الشواكة عذراء بغداد الجميلة تتجاوز سن العنوسة وتغرق في كهولة الزمن الرديء!
نشر بواسطة: Adminstrator
الإثنين 12-11-2012
 
   
الشواكة، المحلة البغدادية التي سكنت شاطئ دجلة من جانب الكرخ، وسكنها هواؤه العليل، هذه المحلة التي اختارها البريطانيون ليكون جانب من أرضها سفارة لهم، كانت رئة التسوق للبغداديين لاسيما منتجات الألبان حيث القيمر الحلي وجبن كركوك ولبن أربيل وأنواع الخضار التي تأتيها من محيط كرخ بغداد لتحط في دكاكينها، وهي المحلة الوحيدة التي كانت محالها تواصل الليل والنهار، فلا تعرف الإغلاق ابداً، فمع غبش الصباح تأتي إليها عشرات الحافلات محملة بأنواع الأسماك الآتية من أهوار العراق ومدن العمارة والبصرة، لتفرغ حمولتها في (سوك السمك) في أحد أزقة علاوي الشواكة المعروفة بـ(باب السيف) وتستمر الحياة في تلك العلاوي، منذ ذلك الغبش، حين تتهادى النسوة والصبايا من الريف وهن حاملات (علب الرائب) إلى حيث يفترشن الأرض بانتظار الزبائن.. ثم يبدأ سوق الخضار بتزويد العوائل بما تحتاجه، وفي أوقات العصر وحتى المساء، ترى أصناف الفاكهة التي لن تجدها في الكرخ، إلاّ في سوق الشواكة، مثلما لن يجد أهالي رصافة بغداد تلك الأصناف إلاّ في سوق الصدرية.. وفي الليل تستقبل علاوي الشواكة، أفواجا من سهارى أنس كرخ بغداد حيث مراتع اللهو والجراديغ، ليتسوقوا لعوائلهم ما لذ وطاب من الفاكهة واللحوم الطرية التي اشتهرت فيها هذه المحلة البغدادية، العريقة، عراقة بغداد. 
علاوي الشواكة، التي شهدت أول معمل للمشروبات الغازية وهو مشروب (كوكتيل) الشهير في أربعينيات القرن المنصرم، الذي ذاع صيته ليصل سوريا ولبنان ما شجع بعض التجار العرب على تصديره إلى تلك البلدان، ومن ابرز ملامح الشواكة (مهدي الكببجي) الذي كان لا يحلو للسفير البريطاني وضيفه الدائم "نوري السعيد" إلاّ التلذذ بالكباب العراقي الذي كان قمته كباب الحاج مهدي.
هذه المحلة، الوديعة الوادعة، التي عاش في درابينها الفنان الكبير يوسف العاني وحمودي الحارثي، ماذا حل بها الآن؟
تجيب الزميلة "إيناس طالب" قائلة ..
حياة شاقة وبقايا جدران تحيطهم لتحميهم من حر الصيف وأمطار الشتاء، وخرق من القماش لمنع تلصص المارة، منازل خربة تحمل هموم بعضها وتشكو سنوات الإهمال، تلك هي محلة الشواكة التي تعد من أهم محلات بغداد القديمة ودكاكينها وسوق الخضر الكبير الموجود فيها يحمل بصمات العديد من الأدباء وكبار رجال السياسة والشعراء الذين تغنوا بقصائدهم أمثال ملا عبود الكرخي الذي كان يسكن في منطقة الصالحية القريبة من الشواكة.
حزن عميق ..
