حياة شارع: أبو نؤاس 88 عاماً مغمسة بأفراح السلام وأحزان الحروب
نشر بواسطة: Adminstrator
الأربعاء 14-11-2012
 
   
هذا هو صديقي القديم الذي علّمني كيف أشنق عافيتي بخيوط دخان سكارتي، هذا أبي الذي رحل دون أن يقنعني بغرام المسجد رغم إغراءات القداسة وتراتيل النبل، هذا أخي الذي رسمني بلوحته أوتار عود علّقت بكف مجنون، هناك حبيبتي كانت تجلس على تلك الأريكة تكتب رسائل عشقها لي بحبر الورد، هنا على هذه الضفاف كان يكتب حسين مردان مظلومية قصائده العارية لمحكمة العفة، وعبد الأمير الحصيري بجانبه يوثق للتاريخ الذي يراه سر هزيمة الطرق من خطاه، والنساء من حيائه، هناك كان البيان الشعري موقّعا من الشعراء العراقيين، وهم يبحثون في الشاعر عن خيمة يلوذ بها إبداعهم ، متى؟ عام 1969 لتصدر بعد ذلك مجلة الشعر. أين؟ هناك في مقهى ياسين.
تشخيص غير ملزم
نعم، انه هو شارع أبي نؤاس بدمه ولحمه، بمجونه وورعه، بتواضعه وجبروته، بصراخه وبصمته، بفرحه وحزنه، بحكمته وطيشه، شارع لا تشبهه الشوارع أبدا، ذرعت اغلبها ولم أرَ او أشعر بأن بعض أبي نؤاس كان فيها. لوحة عراقية خالصة لم تلونها أصباغ الطائفية او القومية، كتب في هوية أحواله المدنية عراقي.
لا آثار لجوامع ولا أجراس كنائس ولا أطلال معابد، لا قبور أنبياء او مراقد أولياء أو مقامات صالحين، نعم هناك مراقد لكنها لذكريات نبكي ونئن على استحضارها ولكن عبثا، الإعجاز هو كيف خلا هذا الشارع من كل ما هو ديني؟ ولم يتعنصر أو يلوذ بخيمة حزب ما، الماركسي هناك، الليبرالي والبعثي ومن اعتنق الإسلام السياسي، ومن تحاور مع الإلحاد خلسة كلهم هناك، كيف اجتمعوا على عشق شارع ولم يجتمعوا على مبادئ، كيف اجهل ما حدث ويحدث؟ هل خطط لهذا؟ عملا بمقولة صاحبه الذي تسمى باسمه حين قال في زمن كانت البداوة والتعصب الديني حاضرة فيه:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالاً منك في الكاس
ما لي وللناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للناسِ
مرجعية جان دمو
نعم، يا بن هاني ديني لنفسي، ودين الناس للناس، لم يهجُ احدا ولم يحط من قدر دين، وإنما قال لكم دينكم ولي ديني، وها هو في شارعه كما أراد، لا طائفية ولا مذهبية ولا تفضيل لقومية على أخرى، لم يسأل احد هناك الشاعر جان دمو عن مرجعية ولادته ولم يفتش احد في جيب الحصيري عن هويته، ولا تفاجأ البياتي يوما بمن يسأله عن قوميته، هاجسهم الشعر وصاحبهم الخمر وخيمتهم أبو نؤاس.. شارع بطول العمر، بحلاوة مرارته إن وجدت، وبمرارة حلاوته إن اختمرت بعقل مازح أسكره الطيش.
مجيد نوري وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية في حي البتاوين الواقع بالجهة الملاصقة لأبي نؤاس يقول: شهادة ميلاد الشارع تشير الى العام 1934، وشق النهر على أنقاض سدة ترابية عملت من اجل تفادي فيضان دجلة، وبدأ العمل بالشارع منذ العام 1932، ممتدا من نهاية شارع الرشيد مرورا من تحت جسر الملكة عالية "الجمهورية حاليا" وانتهاءً بالجسر المعلق محاذياً لنهر دجلة من ضفته الشرقية. ولم يكن الشارع بهذا الاتساع في بدايته كما يقول نوري، حيث كان عرض الشارع أربعة أمتار فقط.
