام الشافعي والذي عُرف فيما بعد بعلم أصول الفقه.
لقد كان غرض الإمام الشافعي هو أن يضع أسسا لعلم يساعد من اختاروا التخصص في علوم الدين على تفسير جوانبه في ضوء المتغيرات الحادثة وفي ضوء الخلافات العميقة والكبيرة التي بدأت تظهر بين العلماء نتيجة لاختلاف ثقافات معتنقي الإسلام من مختلف أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، فكان الغرض من هذا العلم هو رأب صدع بدأ يظهر بين علماء الدين، وكان أساس فكرته يقوم على أن الشريعة مصدرها الأساسي هو القرآن الكريم، وما لا يوجد في القرآن الكريم نبحث عنه في السُنَّة، وإن لم يوجد في السُنَّة، نستخدم العقل في القياس عليه مع مراعاة عناصر معينة مثل الاستحسان بمعنى تفضيل حكم معين أو الاستصلاح وهو تقديرالمصلحة العامة للجماعة، وغير ذلك من العناصر التي تكون كلها وفقا لمعيار الإجماع. وبذلك قام علم أصول الفقه على هذه العناصر الأربعة: القرآن، السنة، الإجماع، القياس.
وإذا تمعنا في هذه العناصر الأربعة سنجد أنه:
- بالنسبة للقرآن: فإنه يجب أن نوقن أن القرآن الكريم به آيات مخصصة للنبي r فقط وآيات مخصصة لنسائه فقط وآيات نزلت في أشخاص بعينهم أو بُناء على أحداث بعينها وآيات أخرى نزلت بأحكام معممة خالية من أية تفاصيل وغير ذلك، فهو بلا جدال نص شديد الثراء يحتاج في تفسيره -كما أوضحنا سلفا- إلى تحري ليس فقط المعاني اللفظية واللغوية، ولكن الأهم هو تحري أسباب نزول الآيات والتدقيق في الناسخ والمنسوخ منها، وهذه مهمة عسيرة، لأنه حتى أسباب النزول عليها جدل واختلاف، لكن الاجتهاد فيها واجب حتمي وإلا وقعنا في فخ عموم اللفظ، وهو فخ يضيِّع معنى النص ويهلك الأمة ويهدر حكمة التدرج بالتشريع ويرسخ الثقافة الانتقائية ويفتح الباب أمام كل مغرِض لأن يقتطع من السياق القرآني ما يشاء من الألفاظ والآيات ليحلل ويحرم ويتحكم ويسيطر ويحابي ويجامل إلى آخر ما يدفع إليه الهوى الإنساني المتجرد من الضمير الحي.
- بالنسبة للسُنَّة: تنقسم السنة النبوية إلى سنة فعلية وأخرى قولية، والسنة الفعلية متواترة بمعنى أن الصحابة قد أجمعوا عليها في حياة النبي r وتمت ممارستها أثناء وجوده واستمرت ممارستها بعد وفاته، وينطبق ذلك على مناسك الصلاة والحج وما سواهما من المناسك والعبادات. أما السنة القولية والتي نعرفها باسم الأحاديث فإن الحديث عنها ذو شجون، فقد عرف المسلمون الأوائل المعاصرون للنبي r أنه ليس عليهم أن يكتبوا عنه سوى القرآن حتى لا يختلط كلامه بالآيات الكريمة ، وقد أطاعوه في ذلك على مدى حياته ومدى حياة الخلفاء الراشدين، وعلى الرغم من أنه يُروى عن عمر بن الخطاب على وجه التحديد الكثير من الأحاديث إلا أن ما حدث غالبا أنها كانت تُكتب عنه دون علمه، لأنه لم يود قط جمع السُنة كتابةً في حياته حتى لا يتمسك الناس بهذا الكتاب الجديد ويتركون كتاب الله الذي كان لعمر بن الخطاب الفضل الأول في الشروع في جمعه فيما عُرف فيما بعد باسم "المصحف".
وكان رفض عمر بن الخطاب لجمع السُنة كتابةً لمما يدل على بُعد نظرِه حيث كان حتما يخشى من أن يُساء نقل لفظ أو تأويله مع نسبته للنبي r بالباطل؛ وقد سجل التاريخ قوله "أمثناةٌ كمثناة أهل الكتاب"، مشيرُا إلى "المثناة" وهي صحائف حررها أحبار اليهود بأهوائهم وصارت عندهم بعد ذلك أهم من التوراة.
لكن، بعد عشرات السنين ظهرت الحاجة إلى جمع أقوال النبي r بعد وفاة أغلب معاصريه من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي بذله جامعو الأحاديث في تحري الدقة وتتبع المصادر الموثوقة، إلا أن اهتمامهم بالإسناد جاء على حساب اهتمامهم بالمتون، بمعنى اهتمامهم بمن نقل لهم أكثر من اهتمامهم بنصوص الأحاديث ذاتها، أضف إلى ذلك أن تدخلت العوامل السياسية في نحل وتزييف الكثير من الأحاديث التي تحايل بها بنو أمية ومن بعدهم بنو العباس لتثبيت ملكهم، ناهيك عن الإسرائيليات التي اقتحمت على الإسلام فطرته وأدخلت إليه ما ليس فيه.
ومع مرور الزمن ظهر ما سُمي بعلم الحديث، وتم تبويب الأحاديث وتقسيمها إلى أنواع، وأشهر تقسيم هو تقسيمها إلى ثلاثة أفرع كبيرة: أولها الأحاديث المتواترة وهي الأحاديث التي أجمع عليها الصحابة ومن بعدهم التابعون وهي أحاديث قطعية النص والدلالة، مثل حديث "من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار"، ويغلب الظن أنه الحديث الوحيد الذي تتوفر فيه صفة التواتر. وثاني أنواع الأحاديث هي الأحاديث المشهورة (أو المستفيضة) وهي التي رواها عن النبي r صحابي أو جمع لم يبلغ حد التواتر ثم رُويت في عصر التابعين وتابعي التابعين مثل حديث "بني الإسلام على خمس ....." وحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى..."، وهي وإن كانت لا تفيد القطع واليقين لكنها تفيد الظن القريب من اليقين. أما ثالث أنواع الأحاديث فهي أحاديث الآحاد، وهذه الأحاديث ظنية النص والدلالة، ليست قطعية ولا قريبة من القطعية لأنها نُقلت كما يدل عليه اسمها من واحد عن واحد، ويندرج تحت هذا النوع آلاف الأحاديث التي نقرأها في كتب الأحاديث المختلفة، وهذه الأحاديث نظرا لوقوع نصوصها في دائرة الشك والظنية، لا تصلح لأن تقيم ولا أن تلغي فرضا لأن الفروض تقوم على اليقين وليس على الظن، ولكن من الممكن الأخذ بها على سبيل الاسترشاد والاستئناس مع إعمال العقل في تحري مدى تماشي نصوصها مع روح الإسلام وتعاليم القرآن الكريم، وهذه الفئة من الأحاديث مرفوضة كلية من بعض الفرق الإسلامية مثل الشيعة والمعتزلة[2]. وتكمن المشكلة الحقيقة في الأحاديث النبوية على اختلاف أقسامها في أن نصوصها لم تأتِ على وتيرة واحدة، فمنها المخصص لحادثة معينة أو الموجَّه لشخص معين، ومنها الذي يميل إلى التعميم، ومنها ما تم نسخه بحديث آخر أو بالقرآن الكريم أو بغير ذلك، أو أن يكون من رواه تصرف خلافه أو أن يختلف تأويله من عصر إلى عصر وفقا لمفاهيم كل عصر.
- بالنسبة للإجماع: إن هذا العنصر تحديدا كان أحد أهم العوامل التي أدت إلى إغلاق باب الاجتهاد لأن الإجماع مستحيل الحدوث، فأدت شرطية هذا العنصر إلى الخوف من الإبداع أو من طرح أفكار جديدة لن تحظى حتما بتأييد الإجماع، ومن هنا، كان تدهور الاجتهاد، وأصبح الفقهاء والعلماء مجرد مقلدين أو شارحين لما فسره من قبلهم دون أن يضيف أحد جديدا. ومع مرور عشرات ومئات السنين، تم إسباغ القداسة على أقوال الفقهاء الأوائل، وتوحدت الآراء الفردية التي لا تعكس سوى ثقافة أصحابها وظروف عصرهم بالدين، فصارت معبـِّرةً عنه ومتحدثة باسمه، كما أُسبغت الألقاب التي تعلي من شأن هؤلاء الفقهاء مثل الإمام العلامة وشيخ الإسلام والإمام الحافظ وغيرها مما رفع من مرتبة هؤلاء الفقهاء إلى مرتبة القديسين الذين يمثل كلامهم الدين وتمثل معارضتهم معارضة للدين.
- بالنسبة للقياس: فأما إذا كان المقصود من القياس هو القياس على الأحكام فهو أمر محمود إلى حد ما، فقد اجتهد الرسول r قياسا على حكم القرآن الكريم الذي يحرم الجمع بين الأختين وحرم به قياسا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لما في ذلك من قطع للأرحام[3]، كما قاس علي بن أبي طالب الحكم بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة وهي عقوبة تعزيرية على حكم قذف المحصنات الوارد في القرآن الكريم على اعتبار أن من تُذهب الخمر عقله لا يدري ما يقول وقد يخوض في الأعراض، لكن قياس الأحكام على بعضها البعض بهذه الطريقة قد يواجه سدا منيعا بعد ذلك من تطور الأمور واختلاف العصور، وإلا فليقل لنا أحد بماذا نحكم على من يشاهد المواقع الإباحية على الإنترنت أو يمارس الجنس التخيلي عن طريق غرف الدردشة؟ وكيف نعاقبه بحكم نصيغه قياسا على حكم قائم في القرآن أو السُنَّة؟
أما إذا كان القياس على العصور بعضها مقارنة ببعض، فإنه على وشك أن يكون محالا في عصرنا هذا الذي يختلف جذريا عن كل العصور التي مرت في تاريخ الإنسانية، إذ تنتفي نهائيا الشروط والظروف والبيئة التي توفرت في عصر الرسالة والعصور القريبة منه مع عصرنا الحالي.
فلا يمكن أن نقيس أحوال أناس العصر الحالي الذي يعيشون في الأبراج الحديثة ذات المصاعد ويسيِّرون أعمالهم بالحاسب الآلي ويتصلون ببعضهم البعض عبر أجهزة الهاتف والمحمول ويعرفون أخبار الدنيا بنقرات بسيطة على شبكة الإنترنت أو عبر الفضائيات ويستخدمون السيارات والحافلات والقطارات والطائرات في تنقلاتهم ويعيشون في عالم تحكمه العولمة ورؤوس الأموال الضخمة والشركات عابرة القارات وتتقدم فيه الأبحاث العلمية بين عشية وضحاها، بأحوال أناس كانوا يسكنون الخيام أو البيوت المتواضعة ذات الطابق الواحد ويسيِّرون أعمالهم على جلود الماعز وصحائف النخيل ويتصلون ببعضهم البعض عن طريق رسائل تسافر لأيام طويلة أو أسابيع سواء يحملها البشر أو الحمام الزاجل ولا يعرفون من أخبار الدنيا إلا ما يأتيهم مشافهة من المسافرين وإذا أراد أحدهم الحصول على معلومة فإنه يسافر شهورا ليحصل عليها من هنا أو هناك، ويستخدمون الخيول والجمال في تنقلاتهم ويعيشون في عالم تحكمه أفكار مغايرة دون أن يجمعه رابط واحد محدد ويبدو متباعدا عن بعضه البعض إلى أقصى حد، إن حال هؤلاء يختلف تماما وكليا عن حال أولئك، ونكاد نؤكد أن نظرة القدماء لأنفسهم ولدينهم وللعالم من حولهم لا علاقة لها تقريبا بنظرتنا نحن الآن لأنفسنا ولديننا وللعالم من حولنا، فكيف نقيس أحوالنا على أحوالهم؟
وهكذا، وبعد هذا الاستعراض السريع نرى كيف ذاب الفرق بين الشريعة والفقه، بل ذاب الفرق بين الدين والفكر الديني، ووحد الناس بين بعض علماء الدين وبين الدين ذاته، وظهرت عبارة المعلوم من الدين بالضرورة، وهي عبارة تحكم بكفر كل من يعارض ما يعتقد الفقهاء إنه القول الفصل، وظهرت طبقة الكهنوت في الإسلام الذي يرفض بطبيعته النقية جميع أشكال السلطة الدينية.
الفرق بين العبادات والمعاملات
تميل العقول المتكاسلة عن العلم والبحث والدراسة إلى التعميم، لأن هذا الأخير يختصر الوقت والجهد ويجعل من الجزء كلا ويكتفي بالنظر إلى جزء واحد دون بقية الأجزاء، وهو الذي يؤدي بمعظم الناس إلى التوحيد بين العبادات والمعاملات، على الرغم من أن العبادات ثابتة والمعاملات متغيرة، ومن غير المنطقي أن يتم تطبيق حكم الثابت على المتغير بدعوى أنها أوامر الله، لأن الله سبحانه هو الذي خلق الدنيا على حالها هذا من التغيير المستمر، بل جعل التغيير سمة فطرية وغريزية في كل المخلوقات وليس فقط الإنسان، كما سنَّ سبحانه التغيير في الطقس والألوان وعادات الحيوانات وأشكال النباتات وغيرها، ومن أقصى نقطة في سماء الكون إلى أبعد نقطة في أعمق المحيطات يعتبر التغيير هو الشيء الوحيد الثابت في الحياة، بالمعنى الحرفي للجملة.
فكيف إذن يتغير كل شيء في الكون ويتبدل ويتطور في حين تثبت أحوال الإنسان على الإطلاق؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تفتح الباب لبيان الفرق الجليّ بين العبادات والمعاملات. إن العبادات ثابتة وموجودة منذ أن أتى الوحي إلى النبي r وحتى الآن، فمنذ أربعة عشر قرنا يقيم المسلمون شعائر الإسلام المتمثلة في أركانه الخمسة بتفاصيلها التي نعرفها جميعا، وقد مارسوها كاملة أيام النبي r واستمروا بعد وفاته في ممارستها إلى يومنا هذا، فهي لم ولن تتغير.
أما المعاملات فلها شأن آخر، لأنها وإن كانت لها أطر شرعية عامة حددتها لها الشريعة الغرَّاء لتحفظها من أهواء البشر وأغراضهم، إلا أن تفاصيلها تُركت في الأغلب الأعم دون تعليق من القرآن أو من السُنة، فقد وضعت الشريعة الإسلامية مصلحة الإنسان والتيسير على الناس ومنع الإضرار بهم وإحقاق الحق والعدل كأولويات أساسية، وأقامت أسس العدالة الاجتماعية وشروط التحضر والرقي الإنساني، لكن تركت التفاصيل لتحقيق ذلك كله لمعطيات كل عصر ووفق ثقافة أهله. لأن ما يصلح للمسلمين في المدينة على عهد النبي r من أمور اجتماعية ومعاملات تجارية ومالية وعلاقات سياسية لا يمكن أن يصلح كما هو للمسلمين في مصر مثلا في القرن الحادي والعشرين حيث موازين القوى العالمية والعولمة والمكانة الإقليمية والتوازنات الاقتصادية وغير ذلك من المفاهيم الحديثة. لكن يظل الأساس قائما وهو البحث الدائم عن تحقيق العدل والرخاء والأمن والأمان وغيرها من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية.
إن الهدف واحد ولكن تختلف الوسائل باختلاف العصور والأفكار ومعطيات التقدم والرفاهية، ومن هنا تظهر علامة تعجب كبرى أمام من يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحالي، هل سألوا أنفسهم ماذا يقصدون بذلك؟ وإذا كانوا قد سألوا أنفسهم وكانت الإجابة أن تطبيق الشريعة يعني قطع يد السارق وجلد الزاني ورجم الثيب الزاني وجلد قاذف المحصنات وشارب الخمر، فهذا ليس تطبيق للشريعة، ولكنه تطبيق لحدود رادعة لا تصلح للتطبيق إلا في مجتمع تتحقق فيه المقاصد العليا للشريعة الإسلامية أولا، ولنا في موقف عمر بن الخطاب السابق ذكره تجاه رفع حد السرقة في عام الرمادة آية ومثال يُحتذى، فالقطع والجلد والرجم والقتل إذا تم تطبيقهم بطريقة مجردة، فإن هذا من شأنه تحويل الدين إلى سلخانة من الأعضاء المتناثرة والدماء المسفوحة دون أن يقيم عدلا ولا يحارب ظلما، بل ربما يشجع على الظلم والكذب والوشاية والرغبة الدموية في الانتقام، مما يُحيي ما كان يُسمى في العصور الوسطى في أوروبا بأفراح الموت وهي الاحتفاليات الوحشية التي كان يتم فيها حرق كل من يعارض الكنيسة حيـًّا وسط هتافات الجماهير وصلوات وابتهالات رجال الدين[4].
ولا يمكن في ضوء معطيات العصر الحديث أن نذهب إلى القرآن الكريم أو السُنة النبوية لنبحث فيهما عن مدى مشروعية إقامة قانون لإسكان الفقراء ولا عن الطريقة المثلى لحل مشكلة المرور ولا عن أفضل الوسائل للقضاء على العشوائيات وإعادة الجمال إلى مدينة تشوهت عن عمد ومع سبق الإصرار، ولا عن كيفية التعامل مع ناهبي أموال البنوك ولا عن التحليل الكيميائي ولا عن قوانين الحركة الفيزيائية ولا عن الظواهر الفلكية ولا عن أحدث الوسائل لمقاومة الأمراض وغير ذلك مما يستعصي على الحصر.
إن العدل الذي تطالب به الشريعة الإسلامية يستوجب أن نتحايل بكافة الوسائل المشروعة التي يمنحها لنا عصرنا لتحقيق ما هو أفضل للإنسان والمجتمع، فإذا كان مشروع إسكان الفقراء يستوجب مثلا سن قانون صارم يحمي مصلحة الفقراء ويمنع الفساد والتلاعب بمصيرهم فليُسن هذا القانون تحقيقا لروح العدالة ودون أن يعتبره البعض بدعة لأنه ليس من القرآن أو السُنة. وإذا ما تطلب البحث العلمي إنفاق المليارات لرفع المستوى العلمي وبالتالي التكنولوجي للبلاد وتطلب الأمر وضع خطة قومية تهدف إلى تشجيع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال للاشتراك في منظومة واحدة لتحقيق التقدم المنشود فإننا لسنا في هذه اللحظة في حاجة إلى فتوى من عالم الدين هذا أو ذاك للتأكيد على مشروعية هذا العمل ومباركته، وإذا شرعنا في البحث عن ما يفيد الإنسان في المجال الطبي لمقاومة الأمراض وابتكار طرق جديدة للعلاج فإن هذا ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية كما قد يدعي البعض ولكنه تسخير للعقل الذي منحتنا إياه هذه المشيئة لنعمر به الكون ونحافظ به على كرامة الإنسان.
إن التفرقة في الحكم بين العبادات والمعاملات تحدد العلاقة بيننا وبين الدين، وتجعل علاقته بنا أقرب إلى علاقة المحرك بالسيارة، فهو الذي يجعلها تدور وتتحرك ولكنه - وإن كان الشيء الأساسي - فإنه ليس الشيء الوحيد الذي يفعل ذلك، بل تساعده عوامل أخرى تنسجم وتتناغم سويا لتحقيق هدف واحد: أن تتحرك السيارة باتزان واعتدال وأمان لها ولراكبيها.
إننا في الإسلام لا نحتاج إلى من يدس أنفه في شئوننا بدعوى الحلال والحرام، بل نحن في حاجة إلى من يضع يده في أيدينا لتحقيق المقاصد العليا للشريعة الإسٍلامية التي لا تهدف إلا لخير ورفعة وسمو الإنسان. وليست المقاصد العليا للشريعة أبدا هي ماذا نأكل وماذا نلبس وكيف نقضي الحاجة وكيف نغتسل، فكل هذه أمور شكلية لا يمكن أن تساعد على تقدم الأمة ولا على رفعة شأن الإسلام، بل إن ما يحقق ذلك هو إقامة العدل ومساندة الحق والسعي الدائم لتحقيق مصلحة الناس ورفع شأن المجتمع والمساهمة لخدمة البشرية جمعاء، خاصة ونحن نعيش في عالم يتسابق سباقا محموما في مجال العلوم والتطبيقات التكنولوجية ويتسابق للقضاء على الفقر ويتحايل ليبتكر الوسائل لتحقيق هذه الغاية، كما تتسابق الدول لتجد لنفسها مكانا في خضم الخريطة العالمية بقوة العلم والاقتصاد والصناعة، فلا معنى وسط كل ذلك أن نسلِّم نحن حياتنا وديننا لحفنة من المغرضين الذين لا يهتمون إلا برفع أرصدتهم في البنوك واكتمال سيطرتهم على الناس، هذه السيطرة التي لم يمنحها الله لأحد من عباده ولا حتى للرسول الكريم r:
)فذكِّر إنما أنت مذكِّر، لست عليهم بمصيطر( (سورة الغاشية الآيتان 22،21).
اختلاف الزمان والمكان والحال
وفي ضوء كل ما سبق وأشرنا إليه، سوف نخصص هذه النقطة الثالثة والأخيرة من البحث في استعراض بعض ما ذهب إليه كبار علماء الفقه السُنِّي من اختلافات في الأحكام والفتاوى تبعا لتغير الزمان والمكان والحال والعُرف.
"يقول ابن عابدين الفقيه الحنفي: "كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عُرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم من المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف ورفع الضرر". ويقول الزيلعي الفقيه الحنفي: "إن الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان". ويقول ابن القيم الفقيه الحنبلي: "إن الشريعة معناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها. وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة أو من الحكمة إلى العبث ليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل". ويقول القرافي الفقيه المالكي: "إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد تتغير أحكامها إذا تغيرت هذه العوائد"[5].
نضيف أيضا إلى ما قاله ابن عابدين الفقيه الحنفي سلفا قولا آخر له في تغير الاجتهاد بتغير العصور والأزمان: "هذا اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان"[6].
ومن الأمثلة التي نسوقها عن تغير الاجتهاد بتغير العرف بين من يتبنون نفس المذهب الفقهي:
"1- (...) أن الإمام أبا حنيفة كان يفتي أنه لا يتحقق الإكراه من غير السلطان، نظرا لما شاهده في عصره من أن المنعة والمقدرة لم تكن لغير السلطان. ونظرا لفساد الزمان، وتغير الحال، وظهور الظَلَمة، فإن الصاحبين[7] أفتيا بتحقيق الإكراه من غير السلطان بناء على ما شاهداه في زمانهما.
2- ومنها: أخذ زكاة الأراضي وهو العُشر من المستأجر دون المؤجر عند الصاحبين هذا مع أن أبا حنيفة كان يرى العُشر على المؤجر، لأن الزكاة مؤنة الملك، ومُلك الأرض للمؤجر، وقد أفتى به الصاحبان لأنه أحسن للزمان وأكثر فائدة للفقراء، وأن الزكاة تُؤخذ من الزرع فتتبع مالكه، وهو المستأجر.
3- ومنها ما أفتى به الصاحبان بما يخالف رأي الإمام نزولا تحت وطأة العرف نظرا لتغير الزمان وفشو الكذب، فقد أفتى أبو يوسف ومحمد بأنه لابد من تزكية الشهود (أي إظهار عدالة الشاهد وصلاحيته للشهادة بواسطة ثقة) علما بأنه مخالف لما قرره أبو حنيفة أنه يكتفى بظاهر العدالة – فيما عدا الحدود والقصاص – ولم يشترط التزكية بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لعيشه في الزمن الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم في الخيرية"[8].
ويقول محمد حسن المرعشلي في موضع آخر:
"ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد، إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لوبقي الحكم على ما كان عليه أولا (...) للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد وذلك من أجل العالم على أتم نظام وأحسن حال.
مثال – 1 – جواز أخذ الأجرة على الآذان وتعليم القرآن والإمامة وسائر الطاعات منعا لضياعها.