دخلنا إلى المنطقة التي كانت حزينة بسبب إهمالها والسكون يخيم على وجوه ساكنيها، يستقبلك السوق بمحل يقوم بصنع شباك الصيد الذي يجلس فيه الحاج منصور البالغ من العمر العقد السادس.. رسمت ملامح  الكبر، التعب والإرهاق تجاعيد وجهه، ولم تفارق السيكارة شفتيه حتى عندما يتكلم ويتهامس معها قبل أن يطلق الكلمات وأصابعه تحدث وتغازل الشباك التي يحيكها بكل دقة. قال وهو يطلق حسرات وأنينا يحمل أوجاع العمر: تركني أولادي في هذا المحل  لم يرغبوا في العمل به، بعذر أن هذه المهنة انتهت لكني بقيت وحافظت على  مهنة أجدادي رغم التعب وقلة الرزق، اعشق الشباك فكل واحدة صنعتها تحمل همومي، وآلامي، ذكريات جميلة احتضنها دجلة بكل شبكة صيد سمك رماها صياد، لم أترك عملي نهائيا، رغم غزو الشباك المستوردة والرخيصة، يبقى الصيادون يفضلون الشباك المصنوعة يدوياً لأنها أفضل متانة وتدوم فترة أطول ولا تتعرض للتمزق نتيجة استخدامها المتكرر.
يا فتاح يا رزاق..
أطفال يركضون ويقفون يتهامزون في ما بينهم يحملون مسدسات ورشاشات تطلق "الصجم" وسط هذا السوق الضيق، ليعلو صوت أحد أصحاب المحال الخاصة بصناعة وبيع جبن (العرب): "تاليه وياكم" الرجل كان متذمرا ورفض الحديث معنا في البدء لكننا بقينا نستدرجه بالكلام ونسأله عن أسعار الجبن وهل صحيح يسبب الأمراض، رفع الرجل حاجبيه كثيفي الشعر وقال من الذي أرسلكم وماذا تريدون، "يا فتاح يا رزاق" سألناه عن اسمه فقال عامر أبو الجبن ثم صمت وتحدث قائلاً: الجبن فن ومهارة هنا في سوق الشواكة نصنع الجبن بأيدينا ونبيعه بالكيلوات وسعر الكيلو بين 6000 و7000 دينار، وهذا يعتمد على نوعية الحليب وأحيانا نقوم برش الخضراوات "الكرفس" معه ليكون أطيب ولكن القليل يرغبون بذلك، المحال هنا كثيرة وقديمة، لكن هي مكان عملنا ورزقنا، ورثت العمل عن والدي وأولادي يعملون معي وهي مهنة تدر من المال ذهباً، ويأتي الكثير من الناس وأصحاب المحال التجارية يشترون الجبن ليبيعوه في مناطقهم الراقية وبأسعار تتجاوز 10 آلاف دينار للكيلو، اشترك ابنه حيدر بالحديث وهو يبلغ من العمر العقد الثاني قائلاً: أكملت دراستي المتوسطة وأنا اكبر إخوتي، والدي تعب من العمل لوحده، وإذا أنهيت الدراسة، لن أجد تعييناً، فالأفضل ان أتعلم مهنة تنفعني بالمستقبل. تركنا عامر وابنه يقلبان قوالب الجبن ويحضرانها للزبائن والتي يقوم بنقلها رجال كبار في السن وأحيانا شباب بعربات خشبية إلى المحال المجاورة مثل سوق العجمي ومحلة الذهب والصالحية، يقول أبو شهاب البالغ من العمر 13 عاما ويحب أن يطلق عليه هذا الاسم رغم سنه الصغيرة، اجني من نقل أقراص الجبن 8000 آلاف دينار يوميا، وأقوم بتوزيع الطلبات على أصحاب المحال الموجودة في منطقة الصالحية وهذا المبلغ يكفي عائلتي، فوالدي فقد ساقه اليمنى في انفجار منطقة الشواكة عام 2009، وهو الآن يستجدي في إحدى إشارات المرور القريبة من السوق، ماذا افعل بالذهاب إلى المدرسة ومن أين أوفر طلبات عائلتي ومصاريفي.
ملامح قديمة
شوارع ضيقة وبيوت لم يبق منها سوى الملامح القديمة ورائحة رطوبة الدربونة التي ما تزال تحتفظ بالكاد بسماتها، ومياه آسنة تشق وسط طريقها ونفايات متراكمة، بيوتها التي لم يترك تقادم الزمن على جدرانها إلا بعضا من الجص الآيل للاندثار شيئا فشيئا.. هذه البيوت التي باتت تشكل خطرا كبيرا على سكان المنطقة، فتلاصق البيوت وتجاورها وضيق ممراتها تجعل تهدم أي بيت سببا لتساقط البقية المتجاورة من بيوت ذلك الشارع حتى أن بعض العوائل تسكن في ما تبقى من حطام البيوت، لأنها وببساطة لم تجد بديلا يعوضهم عن مساكنهم، عائلة تتكون من 10 أفراد تسكن وسط حطام بيت سقط في انفجار منطقة الصالحية عام 2008 ، يقول أبو عزيز الجد الذي كانت يداه ترتجف وهو يشير بها الى السطح الذي سقط قسم منه، لم نترك بابا للحكومة والمسؤولين لم نطرقه.. وعود كاذبة ولا احد يلتفت لحالنا، المجلس البلدي لقاطع الكرخ يقول اذهبوا إلى مجلس محافظة بغداد ذهبنا أرسلونا إلى محافظة بغداد وهكذا يضحكون علينا.. عدنا نحمل همومنا وأوراقنا رميناها في سلة المهملات ، وحالنا كما ترون لا نستطيع تعمير الدار لأننا نحتاج إلى الكثير من المال وإذا قمنا بتهديم السقف يسقط بيتنا وبيت الجيران فبيوتنا مثل أقراص الدومينو!
يغسلون على الشط
جارته أم علياء قالت: حال الشواكة مع الأسف أصبح هكذا، فأيام تأتي لا يوجد فيها ماء حتى للتنظيف فكيف يكون حصولنا على ماء للشرب، نحمل الأواني والقدور وأحيانا الملابس ونجلس على حافة نهر دجلة ونغسلها، والآن قطعوا علينا الحصة التموينية، الناس هنا فقراء يعتاشون على بيع الخضر والفواكه والسمك وأحيانا الجبن والقيمر وقطع الطرق من قبل القوات الأمنية جعل المحلة معزولة عن اكثر المناطق المجاورة .
صناعة السلال
وتصدير التمور
محلاتنا البغدادية والتي تزدهر بتراثها الأصيل ما أصابها من الإهمال، تراثنا البغدادي في طي النسيان، يكتنزه الخراب بكل مفاصل حياته اليومية، فقد أصبحت بيوتها التراثية آيلة للسقوط وأزقتها المشهورة مكبا للنفايات، مناطق كانت تحتضن وتخرج أبطالا من رياضيي العراق سابقا عامر السباع بطل السباحة بالفراشة الطويلة وعلي الصفار راهب السلة الكروية، وذكريات الأدباء والأبناء الذين ترعرعوا فيها، فضلا عن كونها أكثف مناطق بغداد من حيث سكانها، ويمكن القول إن سوق الشواكة كان بمثابة المغذي الرئيس للعاصمة بكل أنواع الفواكه والخضراوات وغيرها، يضاف إلى أن اغلب ساكنيها يمتهنون مهنا تراثية قديمة حيث تشتهر منطقة الشواكة بالعديد من الصناعات الشعبية مثل صناعة أدوات الصيد يقول محمد كرم: نقوم بصناعة أدوات الصيد المختلفة، وكذلك صناعة "الحبل" بمختلف أنواعه مثل حبل النايلون وحبل الصوف وحبل الوبر وغيرها. وكذلك صناعة المنجل الذي يستخدم في حصاد المحاصيل الزراعية والذي يصنع هنا ويرسل إلى المحافظات لكن الوضع الأمني يعد المعوق الأهم في عدم ازدهار العمل في فترات معينة، حيث تساهم الاضطرابات الأمنية والانفجارات شبه اليومية وغلق الشوارع في ابتعاد الزبائن عن مناطقنا.
