مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية العراقية في السادس عشر من شهر كانون الثاني المقبل ، تتصاعد حمى الكيانات السياسية في تشكيل تحالفات تخوض فيها الانتخابات ، سيما وإن القوى السياسية العراقية على إختلاف مشاربها إمتلكت خبرة في التحالفات أقلها ما سبق إنتخابات البرلمان السابقة ، وبغض النظر عن خلفية كل حزب أو كيان سياسي ، فإن التحالف والتكتل مع الاخرين صار سمة للعمل السياسي العراقي ، برزت بشكل كبير بعد سقوط النظام الدكتاتوري .
إلا إن التحالفات التي إنبثقت في غالبيتها ـ في الفترة المنصرمة ـ آلت الى الفشل بسبب من طبيعة تلك التحالفات أولا ومن طبيعة القوى والظروف التي تحالفت بها ثانيا وأخيرا بسبب الاهداف الحقيقية التي لم تعلن عند تشكيل تلك التحالفات والتي كانت تدور حول إقتسام مغانم السلطة . لذلك جاءت التحالفات مشوهة في كتلها الأكبر والتي قامت على أُسس طائفية وأخرى قومية ، مما أدخل البلد في أتون تقسيمات طائفية أدخلت الجميع في دوامة حرب كارثية لم تنته أوراها الى الان رغم كل الاعلانات التي تبنتها القوى المتنفذة في السلطة بإنتهاء خطر الحرب الاهلية أو التقسيم الذي كان قاب قوسين أو أقرب من مستقبل العراق . واليوم وقبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة صارت تلوح في الافق تحالفات أخرى ليست بأفضل حال عن سابقاتها ، إبتدأت بإعلان تحالف الائتلاف الوطني الذي قام على أطلال تحالف طائفي كان يسمى الائتلاف العراقي الموحد ، لكنه لم يكن عراقي التوجه ، بل طائفيا ، ولم يكن موحدا ، فقد دبت الخلافات في أوصاله منذ إعلان فوزه متمثلا في الصراع على تقاسم الحقائب الوزارية والصراع الكبير على منصب رئيس الوزراء بين بعض أهم رموزه، ولم يكن يجمعه سوى الغطاء الطائفي المقيت ، والذي لم تستطع القوى المكونة له أن تنزع عن نفسها العباءات الطائفية رغم كل التغييرات التي حدثت في أسمائها أو في خطابها المعلن أو حتى إنشقاقاتها ذات الاهداف غير الوطنية والتي تدور حول ناعور الطائفة والحفاظ على المكاسب السلطوية لا غير . وبالرغم من إحتواء الائتلاف الجديد لقوى سياسية لاتنتمي الى نفس الطائفة ، إلا إنها دخلت الائتلاف تحت يافطة طائفتها ومن أجل مواقع في السلطة الجديدة التي ستـنبثق عن الانتخابات القادمة . أما على الضفة الاخرى من القوى الطائفية ، فبرغم التشرذم الذي يحيق بها إلا إنها لم تتوان عن إعلان هويتها الطائفية وإحتمال عودتها الى نفس تحالفها السابق ردا على التحالف الطائفي المقابل الذي إنبثق أخيرا .
