ليسجل التاريخ أنه في يوم 19 رمضان 1435 (الموافق 17 يوليو 2014 ) تعرض مسيحيو الموصل، وهم سكانها القدماء قبل اجتياح الغرباء لها، إلى واحدة من فظائع الإسلام السياسي، ممثلًا بجماعة أعلنت «دولة الخلافة الإسلامية» بعد أن كانت تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). أقول «الإسلام السياسي» ولا أستثني جماعة، لأن بياناتهم علقت على هذه الفظاعة بما يشبه العتب، على هدى القول: «إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ/ ويبقى الود ما بقي العتابُ» (ابن عبد البر، بهجة المجالس). لا تجد بياناتهم تتجاوز قول علي بن الجهم (ت 249هـ) أعلاه في صديق له. كأن «داعش» فضحت المخبوء من فظاظتهم. إنها فضيحة الوعي المخبوء باستلاب عقول الشباب بالدعوة أولا.
سأنطلق من مثالين يبينان بوضوح فضيحة التخلف عن الماضي البعيد والقريب، وكلاهما حصلا بالموصل، أحدهما تصرف فقيه موصلي والآخر لحبر من أحبار مسيحيي الموصل، يدللان على رداءة الحاضر بوجود هذه الجماعات، وحربها ضد فكرة الوطن، لأنها تأخذ المذهب والدين العابرين للحدود الوطنية كنهج في السياسة، وبالتالي لا يبقى للوطن معنى، وإلا كيف لغرباء يتحكمون في البلاد باسم الدين، يكفي أنها فكرة «الخلافة»، التي كانت منسجمة مع عصر الممالك الشاسعات.
اقتبس المثل الأول من «طبقات الشَّافعية» لجمال الدين الإسنوي (ت 772هـ) في نقله لرواية تدريس فقيه شافعي للتوراة والإنجيل لمعتقديهما بالموصل. قال: لما عاد الفقيه الشافعي أبو الفتح موسى بن يونس الملقب بكمال الدين (ت 639هـ/1241م) إلى مدينته الموصل، «عكف على الاشتغال يُدرِّس بعد وفاة أبيه في مسجده، وفي مدارس كثيرة، وكان مواظباً على وظائفها، فأقبل عليه الناس، حتى أنه كان يقرئ أهل الذمة التَّوراة والإنجيل».
أقول: لو كانت الرّواية أُحادية النقل من الإسنوي فقد يُظن بعدم واقعيتها، لكن تعالوا نرى ما قاله فيه القاضي ابن خِلِّكان (ت 681هـ)، والذي تردد عليه بالموصل بحكم صداقته لوالده: «وكان أهل الذِّمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، وشرح لهما هذين الكتابين، شرحاً يعترفون أنهم لا يجدون مَن يوضحهما لهم مثله» (وفيات الأعيان). لم ير معاصرو «كمال الدين» تصرفه بالغريب، ولم ينعتوه بردة أو انحراف، بل على العكس، قيل فيه: «تُجر الموصل الأذيال فخراً/ على كل المدائن والرُّسوم/ بدجلة والكمال هما شفاءٌ/ لهيمٍ أو لذي فهم سقيم/ فذا بحر تدفق وهو عذبٌ/ وذا بحرٌ ولكن من علومِ» (وفيات الأعيان، المصدر نفسه).
لستُ ممَن يأخذون بانتقاء النماذج، كي أبني عليها فكرةً أو اعتقاداً أو ظناً، إذا لم تكن سلوكاً مارسه صاحبه عن وعي، مع أخذ فارق الزمن بنظر الاعتبار، وما بين بن يونس (كمال الدين) وفقهاء الفتنة اليوم أكثر من ثمانية قرون، وأن أجداد هؤلاء المقصيين من أرضهم ممن قرؤوا الإنجيل على يده. فما معنى الزمن لدينا؟ هل ينطلق منكوساً؟ كيف نفسر آيات السماح والتعايش في ظل هذا التخلف؟ وماذا يبقى منها وقد نسخوها معنى؟
إن مثال تصرف الفقيه «كمال الدين» ليس عادياً في زمننا البهيم، وأراه كان مقبولا قبل ثمان مائة عام! فتأمل فداحة الوعي المخبوء للمنطقة، وما يحصل بالموصل، وسط ظلم مرير، قد يُبرره الماضي بالحروب والغزو المتبادل، لكن بما يُبرر في الحاضر، ويمارس على جماعة مسالمة قولا وفعلا، قد تعجز الكلمات عن التعبير، ولمحمد مهدي الجواهري (ت 1997) قول في «دواعش» سابقين كانوا قد منعوا تعليم البنات: «يدي بيد المستضعفين أريهم/من الظلم ما تعيا به الكلماتُ» (الرجعيون: 1929).
أما المثال الثاني، وهو تصرف صدر من حبر مسيحي، ومن أهل الموصل أيضاً، تجاوز كل اختلاف ديني، ما مضى وما أتى منه، إنه بطريارك الكلدان الكاثوليك (1900-1947) يوسف بن توما عمانوئيل الثاني، والمولود بالقوش التاريخية بعمارتها ومسيحيتها، والمجاورة للموصل، تصرف بمسؤولية عالية، عابراً بقية الحدود، إذ نقل عنه العراقي اليهودي مير بصري (ت 2006) الآتي:
«إن القيادة العثمانية نفت إبان الحرب العظمى الماضية (الأولى) نفراً من وجهاء بغداد من مختلف الطوائف والمذاهب وأشخصتهم إلى الموصل في طريقهم إلى الأناضول، فذهب الفقيد إلى القائد الألماني فون درغواز باشا يشفع فيهم. فأبدى المشير استعداده للعفو عن المسيحيين منهم فقط. فقال الحِبر: إنني رجل دين، أب للجميع، ولا أخص ملتمسي بفريق دون فريق، فاعدهم جميعاً أو فاجلهم جميعاً، ولم يكن من القائد إلا أن أجاب سؤله، وأمر بإعادة المنفيين جميعاً» (أعلام السياسة في العراق الحديث). علق بصري على هذا التصرف قائلا: «وإن في هذه المأثرة لعبرة لنا ودرساً، فهي تُعلمنا أن الإنسانية فوق الطوائف والأديان» (نفسه)!
أقول: أي النموذجين، كمال الدين الشافعي أم عمانؤيل الكاثوليكي، لا يفضح رداءة الوعي المخبوء في أردان هذه الجماعات، وقد امتلأت صدورهم بالكراهية! فالموصل بسمائها وأرضها هي نفسها، وعلى حد تعبير محمد سعيد الحبوبي (ت 1915): «سماء اليومِ مثل سماءِ أمسٍ/ وما نقصت سمواً وارتفاعا» (الديوان). فما انتقص غير العقل، ويصعب وصف ما حصل بالتراجع أو تشبيهه بالقرون الوسطى، فتلك القرون قياساً بمستواها الاجتماعي والسياسي والثقافي تعد متقدمة. من الخطأ وصف هؤلاء بالتراجع، إنما وصفهم بالعبث بدماء وعقائد الناس.
خيّرَ «أمير المؤمنين» أُصلاء الموصل بين ثلاثة خيارات: الإسلام، أو عهد الذمة، أو السيف، واختتم بيانه بالعبارة: «وقد مَنّ عليهم أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم، أعزه الله، بالسماح لهم بالجلاء بأنفسهم فقط من حدود دولة الخلافة»، محدداً لذلك موعداً وإلا «ليس بيننا وبينهم إلا السيف» (بيان الخلافة). أية جزية تؤخذ من عمانؤيل الثاني، بعد أن ألغتها الخلافة نفسها، إذ أقروا أنهم امتداد للخلافة العثمانية، وأي سيف تُعرض عليه رقبته؟!
أما اتحادات وهيئات الإسلام السياسي، من طلاب الخلافة، من «إخوان» وسلفيين جهاديين، فمثلما مر بنا، فقد تقدموا بالعتب على «أمير المؤمنين»، لأنه تعجل بإعلان الخلافة خارج شروطهم، وفعل ما يُنقَم عليهم دولياً، من دون الإشارة إلى أن هؤلاء المجلوين كراهيةً هم أصحاب البلاد الأُصلاء ومعمروها، وإن ما حصل قد فضح ما تأخر الإسلام السياسي عن إعلانه، فتقدموا له بالعتب، مثلما أقاموا المآتم على روح أبي مصعب الزرقاوي (قُتل 2006)، دون أن ترف شعرة من لحاهم على المقاتل الطائفية الدينية التي اقترفها تنظيمه. ماذا نُسمي هذا بغير فضيحة الوعي المخبوء!