بينما علق أبو مصطفى الذي يقوم بصنع الفخار والمهفات قائلاً:  بسبب غياب الكهرباء في فصل الصيف زاد الطلب على المهفات لذلك نرى أن المواطن البغدادي عاد إلى تراثه القديم ليستعين به على الأزمات العديدة التي ما زال يواجهها يومياً،. وكذلك نقوم بصناعة طبق الخبز والسلال التي يطلبها أصحاب بيع التمور وأحيانا يأتون الى السوق ويطلبون منا صناعة أشكال معينة تستخدم لتصدير التمور العراقية إلى الخارج، اضافة  إلى (البستوكة) في خزن المواد الغذائية مثل الدبس والمخللات والأباريق والمزهريات الصغيرة التي تستخدم في المناسبات الدينية.
اخدم نفسك بنفسك
أما أبو حسن الذي كان يحاول فتح انسداد مجاري محله بسبب كثرة استخدامه للمياه لأنه يبيع السمك والذي يتطلب استمرارية تبديل الماء  قال:  تأثر السوق كثيراً بالأوضاع الأمنية المضطربة في شارع حيفا لأن السوق يقع بالقرب منه، إلا أن ما يهمنا هو الإهمال الذي طال هذه المنطقة وكذلك المستنقعات المائية التي نجمت عن انسداد أنابيب تصريف المياه الثقيلة، حيث تم تشويه السوق بشكل كبير وأصبح من الصعوبة السير في بعض أجزائه وكما ترون حالنا نتخلص من المياه من محلاتنا إلى الشارع مباشرة . يضاف إلى ان وزارة السياحة أهملت بعض البيوت التي خصصتها أمانة بغداد كبيوت تراثية في الشواكة ، فقد تحولت هذه البيوت إلى أماكن لرمي النفايات. أين انتم أيها المسؤولون من كل ما يحدث؟ سؤال فقط ونعلم أن الإجابة ستكون: لا تعليق !
عندما يتحدث التاريخ
وفي العودة إلى صفحات التاريخ نقرأ عن الشواكة:
تعتبر الشواكة اعرق وأقدم محلات بغداد، فهي تضرب جذورها في أعماق التاريخ البغدادي وصولا إلى العصر العباسي، وبحكم عراقتها وأصالتها وموقعها الذي كان وما يزال مركز الكرخ الذي كان يمثل عصب الحياة السياسية والإدارية في بغداد، ضمت بين جنباتها مراكز سياسية وإدارية مهمة مثل "مدرسة الملك فيصل" إضافة إلى مساكن ودور إقامة عدد من وزراء الحكومات العراقية والمسؤولين مثل بيت نوري السعيد، ومنازل بعض أشهر العائلات البغدادية ومنهم على سبيل المثال بيت السويدي الذي ما زال ماثلاً حتى الآن، وتم تحويله إلى متحف للمخطوطات العراقية، ولأهميتها وموقعها المتميز اختيرت الشواكة لتضم مقر السفارة البريطانية الذي ما زال ماثلا وشاخصاً ليومنا هذا، وسميت بالشواكة لكونها كانت مكاناً لبيع الشوك وعروق الحطب التي ترد من أطراف بغداد عبر النهر باستخدام الدواب أو على ظهور الجمال التي كانت تنقل الملح أيضا الى مركز بيعه الرئيس في بغداد أي سوق الشواكة، وحاجة المحلة إلى الشوك وعروق الحطب كانت من أجل تشغيل المخبزين الوحيدين الموجودين في المحلة، إضافة الى ذلك ظلت الشواكة مركزاً تجارياً لعموم بغداد، ترد إليها الاجبان والسمك والرز والماش والدهن والحنطة والشعير و"الحصران" من سامراء والبصرة.


المدى- إيناس طارق

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced