الصابئة المندائيون طائفة دينية عريقة ، سكنت وادي الرافدين منذ آلاف السنين ، فهم أتباع اقدم ديانة سماوية توحيدية على وجه الأرض وكتابهم المقدس هو الكنز العظيم ( الكنزا ربا ) ، هذه الديانة التي ترفعهم الى مصاف بدايات الأديان والشرا ئع الموحدة في التأريخ . أتخذ الصابئة المندائيون من جنوب العراق وأيران وعلى ضفاف الأنهار موطنا" لهم لأرتباط طقوسهم الدينية بالماء الجاري ، ولكونهم أقلية لا تؤمن بالقتل والعنف وحمل السلاح وتؤمن بالسلام فقد تعرضوا وطيلة قرون عديدة الى الكثير من العمليات الأرهابية والأضطهاد الديني والسياسي والأجتماعي والأيذاء النفسي والأعتداء الجسدي لا لذنب أقترفوه سوى تمسكهم بديانتهم وعشقهم لتراب أرض أبائهم وأجدادهم ، وأزداد هذا الأضطهاد منذ بداية الفتح الأسلامي لأرض العراق في بداية القرن السابع الميلادي ، لغرض نشر الديانة الأسلامية ، مستندين لقول النبي محمد الذي يؤكد على ( إن الأسلام دين الحق ) ، وعلى المندائيين وبقية الأديان من أهل الكتاب القبول بهذا الدين والدخول فيه مجبرين او دفع الجزية ، كما وعاملتهم الدولة الأسلامية فيما بعد بمنطق أهل الذمة ، وكانت نتيجة ذلك مقتل وهجرة الألاف منهم وأجبار آلاف أخرى على تغيير ديانتهم الى الديانة الأسلامية .
ونتيجة لطغيان الثقافة العربية الأسلامية والأضطهاد طيلة قرون ، أنمحت لغتهم المندائية وهي من اللهجات الآرامية الشرقية ، وأكتنف الغموض ديانتهم ، وساهم في ذلك الجهل المطبق لسكان المنطقة من جيرانهم المسلمين في جنوب العراق ، حيث أعتبرهم فقهاء المسلمين ورؤساء العشائر المتخلفين بأنهم من عبدة الكواكب والنجوم .
ويذكر الدكتور رشيد الخيون ، في كتابه ( الأديان والمذاهب بالعراق ) ، ان الجهل بتاريخ الديانة المندائية جعل الطبري ينقل عن الصنعاني / ت 211هـ عن سفيان الثوري بقوله ( الصابئون قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين ) . كما برر البعض نجاستهم لأنهم مشركون حسب الآية القرآنية ..( انما المشركون نجس ) ( سورة التوبة ) ، فأفتوا بأخذ الجزية منهم أسوة بالمشركين بالرغم من حكم القرآن فيهم والذي خصهم بثلاثة سور (( البقره والحج والمائده)) . أما القسم الأخر من الفقهاء فقد أفتوا بقتلهم مما جعلهم هدفا" سهلا" للمتطرفين الأسلاميين والعصابات والسراق . ومن تلك الفتاوى ما افتى به القاضي والفقيه الشافعي ابي سعيد الحسن بن يزيد الاصطخري سنة 328 هـ ايام القاهر العباسي وهو الخليفة العباسي التاسع عشر في ترتيب خلفاء الدولة العباسية ) ، الذي عزم على قتلهم حتى كف عنهم بعد دفع مال كبير له . ويقول البعض ان فتوى القاضي كانت قد استندت الى الآية القرآنية .. (وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) سورة التوبة 29 ، أو الآية ( من ابتغى غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو من الخاسرين ) لذلك فضل المندائيون أثر ذلك الأنزواء كوسيلة للحفاظ على حياتهم ودينهم وتراثهم من بطش جيرانهم .
وطيلة تأريخ العراق الحديث ساهم المندائيون ببناءه وقدموا العشرات من الشهداء بسبب حسهم الوطني ، وفي الثمانينات من القرن الماضي حيث الحروب العبثية للطاغية صدام حسين ، ارسل غالبية شبابهم الى الى الخطوط الأمامية للجبهة رغم ان ديانتهم تحرم القتال ، بغية التخلص منهم لما يملكونه من حس وطني ، وأستشهد منهم ما يزيد عن 25% من مجموع شباب الطائفة في تلك الفترة والذي تجاوز عدة مئات ، أضافة لعشرات الشهداء المناضلين الذين أعدموا لأسباب سياسية ، أما المندائيين في ايران فكان عدد ضحاياهم مضاعفا" الى جانب تعرضهم لحملة واسعة لتغير ديانتهم الى الأسلام .
ورغبة في التخفيف عن هذه المعاناة التي يتعرض لها المندائيون تم عرض الأمر على المرجع الشيعي الأعلى في العراق آنذاك آية الله أبو القاسم الخوئي لتعريفه بالديانة المندائية ووضع بين يديه ما يملكون من كتب وحجج تبين انهم من الديانات الموحدة ، وبعد دراسة مطولة لكتبهم وتاريخهم أعطى رأيه فيهم مؤكدا" بقوله ( ان الاقوى والاظهر بحسب الأدلة ان الصابئيين يعدون من اهل الكتاب ) . الا انه لم يصدر فتوى بذلك ولم تأخذ المرجعية أي أجراء لتطبيقها عمليا" وبقي المندائيون بنفس معاناتهم بالرغم من تغير المرجعيات الدينية لسنوات لاحقة .
وفي لقاء مع المرشد الأعلى للثورة الأسلامية آية الله علي خامنئي في إيران لتوضيح ديانتهم وبعد الأطلاع عليها نفت المرجعية هناك وعلى لسان آية اللة علي الخامئني في كتابه ( الصابئة حكمهم الشرعي وحقيقتهم الدينية ) ، أن تكون ديانتهم متفرعه من الديانات الأخرى بل نظر اليها كديانة مستقلة وقال فيهم (( فمن جملة عقائدهم التي يدعونها ويصرون عليها التوحيد)) ، كما وجه الخامنئي نقدا" للفقهاء الذين لم ينظروا في أمر هذا الدين ، وهو حي بينهم حيث قال في رسالته النقدية (( والحق الذي ينبغي الأعتراف به هو أننا لا نعرف من المعارف والأحكام الدينية لهذه النحلة التاريخية ( المندائيون ) والتي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا وفي عقر بلادنا )) . ورغم هذا الموقف لم تصدر فتوى من المرجعيات الدينية في إيران تحرم قتل المندائيين .
أما بعد الأحتلال الأمريكي للعراق وفقدان الأمن وانتشار الفوضى فقد تعرض المندائيون الى الكثير من الأنتهاكات لحقوقهم ، وأرتكب القوى الظلامية والمليشيات الدينية المرتبطة بقوى الأسلام السياسي الحاكم جرائم بشعة ضدهـم لا سيما في المحافظات الجنوبية والوسطى والعاصمة بغداد ، حيث جرى تكفيرهم من بعض المرجعيات ورؤساء العشائر ، وتعرضوا لأبشع صور القتل المتعمد وهم يمارسون طقوسهم الدينية وأعمالهم ، أضافة للخطف والسرقة وفرض الأتاوات الشهرية والتهجير القسري واغتصاب النساء والأجبار على أعتناق الأسلام ولبس الحجاب وتحريم شراء ممتلكاتهم وذلك لغرض ابادتهم ، وتجاوز عدد الضحايا المئات ومئات الجرحى ، ومع الأسف يحدث كل هذا أمام المرجعيات الدينية والحكومة الطائفية .
لقد قامت رئاسة الطائفة ممثلة برئيس الطائفة وبعض الشخصيات المندائية بمقابلة العديد من المرجعيات الدينية الشيعية والسنية ومنهم مرجعية آية الله العظمى السيد علي السيستاني والسيد مقتدى الصدر ، والمرحوم محمد باقر الحكيم وهيئة علماء المسلمين لغرض توضيح معاناة المندائيين وما يتعرضون له وطالبوا بإصدر فتوى تحرم قتل المندائيين ولكن ومنذ سنوات على هذه اللقاءات لم تصدر مثل هذه الفتاوى . لأسباب قد تكون معروفة للكل .
وبناء على ما مر ذكرة ونتيجة لتصاعد موجة القتل والعنف المتعمد ضد المندائيين وكان آخر الضحايا هو الشاب وئام عبد النبي لازم الخميسي والذي أغتيل في محله في حي الأسكان في بغداد يوم الخميس 6 / آب / 2009 بمسدس كاتم الصوت لا تملكه إلا الدولة أومليشيات الأحزاب الأسلامية الحاكمة وسرق محله ، تصاعد الأحتجاج بين أبناء الطائفة المندائية لمناشدة رئاسة الطائفة والمنظمات المندائية المدنية برفع صوت الأحتجاج عاليا" ضد هذه الجرائم والتي عادة ما تسجل ضد مجهول ، خاصة وان كافة الأدلة ومن خلال إلقاء القبض على بعض القتلة المجرمين والتحقيق معهم تشير ان القائمين بها ينتمون الى مليشيات شيعية مرتبطة بالأحزاب السياسية الطائفية الحاكمة في بغداد وموجهين من قبلهم .
وقد يتصور البعض منا ان أصدار فتوى في قضية معينة هو امر بسيط يقوم به المرجع الأعلى ولكن هناك الكثير من الأمور قد تكون غامضة للبعض وإن غالبية الأحزاب السياسية الشيعية الحاكمة اليوم في بغداد لها مرجعيات مختلفة بإختلاف الحزب ومرجعيه ، فهناك مرجعية السيد السيستاني ، واليعقوبي ، الشيرازي والحائري والحكيم ومقتدى الصدر في المستقبل القريب وغيرهم الكثير ، فألى منّ من هؤلاء نوجه ندائنا لأصدار الفتوى لحماية المندائيين من القتل خاصة وان جميعهم يستنكرون عمليات القتل هذه .
ودعونا نسلط الضوء قليلا" عن عمل المرجعية الدينية وأهدافها ...
يؤكد العاملون في المرجعية الدينية في النجف ، على إن عمل المرجع ( هو تزويد المؤمنين بالفتاوى الشرعية في مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، والسعي لترويج الدين الحنيف على نهج أئمة أهل البيت بما يشتمل عليه من مكارم الأخلاق ورعاية حقوق الآخرين وعدم التجاوز عليها ) .
ومن عمل المرجعية المذكور أعلاه نلاحظ التركيز على عبارة ( ترويج الدين الحنيف على نهج أئمة أهل البيت ) وهذا يعني التركيز على شيعة أهل البيت فقط دون المذاهب الأسلامية وهم أخوة لهم بالدين ، فما بال حال الأديان الأخرى وحال المندائيين الذين يعتبرونهم كفرة ومن أهل الذمة .
ـ إن كل فتوى يصدرها أي من رجال الدين لا تطبق من قبل كافة المسلمين بأي حال ، بل تطبق من قبل تلك الجماعة التي تقلده ، وهي معروفة تماماً لدى أتباع المذهب الشيعي . ويمكن أن لا يزيد عدد أفراد من يقلده عن عدد أصابع اليد أو أكثر بقليل بسبب كثرة رجال الدين في العراق . .
ـ عندما تصدر أي فتوى من قبل رجل دين يمكن أن يختلف معه بقية رجال الدين ، وبالتالي فهو اجتهاد شخصي لا غير ، فالفتوى لا تعتبر ملزمة بأي حال لغير من يقلدون المرجع حيث إذ أن باب الاجتهاد مفتوح لكل رجال الدين ، فمثلا" أذا أصدر السيد على السيستاني فتوى لصالح المندائيين لربما لا يلتزم بها السيد مقتدى الصدر بسبب المصالح والجهات الممولة والخلافات بينهم يضاف لها أتهام مرجعية السيد السيستاني بالمرجعية الصامتة وهكذا بقية المراجع وقد بدا هذا واضحاً لدى عدد من المسؤولين السياسيين الذين أكثروا من زيارة رجال الدين لأخذ الفتوى أو النصيحة منهم .
- على من يصدر فتوى بشأن قضية معينة ، يفترض فيه أن يعي بعمق وشمولية عدة مسائل جوهرية وهي
مسؤوليته المباشرة في ما يصدره من فتاوى وتأثيرها على واقع المجتمع واحتمالات إثارة المزيد من المشكلات في البلاد وان يكون ملما" بطبيعة القضية التي يراد بحثها والتعمق في فهمها من مختلف الجوانب ، وموقف المرجعيات الإسلامية بشأنها منذ العهد الأموي والعباسي والعثماني .
وبناء على ما سبق يمكننا الأستدلال على إن كافة المرجعيات الدينية سوف لن تقوم بإي تعاطف مع معاناة المندائيين ولا بإصدار أية فتوى لصالحهم لتحرم قتلهم والأسباب عديدة ومعروفة وأولها عدم اعتراف هذه المرجعيات أصلا" بالديانة المندائية كديانة سماوية مهما قدمت لهم من وثائق وكتب تثبت ذلك ومهما أدعت هذه المرجعيات من تعاطف في السنوات السابقة والغرض بات واضحا" هو بناء الدولة الأسلامية بالعراق على غرار الجمهورية الأسلامية في ايران .
وما على المندائيين اليوم ألا التعاون مع بعضهم وتوحيد كلمتهم ونسيان خلافاتهم الجانبية وبناء حياتهم بالمهجر من جديد ، وتوثيق علاقاتهم مع المنظمات الدولية والمعنية بحقوق الأنسان وأيصال صوتهم لها ، التعاون مع كافة الجهات والأحزاب السياسية الوطنية المناضلة وغير الطائفية والتي وقفت مع المندائيين سابقا" وتقف وتتعاطف معهم حاليا" ، والوقوف لجانب الأقليات العراقية الأخرى والتعاون معها لكونها تتعرض لمصير مشابه ، ومواصلة الأحتجاجات من خلال مؤوسسات الطائفة الدينية وإتحاد الجمعيات المندائية في المهجر وتطوير الخطاب الإعلامي عبر ما يكتبه الكتاب والمثقفون والفنانون فهي الطريق الأسلم للحفاظ على الطائفة من الأنقراض .
كتب بتأريخ : الجمعة 14-08-2009
عدد القراء : 2736
عدد التعليقات : 0