وقد أفتى به المتأخرون، وهو حكم خولف فيه ما كان مقررا عند العلماء ومنهم أئمة الحنفية. ففي الحديث عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "يا رسول الله اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا"
وقد جرت مخالفة الحديث نظرا لتغير الزمان وضعف الوازع الديني وفساد الأخلاق، وانقطاع عطايا المعلمين وأصحاب الشعائر الدينية من بيت المال، فاشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة وتجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن وإهمال تلك الشعائر، كذا أفتى ابن عابدين في "الحاشية"، من كتاب الإجرة، وقد توسع ابن رشد في "بداية المجتهد" من كتاب الإجارة في معرض حديثه على إجارة المؤذن في عرض أدلة المجيزين والمانعين."[9]
ومن أشهر الحالات الفقهية لتغير الفتاوى وفقا لتغير الزمان والمكان والحال ما حدث مع الإمام الشافعي الذي مكث في العراق زمنا وأصدر فتاواه وألف بعضا من كتبه، ثم أتى إلى مصر فألف كتبا أخرى نسخ بعضها الكتب البغدادية العراقية، وقام بإجراء تعديلات كبيرة في فتاواه ومنها ما تغير من جذوره وقال بنقيضه وذلك مما رآه من أحوال مصر والمصريين وما فرضته ثقافتهم عليه من رؤية جديدة خلقت فتاوى جديدة، ومن أشهر الفتاوى التي عدلها الشافعي في مصر فتواه بطهارة الجلد المدبوغ ظاهره وباطنه وجواز بيعه، إذ كان قد أفتى وهو في العراق بطهارة ظاهره فقط بعد الدباغة مع عدم جواز الصلاة عليه أو بيعه، وعندما جاء إلى مصر رأى إن دباغة الجلود صناعة هامة ومؤثرة ولها ثقل كبير في الاقتصاد المصري في ذلك الوقت، فما كان منه حفاظا على المصلحة العامة وعلى سلامة الاقتصاد القومي إلا أن أفتى بأن دباغة الجلد تطهر باطنه وظاهره مع إجازة بيعه واستخدامه وتداوله والصلاة عليه مستشهدا بأحد الأحاديث عن النبي r والذي قال فيه "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به".
وكان الشافعي كذلك يفتي بضرورة الوضوء بعد أكل لحم الإبل على ضوء الحديث القائل "الوضوء من أكل لحم الجَزور (الإبل)"، وكان يعتبر الحديث القائل "عدم الوضوء مما مسته النار" حديثا عاما وهو الذي كان يفضل التخصيص، إلا أنه عندما أتى إلى مصر أعاد النظر في هذه الفتوى ورأى أنها لا تتماشى مع روح التشريع القائم على التيسير واعتبر الحديث القائل "عدم الوضوء مما مسته النار" حديثا أساسيا يؤكد على طهارة أي شيء تمسه النار.
وقد انتهج الشافعي نهج التغيير هذا في مسائل أخرى تخص ترتيب الوضوء ونواقضه وشروط التيمم وعقوبة تارك الزكاة وشروط الطهارة وأحكام مختلفة خاصة بالصلاة والصيام والحج والعمرة[10]، واتسمت فتاواه في مصر بالكثير من المرونة ربما يكون قد اكتسبها من الطبيعة السمحة للمصريين وميلهم للسلم وللاستقرار.
الختام
أما بعد، فإن هذا الاجتهاد اليسير ليس إلا محاولة متواضعة لتوضيح ما قد يغفل على الكثيرين الذين أضلهم بعض من يدعون الدعوة للدين، وهم في الحقيقة يروجون لنشر مذاهب متطرفة لدول تدفع بسخاء منقطع النظير ليسود مذهبها ويصبح هو الدين ويصبح من يعارضه معارضٌ للدين.
إن تغير الفتوى أمر طبيعي ويتماشى مع التطور الطبيعي الذي تسير فيه الحياة منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا، فهي لم تتوقف يوما ولن تتوقف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتختتم الباحثة بأن تتساءل، كيف سيواجه المسلمون الله يوم الحساب؟ وبأي وجه؟ إنهم مندحرون مهزومون ضعفاء، مسيَّرون كالأغنام، منحهم الله العقل فداسوه بأقدامهم، ومنحهم الثروات فوضعوها في يد أعدائهم لطلب حمايتهم، منحهم الله قرآنا عربيا فأساءوا فهمه واقتتلوا حول حرفية تفسيره، منحهم الله الكثير من النعم فحولوها إلى نقم، وانتهى بهم الحال إلى ما هم عليه الآن، ارتخاء في العمل وانعدام في الإنتاج وعدم تواجد على الساحة العالمية وانصياع تام لدعاة جهلاء ظهروا فجأة لا نعرف متى ولا كيف وانهزامية تامة أمام حكومات ديكتاتورية لا تهدف إلا للبقاء، وفي النهاية وبعد كل هذا يأملون في دخول جنات عدن، ليتهم يعرفون أن الجنان لا يدخلها المفرطون الأغبياء.
إننا إذا لم ننتبه من غفلتنا ونصحو من غفوتنا ونعمل بجهد متواصل لتعويض ما فاتنا، فستكون النتيجة أننا سنتحول بعد فترة وجيزة من الزمن إلى محمية أنثروبولوجية أو حديقة مفتوحة يسكنها أشباه بشر، وسيتزاحم الزوار من العالم الإنساني المتحضر للمجيء إلينا لمشاهدة هذه الكائنات التي تنتمي إلى سابق العصور وسالف الدهور ومازالت حية تتنفس .... ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المراجـــــع
1) أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، تحقيق د. علي محمد عمر، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000 .
2) أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثامن، دار صادر بيروت، 1990.
3) عباس محمود العقاد، عبقرية عمر، نهضة مصر، القاهرة، 1996.
4) عبد المنعم النمر، الاجتهاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987.
5) محمد سعيد العشماوي، أصول الشريعة، مدبولي الصغير، القاهرة، 1996.
6) محمد سعيد العشماوي، معالم الإسلام، سينا للنشر، القاهرة، 1989.
7) محمد سعيد العشماوي، حقيقة الحجاب وحجية الحديث، روز اليوسف، القاهرة، 2002
8) محمد سعيد العشماوي، إسلاميات وإسرائيليات، دار المعارف، القاهرة، 1999.
9) محمد عبد الرحمن المرعشلي، اختلاف الاجتهاد وتغيره وأثر ذلك في الفتيا، (مجد) المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2003 .
10) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، 1945.
11) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص في دراسة علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
[1] ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثامن، ص 175 .
[2] محمد سعيد العشماوي، "حقيقة الحجاب وحجية الحديث".
[3] عبد المنعم النمر، "الاجتهاد".
[4] لقد تعمدت الباحثة أن تقول "رجال الدين" في هذا السياق وليس "علماء الدين"، لأن الدين المسيحي يعترف برجل الدين الذي تجري علي يديه طقوس الاعتراف ويقدم البركة ويبشر بالمغفرة وبالجنة، فالكهنوت أحد الأسرار الكنسية السبعة، أما الإسلام فلا يعترف بالكهنوت أصلا، ومن يختارون التخصص في علوم الدين الإسلامي يسمون "علماء الدين"، فمثلهم مثل أي عالم في أي مجال، يؤخذ منه ويُرد عليه.
[5] نقلا عن كتاب "أصول الشريعة" لمحمد سعيد العشماوي – ص 78 عن بحث "وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد سلام مدكور في مجلة إدارة قضايا الحكومة – السنة 21 – العدد الأول – ص 28 .
[6] نقلا عن كتاب "اختلاف الاجتهاد وتغيره وأثر ذلك في الفُتيا" لمحمد عبد الرحمن المرعشلي – ص 379 عن "حاشية ابن عابدين" (4/372) طبعة بولاق.
[7] الصاحبان هما الفقيهان الحنفيان أبو يوسف يعقوب ومحمد بن الحسن وكانا من أكبر أصحاب أبي حنيفة النعمان، ومع ذلك اختلفا كثيرا مع فتاواه وفق معطيات عصرهما. (الملحوظة شرح من الباحثة وليست من صميم النص الأصلي)
[8] نقلا عن محمد عبد الرحمن المرعشلي – "اختلاف الاجتهاد وتغيره وأثر ذلك في الفُتيا" - المرجع السابق – ص 380،379 .
[9] نقلا عن محمد عبد الرحمن المرعشلي – المرجع السابق – ص 121،120 .
[10] محمد عبد الرحمن المرعشلي – المرجع السابق.
كتب بتأريخ : الجمعة 07-08-2009
عدد القراء : 2782
عدد التعليقات : 0