بعد تكليف رئيس الجمهورية فؤاد معصوم لحيدر العبادي بتشكيل الحكومة؛ ثارت ثائرة نوري المالكي، ومعه رهطه، واعتبر ما حصل التفافاً على الدستور، وأن رئاسة الوزراء لرئيس «دولة القانون»، وقد كررها: المالكي رئيس «دولة القانون» ورئيس كتلة «حزب الدعوة»، كي يُسمِع مَن لم يسمع به، وأعلن أن تكليف رفيقه في الحزب غير شرعي، بينما أعلنت الدول الكبرى والأمم المتحدة تأييدها للترشيح، وكانت أميركا في المقدمة، وفي هذه اللحظات نسي المالكي أزمته مع الكتلة الفائزة الأكبر في البرلمان (2010)، ونسي أن مؤتمر أربيل (2011) منحه رئاسة الوزراء ووقوف أميركا معه.
اتهم المالكي أميركا والكتل السياسية كافة بالمؤامرة، ولا ندري مع مَن سيتفاهم إذا صار العالم كله متآمراً عليه، ماعدا الرهط الذي أحاط به وهو يُلقي خطبته النارية (مساء الاثنين11 أغسطس الجاري). ففي لحظة تنكر المالكي بخُيلاء لدور أميركا في وصول حزبه إلى السلطة باجتياح بغداد، ثم تكليفه في المرة الأولى والثانية. ظهر محتداً ضد ترشيح العبادي بالمزاج والحدة نفسها التي ظهر بها وهو يطعن في فوز «القائمة العراقية»، بينما لم تظهر هذه الحدة عند اقتطاع محافظة الموصل، ولا تفجير من التفجيرات الكارثية، ولا ما عبثت به الميليشيات المتصلة به بأرواح الناس بزيونة وغيرها.
لابد أن الفضل الأميركي لا يفارق ذاكرة أقطاب «الدَّعوة الإسلامية»، وما في تلك اللحظات مِن اعتبار، قد يخفف مِن الغرور والخيلاء، الذي يظهر على بعضهم بعد المناصب وسعة الحال. خلال تولي اثنين من أعضائه رئاسة الوزراء، بدايةً بإبراهيم أشيقر الجعفري (7 أبريل 2006- 20 مايو 2006) وانتهاءً بنوري المالكي، تصاعد الإرهاب والقتل الطائفي في زمن الأول، وخرج مِن الوزراة بكتاب (أربعة مجلدات) سماه «خطاب الدولة»، مع صوره وانتصاراته وهو يحيي الجمهور، مذكراً بخطابات الأولين.
أما نوري المالكي (20 مايو 2006- 11 أغسطس 2014) فاستبشرنا به خيراً في بداية الأمر، وأتذكر أني كتبت مقالاً في هذا الخصوص تحت عنوان «بغداد.. عندما يلوح ابن الفرات بغصن الزيتون» («الشرق الأوسط»/ 5 يوليو/2006)، ودعوت فيه إلى الالتفاف حول رئيس الوزراء الجديد، آتياً بشواهد من مصالحات أموية وعباسية، لكنها شهور وتظهر المصالحة مجرد مكتب إعلامي تابع يُذيع بيانات، وبسرعة يلجأ المالكي إلى حضن العصبة الحزبية والأسرية، ويُشكل مكتبه دون أخذ أي اعتبار للخبرة فيه، وانتهت الرئاسة الأولى بنتائج مذهلة من الفساد واحتكار الوظائف.
جاءت الولاية الثانية بعد مخاض عسير، وتأخير تشكيل الوزارة لنحو عام، واستمر التدهور في أركان البلاد بأكثر مما كان، ومع ذلك يطل المالكي في كل يوم أربعاء (كلمته الأسبوعية) مادحاً إدارته، وختمها بالقول: بعدي ستفتح أبواب الجحيم! انتهت التسع سنوات، وأمسها أفضل من غدها، أخذ الناس فيها يميلون إلى تذكر الأيام الخوالي بافتقاد، فقد جعلتها سياسة المالكي النعيم المفقود، ولا تخلو آلامهم مِن الترحم عليها، وانقضت بين جعفري قدم نفسه بالمصلح والقائد (العظيم) وفولتير عصره، هذا ما جاء في كتاب «خطاب الدولة»، وزادته رسالة الأميركي الأفغاني الأصل زلماي خليل زاد عظمة عندما قالها ولم يكذبها الجعفري، فدونها في كتابه كجزء من تاريخه: «لقد كنت قائداً عظيماً، وأنا متأكد مِن أنك ستظل القائد العظيم لهذا البلد». تأملوا ضخامة الذات! أما المالكي فقد قدمته عصبته بمختار العصر، وما يعنيه ذلك من استدراج الجمهور إلى الطائفية والثأر.
لتكن تلك الحوادث من الماضيات، أو لنحسبها تحصيل حاصل، ضاع اثنا عشر عاماً بانكسارات تلو انكسارات، وانتهت فترتا الجعفري والمالكي وكل ما فيهما من تجربة مرة عاشها الشعب العراقي، استخدمت فيها عصبة الحزب والقرابة، وكأن المطلوب مِن العراقيين دفع فاتورة الجهاد أو ما خسره حزب «الدعوة الإسلامية». تخيل لو أن هذا الحزب تسلم السلطة بقوته وهمته، عبر انقلاب أو حرب عصابات مثلًا، ماذا على العراقيين تقديمه له، وكيف سيكون شكل الخُيلاء!
لتكن الفضائيات التي أنشأها الحزب، والعقارات التي هيمن عليها، والدوائر التي بث فيها أعضاءه من القدماء والجدد، وما حصل من فساد في المال العام، وفساد في القضاء، وما حصل من مصادرة المؤسسات المستقلة، وخسارة الموصل، والنكبات التي حلت على الجميع، جزءاً من حاضر هذا الحزب، ولابد من الاعتراف والمراجعة، فمَن بيده السلطة التنفيذية تحسب عليه الصغيرة والكبيرة، فها هي للمرة الثالثة توضع بيد عضو من أعضاء هذا الحزب، وعليه أن يضع كل ذلك نصب عينيه.
ما نعرفه عن رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي يبشر بومضة أمل وسط متاهة من اليأس، فهو تكنوقراط، تخرج مهندساً في جامعة التكنولوجيا ببغداد، ثم أتم دراسته العليا في الشأن نفسه بمانشستر في بريطانيا، ولم يشترك في عمل عسكري ضد الجيش العراقي في المعسكرات، التي أُنشئت بإيران للمعارضة الدينية العراقية، وفي مقدمتها «حزب الدعوة»، بما يُعرف هناك بمعسكر الصدر بالأهواز، ولعل ذلك يخفف من ضغائن الحروب ويخفف من الغلواء في العداء. كان مدنياً منفتحاً في الرأي، لين العريكة في اختلافه مع الآخرين، ويسمع أكثر مما يتكلم، هادئ الطبع متواضعاً. كان عضواً في مجلس شورى حزب «الدعوة». ولا يبدو العبادي متعصباً دينياً، أو مدعياً، وإذ انشغل المالكي بالعمل الأمني والعسكري الحزبي، والجعفري بالعمل الوعظي وإدارة الحملات إلى الحج، لحساب حسينية «المصطفى» التابعة للحزب، فالعبادي ظل في المجال المدني حريصاً على متابعة تخصصه العلمي، إضافة إلى الدراسات الدينية.
كان والد رئيس الوزراء الجديد، جواد العبادي، طبيباً معروفاً، وعيادته ببغداد في شارع الكفاح، وكان يُطبب المرضى بأجور زهيدة، ويحب العمل الخيري، وكان ضمن الأطباء الذين أقالهم النظام السابق في يوليو 1979، وكان رئيساً لمستشفى الجملة العصبية ببغداد، ومفتشاً عاماً في وزارة الصحة العراقية آنذاك. بمعنى، وإن لم يكن ذلك قياساً، فإنه يتحدر من أسرة مدنية، وقد لد ونشأ ببغداد. تلك مواصفات تبشر بالخير.
في حال أن الدكتور حيدر العبادي قد تفهم أنه رئيس وزراء العراق، لا يمثل حزباً أو منظمة أو طائفة، وتدعمه القوى السياسية، التي وقفت ضد تكليف المالكي بولاية ثالثة، ويفتح الحوار من أجل الحلول مع المناطق المشتعلة، والتي شعرت أن وجود المالكي أصبح هو المشكلة، نرجو بالعبادي حلا.