القبلة الأولى للحبيبة
في بدايته كان الشارع ملاذا لمحال وأكشاك بسيطة تباع فيها السندويشات والعصائر والمشروبات الغازية الشائعة في ذلك الزمن الذي لا ولن يعود، كما يروي نوري ذلك وهو يشعل سيكارته بما تبقى من جمر سابقتها، يقول ويتحسر، يصمت ليتذكر، عسى ولعل مما هو فيه من رائحة الخراب بعطر الذكرى يتعطر، مضيفا أن الشارع بدأ التبليط فيه في عامي 34 و35 من ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتحديد كما يذكر نوري عن سجلات والده الموظف في البلدية بعد 18 عاماً من ولادة شارع الرشيد، ثم اخذ الشارع بالاتساع وذاع صيته بعد أن اكتظ جانبه الأيمن بالحدائق والكازينوهات العائلية ومحال بيع وشي السمك المسكوف، لتصبح هذه المهنة العلامة المميزة لشارع أبي نؤاس، فما أن تدخل الشارع حتى تملأ فمك روائح السمك المشوي، ولا أظن بان أي سائح أجنبي أو عربي سواء كان مسؤولا كبيرا أو مواطنا بسيطا إلا وقصد أبا نؤاس لينعم بأكلة العمر، بل ويلتقطون الصور مع السمك قبل وبعد شيه ليروا في بلدانهم حكايات عن أكلة عراقية خالصة لا ينفرد فيها أي مكان في العالم سوى شارع أبي نؤاس، وحين قاطعته قائلا "يا عمو مجيد هذه الأكلة أصبحت موجودة في معظم مناطق بغداد، وفي اغلب المحافظات، بل أصبحت في اغلب البلدان التي تقطنها الجاليات العراقية في الخارج"، قال بألم واضح تطاير شررا مع دخان سيكارته التي لا تنطفئ متسائلا "هل لذة القبلة الأولى للحبيبة الأولى مثل لذة القبل التي تليها؟ (طبعا لم يقل القبلة وإنما قال البوسه، ولم يقل الحبيبة وإنما قال وليف الصبا.. وما يتبع مشابه لما ذكرت)، هل نكهة الفاكهة التي تتناولها من غصنها، كنكهة التي تشتريها من البقال؟ ،(ابني)... قالها بعصبية واضحة... لا وجه للمقارنة بين سمك سمتي مشوي في مدن خالية من عطر دجلة، وبين بنية أو قطان ما زال طين دجلة ودهن حشائشه عالقين في خياشيمه، (ابني) السمك المسكوف بابي نؤاس فقط، وما سواه غلط، بارد كالحياة الرتيبة التي نعيش".
شاعر المدينة والمدنية
يمتد شارع أبي نؤاس من الجدار الجانبي لثانوية الراهبات "العقيدة حاليا" حتى حي الجادرية قبالة مجمع المنطقة الخضراء التي تضم مباني السفارة الأميركية والبريطانية ومكاتب الحكومة العراقية والبرلمان.
وتعود تسمية الشارع إلى الشاعر العربي الحسن بن هاني المشهور بـ (أبو نؤاس) والمعروف بشاعر المدينة والمدنية والخمرة، والذي غلب على شعره. الوصف الجميل والحكمة والصورة الشعرية التي عبرت عن روح شاعر مدينة قام بثورة شعرية ضد الألفاظ البدوية، متبنيا الحياة الحضرية بجميع تفاصيلها ، فلا غرابة حين تجده يقول في زمن غير زمانه :"لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند.. واشرب على الورد من حمراء كالورد.. كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها.. وجدت حمرتها في العين والخد.. فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة.. في كف جارية ممشوقة القد.. تسقيك من يدها خمرا ومن فمها.. خمرا فمالك من سكرين من بد".
ولد ابن هاني عام 763 ميلادية وتوفي عام 814 للميلاد ونشأ في مدينة البصرة وغادرها ليستقر في بغداد.
ويتوسط الشارع تمثال كبير لأبي نؤاس أزيح الستار عنه عام 1972، نحته الفنان العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك، وبالنسبة للمعالم الأخرى التي تميز الشارع وهي لصيقة به وعشيقة له فاهمها نصب شهريار وشهرزاد وما يمثلانه من حكايات التاريخ المتخم بالترف والعبر، وأخبار الملوك والسلاطين ونوادر الإنسان وأساطير الحيوان، وحكايات الدين والدنيا والحلال والحرام، والنصب بوجوده على ضفاف دجلة الخالد يحاكي ويمجد أسطورة ألف ليلة وليلة، ومبدع النصب هو الفنان الراحل محمد غني حكمت وذلك عام 1972. وظل وسيظل شارع أبي نؤاس لسنوات مضت وأخرى مقبلة شارع الفرح والحب والجمال.

شارع مؤسسات المجتمع المدني
لكنه الآن كما يصفه الشاعر والإعلامي الصديق هاشم أبي نؤاس بشارع الانتحار حين يقول: أظن أن شارع أبي نؤاس هو المكان الوحيد الذي لو أخبرك صاحبك بأنه ذاهب إليه، ستعرف بأنه لا يبتغي غير أن يريح باله وأن يستمتع بليلة أو يقضي عصرية لا مكان فيها للهم والحزن.
