ليس من المبالغة في شيء اعتبار منهجية التسييس من بين أخطر الظواهر السلبية السائدة في الوسط السياسي. وعواقب هذه العملية جلية ومدمرة بالنسبة للعملية السياسية وآفاقها ووجهة التطور الاجتماعي للبلاد.
ويثير قادة السياسة والرأي في البلاد هذه القضية محذرين من مخاطرها. ولعل من باب الدلالة العميقة، في سياق منهجية التسييس، ما صرح به رئيس الوزراء في ندوة عن حقوق الانسان عقدت الشهر الماضي، اذ قال إن "كل شيء في العراق يسيَّس، حتى مكافحة الفساد الاداري دخلت فيها السياسة، وكذلك الفساد السياسي وحقوق الانسان".
وتؤدي الممارسة السياسية في ظل منهجية التسييس، من بين أمور أخرى، الى غياب الشفافية، والانحدار نحو ازدواجية المواقف والتسلكات، وأجواء الارتياب المتبادل بين القوى السياسية، والتخندق والتعصب السياسي والطائفي، وانتقائية التأويل، واللجوء الى تصريحات مراوغة وغائمة وحمالة أوجه، يصعب الثقة بها والاعتماد عليها في فهم المواقف الحقيقية.
وترتبط منهجية التسييس، وهي انعكاس لغياب تقاليد الثقافة الديمقراطية في مجتمعنا وفي الممارسة السياسية بالذات، بصراع الامتيازات والتشبث بالمصالح السياسية الضيقة. وهي وثيقة الصلة بمعضلة المحاصصات، التي ابتكرها "المحررون" وقد تخيلوا، من بين أوهام أخرى لا تحصى، أنها ستحل أزمات البلاد. أما "المقررون"، الذين استطابوا، وما يزالون، هذه المحاصصات، فقد وجدوا فيها ضالتهم، ذلك أنها تضمن لهم امتيازاتهم، وهذا هو جوهر الصراع السياسي والاجتماعي.
كما أن منهجية التسييس ذات صلة بسلوك الاقصاء. فهناك، عادة، طرف سياسي متعصب يتوهم أنه وحده يمتلك الحقيقة المطلقة، نافياً امتلاك أطراف أخرى لبعض من الحقيقة، بل ومحرماً على هذه الأطراف ما يحله لنفسه. وليس من الغريب أن تلجأ مثل هذه الأطراف الى تسييس الثقافة السائدة، وبينها الدين والمذهب، لاستثمار مشاعر الناس ودفعها في اتجاه واحد، يقابله استثمار مضاد من طرف آخر، مما يهدد باشعال حريق اجتماعي.
ولعل أخطر تجليات منهجية التسييس هذه تتمثل في طبيعة العلاقات والتعامل بين القوى السياسية، وخصوصاً القوى "المقررة" في العملية السياسية. وهذا ما نشهده في الارتياب السائد بين هذه القوى، والتناقضات التي نراها على أكثر من صعيد، والمصاعب التي تواجه عملية الحوار وتبادل الآراء، واللجوء الى ترقيعات وتوافقات هشة وعرجاء. ويمكن النظر، في هذا السياق، الى التوتر في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان مثلاً. وهو توتر نجده، أيضاً، في العلاقات بين قوى سياسية رئيسية في البرلمان، حيث تتجلى الصراعات في المواقف من اقرار القوانين والسعي الى حل الأزمات. وهذا مما يفسر الركود، بل والشلل الذي تعاني منه العملية السياسية، والعوائق الجديدة التي تقف بوجه حل المعضلات المستعصية في البلاد على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ومن بين تجليات هذه المنهجية المواقف المتباينة، بل المتعارضة، للقوى السياسية من موضوع المصالحة الوطنية، حيث لم تتحقق الخطوات الفعلية المنشودة. ولاريب أن من بين أبرز أسباب هذا الاخفاق في هذه القضية الخطيرة سيادة نمط التفكير المستند الى منهجية التسييس.
ولا يندر أن نجد في هذا الشأن، وفي شؤون أخرى، ردود أفعال متناقضة وتصريحات متضاربة، ومواقف يصل بعضها، أحياناً، الى حد التهديد المبطن والتلويح بقطيعة سياسية.
ولو تناولنا الأمر في مثال آخر، هو مثال استطلاعات الرأي، لاكتشفنا مظاهر أخرى. فهناك قصد في محتويات الاستطلاع وأسئلته وتوقيته ومساحته، وبالتالي نتائجه التي لابد أن تكشف عما يعكس ابتعاداً عن قواعد ومعايير الاستطلاع، وأهمها التعبير عن حقائق الواقع واتجاهات الرأي العام بصورة تجسد المصداقية والحيادية والاستقلالية.
ومن بين ما تعكسه المنهجية المطبقة في استطلاعات الرأي في بلادنا أنها تثير الارتياب في أن نتائج بعض الاستطلاعات تبدو معدة مسبقاً، فضلاً عن أن القائمين عليها لا يتمتعون بالثقافة المهنية والمعرفة العميقة بحقائق ومعطيات الواقع. وبالتالي فانه ليس من العسير اكتشاف أن نتائج مثل هذه الاستطلاعات هي أقرب الى الأوهام بسبب نزعة التسييس التي يستند اليها الاستطلاع. ولسنا بحاجة الى إيراد أمثلة على مثل هذه الاستطلاعات التي تخدم، في الغالب، أهداف القائمين بها، وهي، بالأساس، أهداف جهات سياسية تمول العملية وتفرض شروطها الساعية الى الدعاية لمراميها الضيقة.
ومن الطبيعي القول إنه اذا لم تكن نتائج الاستطلاعات قادرة على الاسهام في إضاءة الواقع وتنوير العقول فانها ستؤدي، بقصد أو بدونه، الى طمس الحقائق وتضليل الرأي العام.
* * *
الجميع يتبارون في ذمً التسييس والمحاصصات، ومع ذلك يستمر التسييس وتستمر المحاصصات، ولا يبدو أن في الأفق أملاً يلوح. ولعل هذه الازدواجية في التفكير والسلوك هي من بين المفارقات "العراقية" التي لا يندر أن نشهد تجلياتها في الثقافة السائدة في مجتمعنا، وثقافة السياسيين على وجه الخصوص.
بدون أن يرتبط ذمّ التسييس والمحاصصات بتجسيد للمصداقية، وإرادة سياسية وطنية حقيقية، وإجراءات جريئة، فان العملية السياسية لا يمكن أن تتجه نحو المعافاة المنشودة. وستظل الأزمة خانقة، ومعاناة الملايين أكثر مرارة، والتضحيات أكثر جسامة، والمخاطر أعظم شأناً.
كتب بتأريخ : الإثنين 10-08-2009
عدد القراء : 2696
عدد التعليقات : 0