وأيضا فإن بعضها ينوي الدخول في تحالف على أساس طائفته مع قائمة دولة القانون التي لم تثبت رغم فوزها في انتخابات مجالس المحافظات تخليها عن إنتمائها الطائفي ، وما تقوم به سلطتها في البصرة خير دليل على ظلامية توجهها . من هذا العرض المختصر تظهر الصورة تمسك القوى الطائفية بنفس نهجها وطائفيتها رغم كل إعلاناتها التي ترمي بها تلميع صورتها ووضع بعض الرتوش الزائلة حتما . وكذلك يبرز وقوفها في خندق القوى الظلامية من الصراع الدائر الان في الساحة العراقية ،مقابل قوى ديمقراطية تدعو الى علمنة الدولة والمجتمع وإنتهاج سياسة تبتعد كليا عن المحاصصة الطائفية المقيتة وعن فكر العودة الى الوراء ، إلا إنها مازالت مبعثرة لم تتفق على برنامج محدد ورؤى مشتركة واضحة ، وهذا ما ساعود اليه لاحقا في نفس هذا المقال ، لكن لابد من التوقف عند القوى القومية الكردية التي تمتلك تاريخ وأرضية جيدة لتكون ضمن القوى الديمقراطية الداعية للعلمانية ، إلا إنها وللاسف الشديد إنساقت منذ تشكيل الحكومة العراقية المنبثقة عن الانتخابات السابقة مع القوى الطائفية المحاصصية في تقاسم النفوذ والسلطة، مما جرها الى أن تقترب في بعض مواقفها من الشوفينية ، بحجة الدفاع عن مصالح الشعب الكردي المضطهد منذ عصور ، متناسية كل القوى التي وقفت الى جانبها في أحلك الظروف ودافعت عن مصالح الشعب الكردي بل وصاغت الكثير من شعاراته المرحلية والستراتيجية وإرتقت في كثير من الاحيان الى حد حمل السلاح مع أبناء الشعب الكردي العراقي من أجل نيل حقوقه المشروعة كاملة . إن القوى القومية الكردية المتمثلة في الحزبين الرئيسيين ( أوك وحدك) لا تزال تستطيع أن تلعب دورا محوريا في تجميع القوى الديمقراطية والداعية للعلمانية بل وحتى طيف واسع من القوى الليبرالية ، وأتصور إن إنتخابات إقليم كردستان وما تمخض عنها من نتائج ، تساعد الى حد كبير في إعادة رسم صورة التحرك اللاحق للحزبين الكرديين الرئيسيين بعد التراجع الذي حصل في جماهيرتها وظهور قوى كردية جديدة مؤثرة في الساحة السياسية الكردستانية ، ورغم الزيارات المتكررة لبعض الشخصيات السياسية لكردستان ومحاولة الايحاء بنية تحالفها مع القوى الكردية إلا إن هذه الاخيرة لم تعلن بعد كل توجهها التحالفي في خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة ، مما يجعل الباب مشرعا لكثير من الاحتمالات صوب اليمين أو اليسار بسبب من الطبيعة الطبقية للقوى المتنفذة في قيادة الاقليم أو الحزبين الرئيسيين . وهنا يأتي دور القوى الديمقراطية ـ العلمانية لحث القوى الكردستانية للانضمام الى التحالف المنشود الذي يضوي تحت لوائه كل الطيف الواسع من القوى الديمقراطية وحتى الليبرالية ، والتي لم تجد الى الان مشتركات تكفي للتوحد كما يبدو، رغم إن أرضية الواقع تشير الى العديد مما يمكن أن يكون أساسا صلبا لتحالف قادم قد يتعدى الانتخابات القادمة وبرلمانها .
تجارب العراق تحديدا وبقية شعوب العالم أثبتت إن ماكان بالامس صالحا لتحالف ما، قد يصبح اليوم مثابة خلافات مستديمة ، فالمعارضة لنظام دكتاتوري تم إسقاطه لا تمسي مشتركا لتحالف لاحق، وتجربة جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 تؤكد هذه الحقيقة ، فبعد إسقاط النظام الملكي مباشرة دب الخلاف والتشتت بين قوى الجبهة ولم ينته إلا بعداء مكشوف ومستديم مازال بين بعضها الى يومنا هذا ، ولا مناص من الاعتراف بأن القوى التي لم تستطع تحقيق تحالف ناضج وهي تشترك في هدف واحد ، إمتلك كل مقومات التجميع ، كيف لها أن تستند الى نفس المشترك وقد إفترقت في الاهداف والمواقع ؟ بعد سنين عجاف من التردي والتراجع ، لم تستطع خلالها سوى الايغال بمزيد من الخلاف والتناحر والانتقال من موقع الى اخر يباعد بعضها عن بعض على إسس بناء الدولة وشكلها والتعامل مع الديمقراطية كبناء يؤسس لعراق جديد . من هذا فإن تحديد شكل الصراع وقواه في المرحلة الحالية يعتبر أساسا أمثل لتحديد التوجه اللاحق للتحالفات التي تنوي القوى الديمقراطية إقامتها ، فكما معروف إن كل خلافات القوى المتصارعة على السلطة ذات منطلقات فكرية عميقة ، لم تأتِ من الفراغ ولا تغاير الطبيعة الطبقية والاجتماعية لها ، فالقوى التي تريد بناء نموذج الدولة المستندة الى فكر الدين قالبا ومضمونا تقف في خندق القوى الرامية الى تأسيس إقتصاد حر تنمو فيه البرجوازية الطفيلية ـ الكومبرادورية والتي تشل بناء الاقتصاد الجديد وإعادة تركيب البنى التحتية المهدمة ، وتلتقي في الاخر شاءت هي أم أبت ، مع قوى خارجية لاتريد للعراق إقتصادا وسياسة وثقافة و... و... أن يستقر ويزدهر ، وبذلك فإن الافتراق مع هذه القوى يشكل صلب النضال حاليا ومستقبلا، لقوى تريد بناء نموذج دولة العدالة الاجتماعية المستندة أيضا الى إقتصاد حر لكن بشروط وضوابط الدولة ، والتي تهدف بالاخرالى بناء نموذج الدولة المدنية الديمقراطية المتباعدة في الاسس والتوجه عن نموذج الدولة الذي تريد بناؤه قوى الضفة الاخرى . من هذا فإن أي تحالف أو حتى إتفاق إنتخابي بين هذه القوى المفترقة في كل شئ يعد تنازلا من أحدها عن الصراع القائم أو هو إستسلام من جانب الضعيف للأقوى ، وتكمن الخطورة الاكبر في هذه الحالة بإحتواء القوى الديمقراطية من قبل القوى المناهضة لمشروعها ،. وبذلك فإن القوى الديمقراطية تكون قد تخلت تماما عن الجماهير الشعبية العريضة التي ترى فيها المنقذ والساعي لتنفيذ طموحاتها المشروعة .
من كل هذا وذاك فلا خيار أمام قوى التيار الديمقراطي واليساري تحديدا سوى البحث عن انجع الوسائل والسبل لايجاد صيغة اتفاق فيما بينها،يضمن عدم اشتراك أي فئة أو قوة كانت في يوم ما مساندة للنظام الدكتاتوري المباد أو مازالت بعلاقة مع بقاياه ، مهما كانت ادعاءات هذه الفئات الحالية في الديمقراطية أو العلمانية أو الليبرالية أو غير ذلك من الشعارات الرنانة التي ترددها في الابتعاد عن المحاصصة أو إدعاء محاربة المحتل أوغير ذلك . إن إتفاقا كهذا من شأنه أن يبعد القوى الديمقراطية عن حالة التشتت التي تعيشها ، ولكي ترتقي لهذا لابد لها من الارتقاء أولا عن فكرة المناصب والمراتب ، ومن هو الاول ومن هو الثاني ، فهمّ الوطن اكبر ، وطموحات الشعب اكثر مشروعية ، وتأمين المستقبل لأجيال ضحت واخرى في الطريق ،هو الدَّين الواجب السداد في كل وقت وقبل كل شئ .
إن الجماهير العراقية عطشى لمن يتبنى مطاليبها ، وتاريخيا كانت تلك الجماهير ومازالت تساند من يدافع عنها ومن يتقدم الصفوف من أجلها ومستقبلها ، فلا طريق أو خيار أمام القوى الديمقراطية سوى اللجوء الى الجماهير لتبني مشروعها الديمقراطي والبحث عن الخيارات التي تقربها من الناس لأجل الوصول الى المواقع التي تساعدها لتنفيذ وعودها وتقديم كل ما من شأنه أن يرسخ الديمقراطية على أسس متينة تضمن عدم عودة الدكتاتورية بأي شكل أو غطاء، وتحت أي مساندة أو دعم ، وخلف أي فكر .
كتب بتأريخ : الأحد 13-09-2009
عدد القراء : 2600
عدد التعليقات : 0