ويضيف العقابي: لا اعتقد أن أحدا من الأجيال التي كانت تقصد شارع أبي نؤاس، ولحد نهاية السبعينيات، لم يشعر بحسرة مريرة خلفها بصدره أفول وهج ذلك الشارع في هذه الأيام. قلت مرة: إن من يريد أن يعيد الحياة للعراق، فليبدأ بإعادتها لشارع أبي نؤاس. وما زلت أصر على قولي لحد أني اعتبره شارعا لمؤسسات المجتمع المدني، وليس للهو والعبث كما يحاول البعض أن يصفه. ففيه يلتقي المحبون والشعراء والمثقفون واغلب أبناء الطبقة الوسطى بأجواء من الغنج والفرح والغناء والسمر. إن مجرد حمله اسم أبي نؤاس كاف أن يبرئ من يقصده من التطرف والظلامية والميل إلى الإرهاب والعنف والعصبية. ويجزم انه الشارع الوحيد الذي قد لا تسمع أو تشم به رائحة تعصب ديني أو طائفي. ولو لم يكن كذلك لما استهدفه صدام ومن بعده الظلاميون والمتخلفون.
توقعنا أن شارع أبي نؤاس يقلق دعاة القتل والموت من اليوم الذي خنقه صدام بحملته الإيمانية سيئة الصيت واستمر خنقه بشكل أو بآخر إلى اليوم. ومن ذلك اليوم إلى اليوم أصبحنا نتوقع الأسوأ.
موسوعة الدارميات
لكن ما كان يمر بالبال أن نسمع بامرأة تقصد أبو نؤاس، لا لتغني أو تنثر شعرها ليتعطر بهواء دجلة ونسائمها، بل قصدته لتنتحر، كما يقول العقابي، مضيفا وحتى كلمة الانتحار حين يمر ذكرها مع ذكر شارع أبي نؤاس ما كانت تعني الموت انتحارا. كان لفتة أبو الريحة مثلا، والذي كنا نلقبه بـ "موسوعة الدارميات" يقول: "إني ذاهب لأبي نؤاس لأنتحر"، نضحك وقد نصاحبه إلى هناك لأنه قصد بانتحاره انه سيشرب عرقا تلك الليلة. ولفتة حين يحتسي العرق تتفتح قريحته للدارمي أكثر وأكثر.
شيء مفزع أن نسمع خبر إحباط محاولة انتحار امرأة عراقية على حافة دجلة في شارع أبو نؤاس. كم كنت أتمنى على من أتى بالخبر أن يسأل هذه العراقية التي عمرها 50 عاما عن سر اختيارها هذا المكان. أظنها أول إنسان عراقي يختار الموت في قلب شارع كان ملتقى لعشاق الحياة.
ورغم أن الخبر قد أحزنني لكنه حيرني أيضا. فشخصيا أرى أن اختيارها الموت هناك يحمل رسالة معينة. لكن ما هي تلك الرسالة؟ هذا ما يحيرني. قطعا هي وحدها تستطيع الكشف عنها. لكن هاجسا ما، يكاد يقول لي ما تحمله تلك الرسالة. مع هذا سأحتفظ بهواجسي منتظرا ومتأسيا بقول: "ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا". وشفيعي في عدم بوحي بما أحسه هو أن ليس كل ما "يُحسُّ" يقال كما يقول العقابي.
المقياس لحال العراقيين
وأنا أنظر إلى  تمثال أبي نؤاس داخلا إلى ساحة خمرته كزائر متعبد وهو يرفع كأسه وكأنه يمنحك بركات الدخول في حياة شارع اقل ما يوصف به، شارع الاستقلال من كل شيء إلا من عذوبة الحياة، فهو لا يتنازل عنها أبدا يكون معها وإليها دائما وأبدا، فهو الشارع القياس، نعم القياس، من يريد أن يعرف حال ووضع المجتمع العراقي، عليه أن يذهب إلى أبي نؤاس هناك فهناك يجد ضالته وعلى مصاطب متنزهاته وأرصفته يأتيه الخبر اليقين، وحان لي الآن موقتا أن أودعه وأودعكم لنلتقي معه معاً بعد حين لنقول له ما قاله شاعرنا مجاهد أبو الهيل:
الحب نافذة وقلبُكِ  مقفلُ
ويداكِ  وردٌ أسمر وقرنفلُ 
عيناك خارطة الظلام وهمسك
السكران أغنية الحصاد ... وبلبلُ
نهرٌ من القبلات ...  مرّ على فمي
مسترخيا يمشي  وثغركِ جدولُ
لم احترف إلا يديكِ فدفئُها
مثل العراق عباءة تتهدلُ
وطن يفر من الحروب جميعها
خوفا على بغداده تترملُ

المدى- يوسف المحمّداوي

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced